“ألعاب الجوع”: خيال أوقع من واقعنا
قراءة كتاب ألعاب الجوع (The Hunger Games) كان تجربة مؤلمة رغم التشويق. ذلك لأنّ الخيال عند الغرب هو الواقع عند العرب. القصة، التي جسدت وقائعها في ثلاثة أفلام معروضة ورابع تستضيفه دور العرض خلال شهرين، تدور حول دولة مفترضة قامت بعد دمار أمريكا الشمالية وتسمى “بانيم”. يحكمها ديكتاتور يطحن الشعب في الفقر والجوع والكل خدم عنده بينما يعيش هو في العاصمة أو مقاطعة الرفاهيّة. فالدولة تنقسم إلى ثلاث عشرة مقاطعة، كل منها مسؤولة عن توريد إحدى السلع أو الخدمات للعاصمة. فمقاطعة رقم 2 تتولى أدوات البناء، ومقاطعة رقم 3 تتولى التكنولوجيا، ومقاطعة 4 تتولى الصيد، أمّا أبطال القصة وهم “كاتنيس إفردين”، “بيتا ميلارك”، و”جيل هاوثورن” فهم من المقاطعة رقم 12 المورِّدة للفحم.
المقاطعة الـ13
المقاطعة الثالثة عشرة كانت مسؤولة عن الطاقة النووية ولشعورها بالقوة، تزعمت ثورة منذ سنين ضد الحكم الطاغي قامت على إثرها حرب داخلية مات فيها عشرات الآلاف من الثوار ومحيت المقاطعة بالكامل من على سطح الأرض وبقيت الحكومة أعتى مما سبق. ولكي لا تجرؤ الرعيّة على الثورة مرة أخرى فقد استحدثت الرئاسة احتفالًا سنويًا تُذكِّر الشعب فيه بعواقب الثورة على الحاكم. يتم فيه السحب لاختيار صبيّ وفتاة من كل مقاطعة، يتنافسون جميعًا في ألعاب الجوع فيقتل بعضهم بعضًا حتى يتبقى فائز واحد لا يُسمح بغيره وبعدها يحصل على مرتب ضخم من الحكومة ويوفر له مسكن وثير، ثمّ تجد له الدولة نقطة ضعف تساومه بها كيّ يخدم مصالحها مدى الحياة.
أبطال القصة
“كاتنيس إفاردين” والتي لعبت دورها جنيفر لورانس، كانت من ضحايا النظام. فقد مات والدها وهي في الحادية عشر من عمرها في حادثة انفجار في منجم الفحم تاركًا زوجته مع طفلتيه، كاتنيس وبريم روز. أصيبت الأم بالاكتئاب فاضطرت كاتنيس للخروج لتوفير الطعام لأختها وأمها. وفي يوم أهلكها الجوع واليأس والمطر الكثيف وكادت تعود خاوية إلا أنّ بيتا ميلارك (جوش هاتشيرسون) ابن الخبّاز أحرق بعض الخبز عمدًا متحمِّلًا عقاب أمه حتى يخرج به بحجة إلقائه إلى الخنازير. لكنّه ألقاه إلى كاتنيس ودخل على عجل. أمّا كاتنيس ففي اليوم التالي فكرّت في الخروج عن أسوار المقاطعة متحدية التحذير بالسور المكهرب فهي تعلم أنّه مفصول.
في الغابة قابلت جيل هاوثورن (ليّام هيمسوورث) الذي مات والده في نفس الحادثة مع والدها. ومن يومها اصطادا معًا وباعا الفائض لشراء باقي الاحتياجات لعائلتيهما. بين الفقر والتهديد المستمر بالموت جوعًا والخوف من اختيار اسمها في ألعاب الجوع، لم يخطر ببال كاتنيس أن تثور. بل كان شغلها الشاغل هو الحفاظ على حياة أختها الصغرى أولًا ثم حياتها ووالدتها. لكنّ الثورة أحيانًا هي التي تختار أبطالها دون قصد منهم لذا حين اختير اسم شقيقتها الصغرى في الألعاب لم تتمكّن كاتنيس إلا من التطوّع مكانها. هذه التضحية الفريدة حفرت بدقة مكانة لها في قلوب المتابعين.
