“إسبانيا .. مواجهة عدم اليَقين”
قيس قاسم

تقارُب مواعيد عروض الوثائقي الفرنسي “إسبانيا.. مواجهة عدم اليَقين” مع الانتخابات البرلمانية الإسبانية الأخيرة لم تضعفه أو تخذل استنتاجاته، بل على العكس عزّزت ما جاء فيه من مقاربات لأنه، وبكل بساطة، ذهب إلى جذور المشاكل التي تواجهها البلاد اليوم وتفرز موضوعياً استقطابات سياسية جديدة لم تعرفها إسبانيا منذ أربعين عاماً.
بل الغريب أنه توقّع حدوثها وكأن صانعه “سيرجيو غيزاردي” كان متيقّناً من حتميتها، وبشكل لافت، إلى ما سيصل إليه الحراك الشعبي المتصاعد منذ الأزمة المالية العالمية، والذي ربما هو الذي استدعاه لمراجعة العقود الأربعة التي تلَت نهاية حكم الجنرال “فرانسيسكو فرانكو” ودخول إسبانيا مرحلة الديمقراطية، وبسبب خصوصيتها عاشت أوضاعاً اقتصادية واجتماعية معقدة كان لابد من التوقُّف عندها وتأمّلها بعين سينمائية ثاقبة مكنّت SPAIN: FACING UNCERTAINTY من أن يأتي وثائقياً استقرائياً بعيد النظر، عزّزت نتائج الانتخابات فكرته المحورية التي تقول؛ إن الإسبان يواجهون اليوم مستقبلهم بشعور عميق باللايقين.
يفتتح الوثائقي مساره باللحظة التي أعلن فيها المذيع التلفزيوني نبأ وفاة الجنرال فرانكو عام 1975، وكأنه كان يعلن “وفاة” مرحلة طويلة من الديكتاتورية ومخلفّاتها. لحظة حاسمة شارك في تحليلها مجموعة منظِرِّين من بينهم “جوسيب رامونيدا” وعدد آخر من السياسيين والاقتصاديين وصحافيين محليين وأجانب اهتمّوا بالشأن الإسباني وعرفوا الكثير عنه، ما عزّز من قوة سرده الحكائي إلى جانب الوثائق والتسجيلات التي يحتاجها شريط معني بدراسة مراحل تاريخية من بلاد شديدة الأهمية والتأثير على المستويين الأوروبي والعالمي.
يُطلق المفكر الإسباني “رامونيدا” على الفترة الأولى التي تلت استلام الملك خوان كارلوس مقاليد الحكم عام 1975 تعبير “مرحلة الخونة الطيبين” للدلالة على أن التغيير “الديمقراطي” الذي جرى في بلد بُليّ بالديكتاتورية والحرب الأهلية سيمثل لشعبه الكثير وسيَنظر لكل مُتغير جديد بعيد عن الموروث القديم، بعين الرضى حتى وإن كان شكلياً، ويُبقي على امتيازات الجيش وقادته “الخونة” الذين أعلنوا ولاءهم للنظام الجديد مع احتفاظهم بقوتهم.
سيرتفع عالياً هتاف الجموع “عاش الملك.. عاشت إسبانيا” أثناء قسمه على دعم الديقراطية وصون مصالح المواطن. بعد ثلاث سنوات سيُقرّ الشعب الدستور الجديد ويعلن دولة القانون. أعطت المرحلة الديقراطية أملاً للناس بالخلاص من الماضي لكن ظلّت قضية واحدة عصية على الحل: العلاقة بين الدولة والأقاليم.
يُقدِّم الوثائقي تفصيلاً مهماً يتعلق بالفقرات الخاصة بالصلاحيات الممنوحة للمناطق المتمتعّة بالحكم الذاتي ويؤكد، بالأدلة المتوفرّة لديه والمدعومة بشهادات قوية، إشراف الجيش على كتابتها وإملاء نصوصها من قبل قادته.

ستظهر هذه العقدة كلما أرادت البلاد المُضيّ بعيداً في تحقيق ديمقراطيتها وتقرير الأقاليم مصيرها وسيظلّ المعارضون لهذه التوجهات يلَّوحون بدستور”الوحدة” في وجه الداعين إلى تغييره أو تغيير النصوص المعنية بهذه المسألة العصيّة.
