“إسكوبار” .. الفردوس المفقود
أمير العمري
لم يكن “بابلو إسكوبار” يتجاوز الرابعة والأربعين من عمره عندما قُتل في تبادل لإطلاق النار مع رجال الشرطة في كولومبيا عام 1994. ولكنه كان قد تمكّن خلال سنوات محدودة، من الصعود في عالم تجارة الكوكايين، إلى أن أصبح أحد أكثر المجرمين ثراء في تاريخ الإجرام في العالم، بثروة بلغت أكثر من 60 مليار دولار.
كان إسكوبار يقطن مدينة مييلين، ثاني أكبر مدن كولومبيا، حيث أسّس هناك عصابته الإجرامية التي جعلت المدينة في وقت ما، تصبح ساحة لحرب مفتوحة مع السلطات منذ أواخر الثمانينات، إلى حين أن يلقى إسكوبار، الذي كان يتمتع بكاريزما خاصة، مصرعه، وتفاوتت الروايات بشأن مقتله، فأصرّ البعض على أنه لم يُقتل، بل فضّل أن يموت بإطلاق رصاصة على رأسه بعدما وجد أنه قد أصبح مُحاصرا من قبل رجال الشرطة.
مسار الفيلم
على العكس مما قد يرى البعض، أعتقد أن من أهم ما يميز الفيلم الجديد “إسكوبار: الفردوس المفقود”، وهو أول فيلم من إخراج الممثل الإيطالي “أندريا دي ستيفانو”، أن كاتب السيناريو- وهو نفسه المخرج – يختار من البداية الابتعاد عن سرد قصة حياة إسكوبار أي صنع فيلم من أفلام السيرة الشخصية، مُركزّا على الفترة التي شهدت تدهور عصابته، إلى أن اضطر لعقد اتفاق مع الحكومة عام 1991 على أن يُسلِّم نفسه ويتخلى عن نشاطه الإجرامي، مقابل الحصول على حكم مخفّف، شريطة أن يقضي العقوبة داخل “سجن خاص” شُيِّد لتلبية رغباته واحتياجاته الشخصية، وليس على غرار السجون الحكومية السيئة السمعة. ومع دخول إسكوبار هذا السجن “اللطيف” ينتهي الفيلم، لكن ما حدث في الواقع بعد ذلك، أن الاتفاق سقط بعد أن استمر اسكوبار في ممارسة نشاطه الإجرامي من داخل السجن، فنُقل إلى سجن عمومي حيث تمكّن من الهرب ليعيد تجميع أوصال عصابته والدخول في معارك دموية راح ضحيتها الكثير من الأفراد من كلا الطرفين إلى أن لقي مصرعه.
إسكوبار شخصية أسطورية، يُنظر إليه في بلاده حتى يومنا هذا، باعتباره بطلا، مخلصا، شجاعا، حكيما، والأهم، نصيرا للفقراء، مثل “روبن هود”، فهو كان يُخصِّص قسطا لا بأس به من أموال المخدرات، لتمويل الجمعيات الخيرية، والمساهمة في بناء المدارس والمستشفيات وملاجيء الأيتام والكنائس، كما كان يعول الكثير من الأسر الفقيرة في المناطق الفقيرة من البلاد.
الفيلم الجديد يصوِّر ببراعة كل هذه الجوانب في شخصية إسكوبار، ويُسلِّط الضوء على علاقته بأهالي بلدته، من خلال كاميرا تتمتع بالحيوية، وإعادة تصميم للمشاهد بحيث تضاهي الواقع، في مشاهد لا تُنسى بألوانها الدافئة وتكويناتها الموحية وموسيقاها البديعة، ويُصوِّر كيف كانت الحشود البشرية من الفقراء الكولومبيين تستقبل إسكوبار كما لو كان هو المسيح المخلِّص، إلا أننا لسنا أمام فيلم من أفلام السيرة الشخصية، فهو ينفذ إلى تناول شخصية إسكوبار، من خلال شخصية مبتكرة – خيالية، لشاب كندي يدعى “نيكولاس”- أو “نيك”- يحضر مع شقيقه وزوجة شقيقه وطفلهما إلى تلك المنطقة الساحرة المطلة على المحيط مباشرة، بحثا عن الفردوس، حيث يؤسِّس مدرسة لتعليم الانزلاق على الماء بمساعدة شقيقه، ويتخذون من الغابة القريبة مكانا لإقامة مخيم يقطنون فيه.