في الطريق إلى العاصمة حيث تقام الألعاب، يظهر بطل رابع وهو هيميتش (وودي هاريلسون)، الفائز الحيّ الأوحد من المقاطعة الثانية عشر. عرفت المقاطعة الفقيرة فائزين، مات أحدهما وبقيّ هيميتش السكّير الذي ينطق بالحقيقة دون مجاملات إذا أمن عدم وصولها للحكومة. ولهذا فنجده يصطدم بإيفي ترينكيت (إليزابيث بانكس) ممثلة الحكومة في المقاطعة الثانية عشرة والتي تصحب الأبطال في كل الخطوات وهي كالإسفنج تمتص ما تلقيه الحكومة عليها من أوامر وتصدق ما يريدونها تصديقه، وتخاف مما يريدونها أن تخافه. أي نموذج للمواطن المثالي الذي يفخر به أيّ حاكم ظالم.
اختيار الممثلين
جانيفر لورانس التي قامت بدور كاتنيس إفاردين تختلف عمّا رسمت الكاتبة سوزان كولينز تمامًا من حيث الشكل. فمن يقرأ الكتاب يتوقع فتاة نحيفة وقصيرة في السادسة عشرة من عمرها أمّا لورانس فهي طويلة وعريضة ولا يبدو عليها قلة الغذاء أو أنّها تستطيع تسلُّق الأشجار بخفة كما وصفتها الكاتبة. كذلك فإنّ صوتها عاديّ جدًا وليس كما جاء بالكتاب تصمت الطيور للاستماع له. تخطِّي اختلاف الصفات الشكليّة لجانيفر عن كاتنيس يسهل على من بدأ بالمشاهدة أمّا من بدأ بقراءة الكتاب أولًا فسيجد أنّ تقبلها ليس بهذه السلاسة.
فيما عدا ذلك فإنّ لورانس قدمت شخصية ليس لديها وقت للبكاء لكنّها تحمل الكثير من العواطف. صلبة لكن حنونة على شقيقتها. غير متسامحة لكنّها عادلة. تريد الفوز لكن تتجنب القتل وهو عكس هدف ألعاب الجوع التي تكون بين أبناء من سن الثانية عشرة إلى الثامنة عشرة ويشاهد تقاتلهم الجميع في شاشات الميادين العامة. الفائز ينتقل من الفقر إلى الغنى فيحصل على بيت مريح وعلى مرتب ضخم مدى الحياة. لذا فإنّ في القطاع الأول والثاني بعض الأهالي يُدرِّبون أولادهم ليتطوعوا على الرغم من أن القانون لا يسمح بتدريب مسبق، لكن الكثير يمرّ في بانيم خاصة للأغنياء.
جوش هاتشينسون أو بيتا ميلارك قد أجاد دوره أيضًا لكنّ شخصيته بعيدة عن التعقيد لذا فإن مهاراته كممثل لم تختبر بشكل كاف في هذا الدور وكذلك جيل هاوثورن. القاسم المشترك بين الممثلين الثلاثة هو أنّهم يمثلون شخصيات بين السادسة عشرة والثامنة عشرة إلا أنّهم في الحقيقة في العشرينيات ويبدو هذا بوضوح في ملامحهم.
وودي هاريلسون أبدع وتخطّى الجميع في آداء دوره، فقد جسده أفضل مما جاء في الكتاب مع أنّه قدّم شخصية مركبة تعرف الحقيقة وتستسلم لها تمامًا أمام الحكومة بينما تخطط لإسقاطها في السر. تتغير ملامحه في ثانية. يهاجم وهو مبتسم ويساند وهو متجهم. سخريته لاذعة تخرج بسلاسة وفي أوقات غير متوقعة. لكن لم يكن هاريلسون ليبدع لولا رسم كولينز لشخصيته ببراعة.
الحاكم والإعلام
تفنّنت الكاتبة في نقل العلاقة الوثيقة بين الحاكم والإعلام. فبينما يعلم الجميع ويعلن الرئيس أنّ هذه الألعاب تذكرة للجميع أنّه لا أحد يفوق قوة الحكومة فمصمم الألعاب بملابسه الأنيقة اللامعة ومعه المذيع الخبير يقدمانها للناس على أنّها رمز لوحدة الشعب وأنّها الوسيلة التي تُمكنِّهم من الاستشفاء من آثار أيام الثورة البشعة.