يعطي الوثائقي لقادة الأحزاب الجديدة مساحة أكبر للتعبير عن مواقفهم، وبخاصة للشابين؛ بابلو إيغيلسياس قائد حركة “بوديموس” وألبرت ريفيرا قائد حزب “المواطنة” لما يمثلّانه من مظهر جديد في المشهد السياسي الإسباني، وعليه يريد الوثائقي بناء تصوراته إلى ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات وموقف الإسبان من عملية التغيير المنشودة.
أراء القائلين ببقاء مصالح الحرس القديم (الجيش، الشرطة، القضاة والطبقة السياسة الفاسدة) ثابتة وقادرة على الانقلاب في أي لحظة، عززتها المحاولة الانقلابية العسكرية عام 1981 حين سيطرت وحدات من الجيش على البرلمان وطالبت الجميع بالانصياع لأوامرها!. فشلها وموقف الملك الرافض لها أعاد للدولة سيادتها ولكنه أجبرها على استرضاء الجيش وضمان نفوذه.
نتائج هذا الوضع: “مركزية” شديدة من جهة ومطالب متصاعدة، بخاصة من قبل “الكتالونيين” المطالبين بالانفصال من جهة أخرى. خطّان ظلّا يسيران بالتوازي مع ديمقراطية عرجاء، صعد من خلالها الحزب الاشتراكي للحكم عام 1982 ومعه برنامج إصلاحي طموح وفّر مدارس مجانية ونظاما تقاعديا جيدا ورعاية صحية مقبولة.
لقد مثلت سنوات حكم الحزب للحكومة مرحلة رفاهية لكنه سيؤسِّس أيضاً لتقاليد فساد جديدة تحت مظلّة الديمقراطية كـ(شراء أصوات الناخبين في الأقاليم، منح أدوار كبيرة للأحزاب القومية خوفاً من صعود الأحزاب القديمة وحصول قادته على امتيازات كبيرة)، ستُشكِّل كل تلك المفاسد نواة مراحل طويلة من الخراب الاقتصادي والسياسي، تأمّلها الوثائقي ملياً، لأن نتائجها كما يُظهر ستُوصل البلاد إلى حافة انهيارات مالية فظيعة، وستُفرز حراكاً شعبياً رافضاً لها تبلور سياسياً بوضوح في السنوات الأخيرة.
يصل الوثائقي الفرنسي بعد تحليلات مترويّة إلى مرحلة حاسمة من التطور السياسي تمثل بدخول إسبانيا إلى الوحدة الأوروبية، وصعود نجم “خوسيه ماريا أثنار” قائد حزب الشعب (PP) اليمني الوسط وتسلمه مقاليد الحكومة.
مرحلة ينعطف فيها الوثائقي بحدّة نحو الاقتصاد فيزجّ بعدد من خبرائه ويستعين بتخطيطات ورسومات توضيحية وتحليلات معمقّة ليُفكِّك معانيها. فدخول الوحدة الأوروبية جلب للناس الكوارث وأحدث فرزاً طبقياً صارخاً كان لابد من عرضه بإسهاب.
ترافق انضمام البلاد للوحدة مع انفتاح واسع على السوق وبخاصة سوق الإعمار والبناء، كما ساهمت التسهيلات المالية والقوانين المخفّفة على حركة رؤوساء الأموال الأجنبية في جلب الكثير منها إلى البنوك، التي راحت بدورها تُشجِّع الناس على الاقتراض منها.
أراد كل مواطن امتلاك بيتين بدل الواحد وسيارتين لا سيارة واحدة، وحين برزت الأزمة المالية عام 2008 اضطّر الناس إلى بيع بيوتهم أو أخذتها البنوك منهم لعجزهم عن تسديد قروضها. وحسب الوثائقي فإن الأموال الهائلة التي جاءت من الخارج كانت في حقيقتها “ذهباً مغشوشاً” وأن “المعجزة الإسبانية” كانت عجزاً مخيفاً شلّ اقتصاد البلاد وأضرّها ولم ينج منها إلا أصحاب البنوك والسياسيين ومن معهم من رجال الأعمال.
