لغز القسّ الأمريكي
محمد موسى

حَجَزَ المخرج الأمريكي “جيسي موس” الدقائق الثلاث الأخيرة من زمن فيلمه التسجيلي “ذي اوفرنايترز” The Overnighters والذي يقترب طوله من المئة دقيقة، للمشهد الكاشف المهم الذي تبوح فيه شخصية الفيلم الرئيسية لما يُمكن اعتباره سرّها الأكبر والأشد حراجة والذي اجتهدت سنوات طويلة لإبقائه مدفوناً.
تُفسِّر التفاصيل التي ترد على لسان الشخصية تلك، بعضا من تصرفاتها وسلوكها الذي شابه الغرابة في مواضع من الفيلم، وتُعين المشاهد على الاقتراب من فهم دوافعها. لكن الاعتراف الذي جاء متأخراً، سيجعل بعض ما فات من وقت الفيلم يبدو زائداً، أو كان من الممكن مُعالجته بأسلوب مختلف، وحتى حذفه من النسخة النهائية التي وصلت إلى الجمهور.
يخلق موقع مشاهد الاعتراف في الفيلم إرباكاً ليس غريباً عن السينما التوثيقية، كما يطرح مجدداً أسئلة عن بناء الفيلم التسجيلي وعن موقع دقائق الكشف المفصلية في السينما هذه. والفروقات بين ترتيب ما يختاره المخرج لمشاهد بهذه الجسامة، وما كان يجب أن يصل مبكراً للجمهور، وإذا يُمكن التلاعب بأهواء الجمهور على هذا النحو؟ فإذا فرضنا أن المخرج جيسي موس وصل إلى اعتراف شخصيته ضمن تسلسل زمني قريب من ذلك الذي ظهر في الفيلم، فلماذا اختار تقديمه في دقائق الفيلم الختامية، ولم يضعه في المقدمة مثلاً؟ ولماذا لم ينطلق من الحقيقة التي تضمنها الاعتراف نحو مزيداً من التحقيق والمُساءَلة، سواء للشخصية الرئيسية أو للشخصيات الأخرى؟

هذه أسئلة تقود سريعاً إلى مفاهيم الفيلم التسجيلي ومدارسه، وإلى أي حدود يمكن اعتبار الفيلم التوثيقي نقلاً حرفياً لأحداث الواقع، حيث تكون تدخلّات المخرجين في البناء العام محدودة للغاية، أو أن الأفلام التسجيلية يجب أن تخضع وتمرّ عبر مُعالجات درامية معقدة، يتم التلاعب فيها أحياناً بالوقائع الزمنية لحساب الإثارة السردية، ويُغضّ النظر عن بعض التفاصيل المهمة حفاظاً على المسّار الذي اعتبره المخرج الأصلح لتقديم حكايته.
تستحوذ الشخصية الرئيسية (القسّ جاي رينكه) على معظم وقت الفيلم، حتى يكاد أن يظهر في كل كادر من كادراته. هو قسّ كنيسة صغيرة في مدينة ويليستون في ولاية “نورث داكوتا” الأمريكية، والتي، وبسبب ثرائها المفاجيء العائد للصناعة النفطية الناشئة حديثاً على أرضها وأزمة الإقتصاد الأمريكي في العقد الأخير، وجدت نفسها مركزاً لهجرة أمريكيين من كل مكان في الولايات المتحدة من الباحثين عن العمل. البعض من هؤلاء العمال، والذين وصل أغلبهم دون تخطيط، سيجد نفسه سريعاً بدون عمل ومنزل، لتتحول الكنيسة إلى مسكن مؤقت لهؤلاء المهاجرين، الغير مُرحّب بهم دائماً من سكان المدينة الصغيرة. هكذا يجد القسّ وأتباع كنيسته أنفسهم وسط صراع معروف يكاد يكون أزلياً وفطرياً، بين أنصار الحفاظ على الهوية المحلية ضد الدخلاء من الخارج، وإن كان هذا الصراع يختلف عما يجري في أمكنة عديدة في العالم، إذ أن الدخلاء في أغلبهم هم أمريكيين بيض لا يختلفون عرقياً عن ساكني أبناء الولاية الغنية.
يُظهر تعاقب الفصول في الفيلم، أن المخرج قضى زمناً طويلاً بين الشخصيات وفي المدينة لتقديم هذه القصة بالشكل المُفصل الذي قُدمت به. هناك اهتماماً بأوجه الحكاية المقدمة المتنوعة، والتي سيكون عنوانها الأبرز “الهجرة”، وبعناونين فرعية لا تقل أهمية، منها: الخوف من الغريب، والعقلية الدينية وسقوطها أحياناً أمام اختبارات الحياة الفعلية.