هذا الكندي المسالم وشقيقه سرعان ما يتعرضّان لابتزاز مجموعة من الأشقياء من شباب بلدة مجاورة يتزعمهم شاب عدواني شرير يطالبهم بدفع مقابل استخدام الغابة التي يزعم أنها ملكا له، ثم يطلق كلبه المتوحش لينهش ذراع “نيك”. ولكن يكفي أن يقص نيك هذه القصة على إسكوبار الذي يلمح آثار نهش الكلب ذراعه، لكي ينتهي الأمر كما سنعرف بعد ذلك، بشنق مجموعة الأشقياء وتركهم مُعلقِّين فوق أشجار الغابة. ولعل في هذا ما يذكرنا على نحو ما بـ “الأب الروحي” لكوبولا الذي لن يغيب عن بالنا خصوصا ونحن نشاهد أداء الممثل العملاق بنسيو ديلتورو!
يبدأ الفيلم من منتصف الأحداث ثم ينحني في “فلاش باك” أو عودة للوراء لكي نشاهد القصة من بداية وصول “نيك” وجماعته، لكي نرتدّ بعد ذلك لمتابعة ما يحدث في النصف الثاني من الفيلم من النقطة التي توقفنا عندها. هذا الأسلوب في الحقيقية يقسم الفيلم إلى قسمين متباينين تماما في الأسلوب، ففي النصف الأول نحن أمام دراما عاطفية رومانسية فيها من الغموض بقدر ما فيها من السحر، سحر شخصية إسكوبار البطريركية، أما في النصف الثاني، فيتحول الفيلم إلى أسلوب أفلام الإثارة والمطاردات والحركة والعنف، ويصبح الصراع منحصرا بين نيك من ناحية، وإسكوبار من ناحية أخرى، على شاكلة الصراع بين ديفيد وغوليات!
الوقوع في الحب
يتعرف نيك على ماريا وهي ابنة شقيقة إسكوبار، ثم تتوثق علاقتهما وتتحول إلى غرام مشتعل إلى أن تتم خطوبتهما رغم علم نيك بأن خال الفتاة ليس أقل من إسكوبار المخيف نفسه. لكن إسكوبار الذي نشاهده في النصف الأول من الفيلم رجل رقيق، مُحبّ للأطفال، يشاركهم لعب الكرة في الشارع، عطوف على الفقراء، يجلس أمام التلفزيون يشاهد مباريات الكرة وينفعل مع مجريات اللعب، يمارس هوايته في التصوير الفوتوغرافي، يتعامل برقة ودفء كبيرين مع “نيك”، يساعده بمنحه المال، وعندما يتساءل نيك عن مصدر ثروة الرجل، تخبره ماريا أن مصدرها تجارة “الكوكايين” وأن هذا أمر لا ينبغي الحديث فيه. ورغم ذلك لا يمكن لنيك أن يتخلّص من ولعه العاطفي بماريا، وهو الولع الذي سيبقى حتى النهاية وسيقوده إلى سلسلة من المتاعب.
إسكوبار الذي يستعدّ لتسليم نفسه للسلطات يريد الآن إخفاء ما يملك من مجوهرات وأموال بعيدا عن العيون إلى أن يخرج من السجن، وهو يستدعي نيك ويطلب منه نقل صناديق تحتوي على هذه الأشياء الثمينة ودفنها داخل كهف بالجبل بمساعدة مرشد من أهل قرية صغيرة قريبة من مكان الكهف، يعطيه مسدسا ويطلب منه قتل المرشد بعد الانتهاء من العملية.
لكن الأمور لا تسير كما كان مخططا لها، فالمرشد يصاب في حادث ويرسل بدلا منه ابنه الشاب المراهق الذي يقود نيك إلى الكهف حيث تتم العملية، لكن نيك لا يمكنه أن يتحول إلى قاتل، بل يصرّ على توصيل الشاب إلى منزله في القرية ويُحرّضه على المغادرة مع أسرته لأن حياته في خطر، ثم يكتشف أنه مراقب من رجال إسكوبار وأن المطلوب أيضا التخلص منه هو نفسه، فإسكوبار لا يثق في الغرباء ولا يمكنه أن يترك خيوطا سائبة وراءه. هنا يتحول الفيلم إلى أسلوب أفلام المطاردة التي تستمر حتى النهاية، حيث تستيقظ الغريزة الفطرية في الدفاع عن النفس عند نيك، فيمارس القتل ويتحدى رجال إسكوبار ويتمكن من الإفلات لكن الأحداث تنتهي نهياة مأساوية، فيُقتل شقيق نيك وزوجته وولده، ثم تُقتل ماريا كما يفقد نيك حياته بعد أن يكون قد كلف إسكوبار خيرة رجاله.
