“أُمّي الممثلة”

محمد موسى

لعبت الإيطالية “سيلفانا ستيفانيني” أدواراً سينمائية هامشية، و دوراً وحيداً مُهماً في فيلم “حاجز القانون” للمخرج الإيطالي “بييرو كوستا” في منتصف عقد الخمسينات من القرن الماضي. لن تُعاود بعدها المحاولة. فهي ستتزوج وتنجب إبناً، لتشغلها العائلة عن السينما وعوالمها، حتى تكاد بعد أكثر من خمسين عاماً من وقفتها الأولى أمام الكاميرات، أن تنسى التجربة برمتها. ينبش ماريو بالسامو- ابن الممثلة ومُخرج الأفلام التسجيلية – في فيلمه التسجيلي “أُمّي الممثلة” في سيرة والدته السينمائية القصيرة، ليس فقط بدواعي الاكتشاف والاحتفاء، بل في محاولة أيضا لوَصل ما تقطّع في العلاقة بينه وبين الأُمّ عبر السنين. فالرحلة التي ستقطعها الشخصيتين للعثور على الفيلم السينمائي الوحيد المفقود للأُمّ، هي محاولة ربما تكون أخيرة لترميم المعطوب في الصِلة بينهما.

يَجِد المُخرج والأستاذ الجامعي في السينما، كفن بلغة وإشارات معروفة، الوسيط للتواصل مع أُمّه والجمهور على حد سواء. فيحول رحلة فيلم “أُمّي الممثلة” إلى رحلة في السينما نفسها، تشوبها الطرافة والسخرية والألَم. فتراه يلعب مع أُمّه في مفاهيم السينما وصورها الشائعة. كما يُعيدها إلى شبابها البعيد من مدخل السينما، من جهة، عبر محاولات استذكار الفيلم الكبير الذي قدّمته، بالإضافة إلى توريطها بلعبة سينمائية، ظاهرها المزح، أما بواطنها فكانت تتوخّى مُواجهة الماضي بكل تعقيداته وثقله. كما ستبرز تدريجياً في الفيلم قضية فقد الأب الذي رحل عن هذا العالم قبل خمسة عشر عاماً، وبدا أن المخرج لم يتصالح أبداً مع حقيقة موته، إذ زاد غياب الأب من مشقّة الحفاظ على الصلّة مع الأُمّ، ولم يقربه منها على خلاف ما يحصل بالعادة.

لا يُزوَّق المخرج حياته الشخصية أو حياة والدته، فهو يكشف بمشاهد جريئة عن حاضره، وحيداً بدون عائلة، وهو الذي تعدّى الخمسين من العمر. تنتقل مشاهد الفيلم الافتتاحية بين الأُمّ والابن، كل في محيطه، تجمعهما الوحدة. تشترك هذه المشاهد في جوهرها الساخر. والسخرية ستغلف هذا الفيلم بشكل عام، لتبدو أحياناً وكأنها المُقاربة الوحيدة الممكنة، لتخفيف ثقل تقديم علاقة عائلية يحيطها الالتباس والتعقيد. يُقدِّم المخرج في مونتاج متوازي تفاصيل الحياة اليومية له ولوالدته. وهما يتناولان الطعام وحيدين، والخلود للنوم وحيدين أيضاً.

عندما يجتمع الابن مع أُمّه، سيتكشف أن العلاقة بينهما ليست على ما يرام، وبالخصوص من جهة الابن الذي يعامل والدته بجفاف، سنعرف لاحقاً أن العلاقة بين الأُمّ والابن لم تكن يوماً طبيعية، إذ خنقها الحب الزائد الذي حاصرت به الأُمّ ابنها، بعد أن تركت التمثيل، فيما لم يتعافى الابن لليوم من تعقيدات طفولته.

تُشَّكل محاولات العثور على نسخة من فيلم “حاجز القانون”، وبعدها الرحلة البريّة التي سيقطعها الابن بصحبة أمه من مكان إقامتها في روما وصولا إلى مدينة “فلورانس” حيث ولدت الأُمّ وعاشت صباها، الخطّان السرديّان في الفيلم التسجيلي الذي يبتعد تماماً عن المقابلات التقليدية المباشرة.

في الخط الأول يرافق الفيلم المخرج وهو يبحث في محلات الأفلام القديمة والنادرة عن نسخة رقمية من فيلم والدته المفقود، وعندما كان يَجمع من الأُمّ ذكرياتها من سنوات محاولاتها الدخول إلى عالم الأفلام. وفي الثاني، يُعوِّل المخرج على الرحلة البريّة إلى مواقع الصبا والشباب، أن تهيئ لمراجعة ما، تعينه ووالدته على العودة إلى الماضي ومعاينته وربما التصالح معه، بدل دفنه أو التحرُّج في مواجهته.

بجانب المشاهد التي صوّرها المخرج، يستعين هذا الأخير بمقابلة طويلة عمرها أكثر من عشرين عاماً سجلها مع والديه. في المقابلة تلك تبرز الأُمّ التي كانت في منتصف الستينات من العمر، كامرأة بشخصية قوية حازمة لا تتردد في دخول المناكفات مع ابنها. مختلفة كثيراً عن صورتها المهادنة والمستسلمة اليوم وهي تقترب من عقدها التاسع. تعين المقابلة أيضاً المُشاهد على تشكيل انطباع ما عن ماضي العلاقة بين الأمّ والابن، لا يستند فقط على مشاهد الحاضر وشهادة الابن.

وإذا كان المخرج يبدو جافاً إلى حدود القسوة مع والدته، إلا أن فيلمه في المقابل هو تحية مُشبعّة بالحب إليها. إذ يحاول العمل التسجيلي أن يُعيد اكتشاف المرأة، حياتها وأحلامها. ويُشركها في مواقف طريفة، كأن يجعلها تنافس على تقديم دور امرأة مُسنّة في فيلم سينمائي قادم، ويصوِّرها وهي تقابل المخرج لتأدية الدور أمامه. وعندما يأخذها إلى مقبرة عائلتها، التي ستثمر عن مشهد مُؤثر كثيراً للأُمّ، عندما وقفت أمام صورة والدها المُعلقّة فوق قبره، مستذكرة طفولتها وطيبة ذلك الأب. وحتى نقد المخرج لأداء والدته في بعض مشاهد فيلمها الوحيد، كان رغبة منه في مُشاكسة الأُمّ. التي كانت تنظر بحبّ إلى ابنها، الذي حجز صالة سينمائية خاصة لهما لمشاهدة فيلمها الوحيد.

ومثل كل العلاقات والخلافات العائلية، هناك الكثير من المسكوت عنه والمخفيّ في هذا الفيلم التسجيلي، الذي اصطدم بصعوبة وتعقيد العلاقات العائلية الشائكة. ولم يتمكّن من الوصول لكل التفاصيل التي سبّبت هذا. في حين لا يبدو أن الفيلم قد قَرَب بين الابن وبين والدته، إذ سيكشف المُخرج لأُمّه في واحد من المشاهد الختامية، بأنهما سيعودان لنمط حياتهما السابق، وأن وتيرة زياراته لها ستقلّ بعد انتهاء تصوير الفيلم. وهي الخلاصة التي تأتي مناقضة للحميمية التي طبعت تفاصيل هذا الفيلم، والتي لا ريب أن المشاهد العادي سيصل إليها بدون أيّ مشقة.


إعلان