فالمعركة الأهم التي كان يقودها القسّ لإبقاء كنيسته مفتوحة للغرباء للمبيت فيها، كانت ضد أعضاء الكنيسة ذاتها، والذين عارضوا قراره باستقبال هؤلاء الغرباء. ففي أحد مشاهد الفيلم المؤثرة يشير القسّ إلى صور أعضاء الكنيسة المعلقّة على أحد جدران مكتبه، مُركزّاً بحزن على الذين تركوا الكنيسة بسبب ما اعتبروه تصرفاً غير مسؤول من القسّ باستضافة رجال لم يحترموا قدسية المكان. يغوص الفيلم في هذه التفصيلة بالذات عندما يقابل أعضاء غاضبين من الكنيسة ليشرحوا أسباب اعتراضهم على خطوة كنيستهم.
إلى جانب مشاكله مع أعضاء كنيسته، يواجه القسّ جاي رينكه صعوبات أخرى مع بلدية المدينة، والتي أطلقت قانوناً يمنع مبيت العمال الغرباء في عرباتهم بمواقف السيارات، وكانت تستعد لتشريع قانون آخر يوقف استضافة الكنيسة لهم. هناك أيضاً الإعلام الشعبي والذي سيُهيِّج بعاطفية الرأي العام بعد عدة حوادث يُعتقد أن العمال من خارج المدينة يقفون ورائها.
لكن المشكلة الأعقد التي ستواجه القسّ، هو قراره باستضافة مُتهم سابق بجريمة جنسية في بيته الخاص وبين عائلته، وهي القصة التي ستتطور لكابوس للقسّ والذين يقفون معه.
هذه القضية بالذات، سيكون لها علاقة بما يدور في حياة القسّ، والذي يفصح موقفه المتشدد في الدفاع عن المحكوم السابق، بأنها مُستلة من تجارب حياتيه مُعقدة ومفهومه للصفح والخطيئة.
الأمر اللآفت في هذا الفيلم، هو الحرية الكبيرة التي بدا أن المخرج كان يتنقل بها بين الشخصيات العديدة التي ظهرت في الفيلم. هو بهذا يستعيد تقاليد لأفلام تسجيلية أُنتجت في أزمان سبقت الثورة التكنولوجية التي نعيشها، عندما كان من يحمل الكاميرا، يحظى بسطوة كبيرة. تفتح أمامه الأبواب المغلقة، ولا يجد صعوبة في الوصول إلى ما يريد من المواقع والشخصيات. ولعل الأمر الذي كان يبدو غامضاً، وجاءت النهاية (التي لا يريد هذا المقال الإفصاح عنها احتراماً لخطة المخرج الذي جعلها تأتي في النهاية وللقراء الذين ربما سيشاهدون الفيلم)، هو العلاقات المعقدة بين القسّ وبعض الرجال الذين كانوا يعيشون في الكنيسة، وكيف هاجموا هؤلاء القسّ بقسوة ووصفوه بالمنافق دون أن يمنحوا تفسيرات عن أسباب غضبهم.
بالإضافة إلى الإخراج، قام جيسي موس وحده بإنتاج وتصوير الفيلم. هذا من شأنه أن يمنح العمل حميمة تفتقدها الأعمال التسجيلية التي تقف خلفها فرق تصوير ضخمة. تهب شخصيات عديدة في المدينة ثقتها الكبيرة للمخرج، وتتحدث له أو أمامه دون تردد أو محافظة. يتصدر هذه الشخصيات بالطبع القسّ جاي رينكه، الذي كان اقتراب الكاميرا منه على ذلك النحو، على الأرجح، أحد الأسباب التي جعلته يكشف عن تفاصيل أخفاها عن الآخرين لعقود طويلة. فمخرجوا الأعمال التسجيلية الذين لا نراهم في الغالب، هم جزء أساسي من تفاعل غير مرئي لنا نحن المشاهدون، يقود أحياناً إلى لحظات كشف شديدة الأهمية والعاطفية.