التماثل مع البطل
الفيلم بلا شك مصنوع ببراعة، خاصة في تنفيذ مشاهد الحركة والمطاردة والعنف، كما أنه يمتلك القدرة على شدّ المتفرج عن طريق جعله يتماثل مع شخصية نيك، وهو نموذج نقيض البطل، الكندي المسالم القادم من الخارج إلى تلك المنطقة الخطرة من العالم حيث يتصور مع شقيقه، أنهما قد عثرا على الفردوس لكنه سرعان ما يضيع.
ورغم ما يمكن أن يطرأ من تساؤلات حول “لامنطقية” بعض المواقف الأساسية في الفيلم مثل: كيف يقبل نيك البقاء والرضوخ لما يطلبه منه إسكوبار رغم معرفته بأنه يتعامل مع زعيم عصابة من هذا النوع؟ ثم لماذا لم يقتل رجال إسكوبار المرشد ثم نيك مباشرة بعد أن يكون قد انتهى من دفن المجوهرات في الجبل؟ ولماذا أعطاه إسكوبار مسدسا؟ ولماذا وافق إسكوبار في البداية على زواج ماريا من نيك وساعد نيك بل وانتقم له من أعدائه الأشقياء طالما أنه لا يثق فيه، ولماذا لم يرغمه على مغادرة المنطقة مع شقيقه.. وغير ذلك من تساؤلات مشروعة.
لكن السيناريو يقوم تحديدا على هذه المفارقات التي قد تبدو خارجة عن المنطق، لكي تُتاح الفرصة لتقديم شخصية إسكوبار دون التورُّط في تقديم عمل ملحمي كبير يروي قصة حياته ، فهو مشروع أكبر من فيلمنا هذا. وقد أعلنت شبكة “نتفليكس” أخيرا أنها بصدد إنتاج مسلسل تليفزيوني من عشر حلقات سيخرجه البرازيلي خوسيه باديلا، وسيجري تصويره في مدينة ميدليين، المقرّ الحقيقي لعصابة إسكوبار.
أما ما يجعل فيلمنا هذا يتمتع بالجاذبية والرونق والسحر الخاص، فيعود بلا شك إلى الأداء البارز للممثل الأمريكي (من أصل بورتوريكي) بنسيو ديلتورو (الذي حصل على الأوسكار عن دوره في فيلم “غيفارا” لسودربرغ) فهو يؤدي دور إسكوبار بعد أن يضفي عليه غموضا وكاريزما خاصة تنتشل الفيلم من السقوط في النمطية.
ديلتورو يؤدي الدور متقمصا الشخصية كأفضل ما يكون، مضيفا إليها من ثقافته الخاصة المرتبطة بثقافة المنطقة، وهو يستخدم نظرات عينيه التي تُشبه نظرات الذئب، بحيث يجعلها تحمل من القوة الآمرة بقدر ما تبدو حانية رقيقة وناعسة، ويخفض صوته في النصف الثاني من الفيلم إلى حد الهمس لكن دون أن نغفل ذلك العنف المشحون في داخله، ويظهر وسط الحشود البشرية منتشيا كأنه زعيم شعبي يخطب في الجماهير التي تلتّف حوله تحميه وتحيط بسيارته قبيل تسليم نفسه مباشرة، ويستعرض في مباهاة مع “نيك” سيارة كلايد بارو القديمة، وكلايد كما نعرف، هو المجرم الأمريكي الشعبي الشهير، الذي خلّده المخرج آرثر بن في الفيلم البديع من الستينات أسطورة “بوني وكلايد”.
بنسيو ديلتورو ممثل من الوزن الثقيل، وأداؤه في هذا الدور لاشك أنه سيُمثِّل تحدّيا أمام من سيخلفه في أداء دور إسكوبار في العمل التلفزيوني الجديد المنتظر.