انصبّ كثير من تركيز الحوارات على خلق صور أمام الإعلام، فلكي يفوز متسابق يحتاج إلى تبرعات عينية في صورة ماء أو كبريت أو دواء وهو في أضعف لحظاته في الألعاب. هذه التبرعات لا تأتي إلا من الجمهور وبهذا فإنّ خطة الفوز استندت إلى خلق صورة إعلامية محبّبة لدى الجمهور تعتمد على اختيار الملابس المبهرة والإجابات السلسة البارعة وكاتنيس أبعد ما يكون عن المظاهر لكن الإعلام يستحق التضحية فهو يُستخدم للوصول للمشاهدين ولإرضاء الحاكم ولا مكان فيه للشكوى من أحوال البلاد.
بين الكتاب والفيلم
توقفت مرارًا وأنا أقرا الكتاب لأسترجع لحظات ومواقف من الثورات العربية ولم أملك إلا ملاحظة المقاربة بين أحلام ثوار بانيم والثوار العرب لكنّ هذه المقاربة ليست بنفس الترسيخ في الفيلم. فالكتاب يحتوي على كثير من المشاهد العنيفة والدماء والميتات البشعة التي إن نُقلت كما هي سيتغير تقييم الفيلم من PG13 إلى R وهذا التحديد وإن كان أقرب لما يحدث من عنف في الواقع إلا أنّه سيؤثر سلبًا على حجم المشاهدة وبالتالي على مكاسب الفيلم لذا خُفّفت تفاصيل العنف.
في رأيي أنّ الكتاب فاق الفيلم من حيث الجودة، فهو مرويّ على لسان البطلة ونقل ذلك للشاشة يدع المشاعر والصراعات الداخلية التي تعلي من قيمة الشخوص وتعتمد أكثر مما ينبغي على قدرة المشاهد التحليلية. الكتاب أعطى أبعادًا لشخصية كاتنيس حين نقلت للشاشة، لم يكن في وسع المخرج إلا أن يختزلها في مواقفها ولغة الجسد وتعبيرات الوجه وهذا جيد لكن تركني بفوارغ ملأتها من الكتاب.
الإضاءة
لتوضيح التباين بين مواطني بانيم، استخدم المخرج إضاءة مبهرة وملابس زاهية لتصوير العاصمة بينما عمد إلى إضاءة خافتة تنقل مشاعر القهر والكآبة المخيمة على المقاطعات التابعة. حتى ملابس الفقراء كانت باهتة وحين أتت إيفي ترينكيت ممثلة الحكومة إلى المقاطعة 12، بدت كصورة ملونة في كتاب أبيض وأسود..نشاز غير متناسقة مع البيئة المحيطة.
الحوار
كتب الحوار للفيلم ثلاثة هم كولينز نفسها والمخرج روس وبيلي ريي، واجتماعهم كان في صالح الحوار فبكلمات قليلة تصل الكثير من المعاني. من أقوى الأمثلة على ذلك حوار الرئيس سنووّ مع مصمم ألعاب الجوع باختصار: سأل الرئيس: “لماذا نتخذ فائزًا؟ لماذا لا نعدمهم جميعًا؟ أليس هذا أسرع؟”
بدا على المصمم عدم الفهم فأكمل الرئيس: “أهو الأمل.”
وحين لم يفهم أيضًا أفهمه الرئيس: “الأمل هو الشيء الوحيد الأقوى من الخوف. قليل من الأمل مؤثر. كثير من الأمل خطر.”
هذه الاستراتيجية العبقرية محاكاة نماذجها العربية كثيرة:
“مشروع سيسدد الديون ويعود على الفقراء بالنفع، وحدات سكنية بأسعار مخفضة، توفير فرص عمل للشباب، خلال سنين سنصبح أغنى دولة في العالم، فتح القدس سيكون على يد رئيسنا …الخ
أحلام تملأ النفوس بالأمل حتى إذا اقترب موعد تنفيذها وبان خواؤها ظهر الإعلام بالأمل التالي وما هي إلا مسكنات حتى تستمر الشعوب في الطاعة العمياء بجرعات محسوبة من الأمل فلا يصلون إلى يأس ولا إلى ثورة.