“الوظيفة الإيرانية”
أمير العمري

يعود الفيلم الوثائقي الأمريكي “الوظيفة الإيرانية” The Iran Job إلى عام 2012، لكنه لايزال شديد المعاصرة بل ولعلّه يصلح تماما للتعليق على الوضع الراهن خاصة بعد توقيع الولايات المتحدة مع إيران ذلك الاتفاق المبدئي لإنهاء نزاع استمرّ سنوات بشأن برنامج إيران النووي.
ليس من الممكن اعتبارالفيلم الذي أخرجه الأمريكي- الألماني تيل شودر فيلما من أفلام الدعاية السياسية، بل مغامرة لم يتم حسابها مسبقا، قصد منها أساسا، متابعة ماذا يمكن أن يُحقِّق لاعب كرة السلة الأمريكي الأسود كيفن شيبارد في إيران، بعد أن تعاقد معه نادي شيراز لعله ينجح في وصول النادي إلى نهائيات المسابقة الوطنية الإيرانية لكرة السلة. كان نادي شيراز يمتلك فريقا جديدا لم يسبق له خوض مباريات مهمة، وكان بالطبع يقبع في ذيل القائمة، وتسمح السلطات الرياضية في إيران للأندية الرياضية بالاستعانة بلاعبين اثنين فقط من الخارج يمكن للنادي التعاقد معهما. وقد تعاقد النادي الذي ينتمي للقطاع الخاص – أي يمتلكه أحد الممولين – مع لاعب صربي، بالإضافة إلى شيبارد الذي جاء إلى إيران وهو لا يعلم الكثيرعن هذا البلد سوى ما تبثّه قنوات التليفزيون الأمريكية في عام 2008 عندما بدأت مغامرته هناك.
وقد أتيحت من البداية لمخرج الفيلم، وهو متزوج من إيرانية – أمريكية، الفرصة لدخول إيران، ولكنه لم يكن يحمل بطاقة صحفية تسمح له بأن يحمل كاميرا ويصوِّر كما يشاء، لذلك فقد قام بالتصوير سرّا معظم الوقت. ولولا أن نادي شيراز نادٍ خاص أي غير تابع للدولة شأن معظم الأندية الإيرانية، لما تمكّن شودر من التحرُّك وتسجيل ما يشاء، ليس فقط من المباريات التي لعبها شيبارد مع الفريق، بل والالتقاء بلاعبي الفريق والتجول أيضا بحرية داخل النادي.
من الخاص إلى العام
غير أن الأمر لم يتوقف عند الجانب الرياضي، بل يتابع الفيلم الجانب الشخصي في حياة شيبارد، الذي ترك خطيبته في أمريكا وأصبحت صلته بها مستمرة فقط عبر شبكة اتصالات سكايب. ويتابع المخرج إقامة شيبارد في مسكن ضمن بناية يقيم فيها عدد من لاعبي الفريق الإيرانيين. وعندما يصاب شيبارد في قدمه، ويذهب إلى مركز طبي لإجراء بعض الفحوص يلتقي هناك بفتاة من العاملات في حقل العلاج الطبيعي ترتبط بصداقة معه ثم تزوره في مسكنه مع فتاتين أخريتين، وهو أمر محفوف بالمخاطر في إيران. ويقول المخرج إنه لم يعلم بأمر هذه الزيارة مسبقا وأنه فوجيء تماما وكان عليه أن يحمل الكاميرا بنفسه ويصور اللقاء الغريب.
الفتيات الثلاث الإيرانيات سيصبحن بطريق المصادفة فقط، مادة شديدة الثراء في الفيلم، سواء من خلال حديثهن عن القيود المفروضة في إيران على المرأة، أو التطرُّق إلى طبيعة العلاقات بين الجنسين وما يمكن أن تتعرض له الفتيات من مضايقات أثناء قيادة السيارة، كما يتحدثن عن تطلعاتهن لبلادهن وما إذا كانوا راضين على الأوضاع السائدة.
ولكن الأمور تمضي، ويمضي التصوير بشكل سرِّي، لنتابع من خلال ذلك المونتاج الذي يخلق تداخل بين القصص الشخصية للأفراد، وما يُحقِّقه شيبارد من انتصارات لفريقه، وكيف يشحذ همم زملائه من أفراد الفريق رغم ضعف التواصل بسبب غياب لغة مشتركة بينه وبينهم، وكيف يصعد فريق شيراز إلى القمة في أول حدث من نوعه بالنسبة لفريق جديد.

هناك الكثير من المشاهد التي يصوِّرها المخرج لشيبارد في جولاته خارج النادي والسكن، في شوارع شيراز، وداخل البازار القديم، وكيف يلقى ترحيب الأهالي كونه ينتمي للأمريكيين الأفارقة، كما يربط الفيلم بين وجوده في إيران وبين انتخاب الرئيس أوباما في أمريكا، ويرصد رد فعل الإيرانيين على انتخاب أول رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة. وكان لابد بطبيعة الحال وبحكم التزامن، أن يرصد الفيلم أيضا أجواء حملة الانتخابات الرئاسية في إيران بين المرشح المعتدل حسين موسوي، والرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وكيف كانت جميع التوقعات تشير إلى الفوز المحتم لموسوي، وكيف كانت جبهة موسوي مدعومة من جانب النساء الإيرانيات اللاتي كن يتطلعن إلى نوع من التغيير. ولكن جاءت نتائج الانتخابات كما هو معروف بفوز نجاد الذي اعتبرته المعارضة تزويرا مما أدّى إلى اندلاع الاشتباكات التي يصوِّر المخرج بعضها كما يستخدم الكثير من لقطات الأرشيف للصدامات الدامية التي وقعت.
تلقائية شيبارد
يروي شيبارد بصوته ويعلق على الأحداث ويتوقف ليناقش ويسأل ويمزح ويلعب أحيانا دور المراسل الصحفي واعيا بوجود الكاميرا، لكنه لا يفقد أبدا تعبيره بتلقائية شديدة، خاصة عندما يرغب في الحصول على شجرة من تلك التي يستخدمها الغربيون للاحتفال بأعياد الميلاد، إلى أن يتمكن بالفعل من اقتناء واحدة تشبه تلك الاشجار المعروفة، وسط دهشة الكثير من الإيرانيين الذين يتساءلون عن طبيعة المناسبة، وماذا تعني تلك الشجرة تحديدا.
وربما يكون من عيوب الفيلم تفرّعه في الكثير من القصص الشخصية خاصة ما يتعلق بعلاقة أحد أفراد الفريق بخطيبته، وكيف يكتشف أنها تركته كي تستعد للزواج من شخص آخر يعرفه، وهو نفسه الذي يبلغه بأنها لم تعد تحبه، وما يُسبِّبه له ذلك من إحباط، لكنه يتماسك، خاصة وأن أمامه مباراة صعبة مع فريق منافس.
كذلك يركز المخرج كثيرا على شخصية الفتاة “إيلاها” التي كانت تريد أن تصبح ممثلة سينمائية لكن والدها لا يسمح لها بذلك، وهي تشارك في المظاهرات، وتوجِّه الكثير من الانتقادات هي وزميلتها “ليلاه” للنظام السياسي في إيران، وتدعو شيبارد وزميله الصربي إلى منزل الأسرة في حضور والديها، ثم تتجول مع شيبارد في شوارع المدينة ليلا لمشاهدة احتفالات الإيرانيين بذكرى استشهاد الإمام الحسين، وربما يكون هذا المشهد تحديدا من أفضل مشاهد الفيلم ليس فقط لطبيعته الأخاذة وصوره الجريئة، حيث نشاهد الشاب والفتاة يتجولان على خلفية الزحام الشديد في الشوارع بينما يمارس الإيرانيون طقوسهم المعروفة في تلك المناسبة، ولكن بسبب طبيعة الحوار الكاشف الذي يدور بينهما.

فشيبارد يقول إنه يدرك أن هذا نوع من “العزاء” أي تذكُّر الموت، ويتساءل لماذا لا يتم تذكر الشهيد بما كان يفعله من أعمال طيبة وما له من مواقف عظيمة، بدلا من تذكر موته والتوقف عنده؟ الفتاة بالطبع لا يمكنها الإجابة، لكنها تعود لتؤكد أن تلك هي التقاليد التي يعرفونها، فيقول لها إنه لا يحب الاحتفال بالموت، بل بالحياة، وإنه يفضل تذكر الميت من خلال حياته وليس موته. وهو حوار تلقائي يكشف ذلك الاختلاف الكبير بين الثقافتين.
فيلم متوازن
يتميز الفيلم بالتوازن في الانتقال من عالم كرة السلة في إيران، وصعود فريق شيراز بل وتغلُّبه على بطل العام السابق في المباراة النهائية، وبين تأمل شيبارد لذلك العالم الذي وجد نفسه داخله ورصد ردود فعله.
صحيح أنه تمكن من إقامة الكثير من علاقات الود والصداقة مع زملائه والمشرفين على النادي بل ومع أناس عاديين في الأسواق، لكن الواقع الإيراني يظل بالنسبة له غريبا فيه الكثير من الممنوعات والمحاذير، منها أنه يتعرّض للكثير من اللوم من مدير الفريق بعد أن فقد أعصابه في إحدى المباريات وركل بقدمه وعاء من الصفيح كان موضوعا خارج الملعب تعبيرا عن الغضب، وهو ما اعتُبر خروجا على قواعد الأخلاق الرياضية خاصة وقد نقلت كاميرات التليفزيون ما حدث إلى ملايين المشاهدين كما قيل له، وكان يتعين عليه بالتالي الاعتذار والتعهُّد بعدم تكرار ذلك.
يتجول المخرج بالكاميرا مع شيبارد أثناء زيارته للعاصمة القديمة التاريخية لبلاد الفرس “برسيبوليس”، كما يستخدم الكثير من رسوم الجرافيكس في بيان موقف الفرق المختلفة في دوري كرة السلة الإيراني، وتغيُّر تلك المواقف في ضوء ما يُحقِّقه فريق شيراز من انتصارات، وفي نهاية الفيلم نشاهد معلومات مكتوبة تظهر على شاشة سوداء تقول لنا إن شيبارد عاد إلى أمريكا وتزوج خطيبته وأنهما أنجبا طفلة (نشاهد صورته وهو يحملها)، وأن إيلاها غادرت شيراز لتقيم في طهران، وأن زميلتها اعتُقلت مرات عدة بعد أن انضمّت لحركة المعارضة وشاركت في مظاهرات عدة، وأن الفتاة الثالثة مازالت تعمل في مركز العلاج الطبيعي.
لا شك أن فيلم “الوظيفة الإيرانية” تجربة سينمائية متميزة في مجال الفيلم الوثائقي الذي يتابع شخصية ما ومن خلالها يكشف الكثير من تناقض المواقف والسياسات والاعتبارات. صحيح أن الايرانيين الذين يتحدثون في الفيلم بعد انتخاب أوباما، يبدون الكثير من التفاؤل بحدوث تغيير درامي مشابه في بلادهم، وهو ما لم يحدث في انتخابات 2009، لكن من يدري!