انعطافة “وسط الطريق” جاءت لتقوِّي المتنين الحكائي والسردي للوثائقي، لما فيهما من غنى مدهش على مستوى غزارة الصورة وكم المقابلات. ستُظهر التسجيلات النادرة التي وفرّها الوثائقي التواطؤ بين السياسيين وبين أصحاب البنوك، وكيف عملا سوية من خلال تقريب جهات وأشخاص من الموثوق بهم ليتولوا عملية نقل الأموال بين الطرفين بحيث لا يتأثروا بالانقلابات الكبيرة في حركة الأموال التي سادت في أواخر العقد الأول من القرن الحالي.

سيفضح شخصيات عملت بالظل ورسخت نظاماً فاسداً تهربت به من دفع الضرائب وبنت مشاريع “عائلية” عملاقة لم تخدم اقتصاد البلاد بل عزّزت من مكانة السياسيين دعائياً فيما تركت الناس يواجهون مشاكلهم وحدهم، فظهرت ردود أفعال قوية أخرجت الناس إلى الشوارع والساحات. حركة الاحتجاجات أفرزت بدورها أحزاباً سياسية عرفت كيف تخاطب المواطن المُتضرِّر وكتبت برامجها للتعبير عن مصالحه بشكل دقيق كما فعل حزب “بوديموس”.
عن الظاهرة الجديدة يتوقف المشاركون في الوثائقي ليُقدّموا بوضوح تصوراتهم وتعليلاتهم للظاهرة، فخروج الملايين وبشكل مكرر في مظاهرات احتجاجية لم تعرفها البلاد من قبل، لا بد وأن يُعبِّر عن مضامين اجتماعية وسياسية أفرزتها الحالة الاقتصادية الجديدة المتزامنة مع دخول الوحدة الأوروبية وما رافقها من صعوبات.
فلأول مرة في تاريخ إسبانيا يبلغ عدد العاطلين عن العمل ما يقارب 6 ملايين مواطن، أي حوالي 26 بالمائة من حجم القوة القادرة على العمل وحوالي 50 بالمائة من الشباب. إلى جانب أن الضربة القاصمة التي وجهّت إلى حقل البناء قد أثقلت كاهل المجتمع بأسره، إلى درجة ظهر فيها حزب سياسي كبير دافع عن المطرودين من بيوتهم والعاجزين عن دفع أقساطها.
أزمة فضحت الأكاذيب وبيّنت طبيعة النظام السياسي الفاسد الذي لم تشفع له الديمقراطية فكان لا بد من حركة تغيير شعبية واسعة لا تتأثر بشكلية عملية الانتقال السياسي السلمي بين حزبين كبيرين كما جرت العادة، لأن الحراك أفرز قواعد عمل جديدة يمكنها فتح المجال أمام أحزاب أخرى تدخل إلى الحكومة ضمن إتلافات مصالح وهذا ما توقعّه الوثائقي (وصار بالفعل في الانتخابات الأخيرة!) ما عزّز من قوة تخمينه المبنيّة على التحليل والتقصِّي الدقيق. مع كل النتائج الإيجابية في المشهد الإسباني العام تظل مسألة استقلال كاتالونيا عصية على الحل وموضع جدل وانشقاق بين الناس. فالوحدويون يريدونها شكلية (حكم ذاتي) في حين يريدها الانفصاليون حقيقية تمهد لاستقلال كامل. الانتقال بين برشلونة ومدريد بصحبة الوثائقي يكشف حجم الشرخ الاجتماعي العميق بين الطرفين والذي قد يبقى طويلاً ويتعمق فيتيح مجال التلاعب للسياسيين والمنتفعين، ما سيزيد من مخاوف الإسبان على مستقبلهم.
فلا يقين عندهم من أنه سيأتي كما يشتهون ما دامت كل عناصر الفساد التي رافقت العملية “الديمقراطية” منذ أربعة عقود نفسها تقريباً بل وصلت إلى الدوائر الضيقة في العائلة المالكة، ما يعزز من قناعتهم بأن الأزمات المتلاحقة التي يعيشونها هي أكبر بكثير من كونها أخطاء سياسية ونتاج سوء تدبير الحكومات، كما يضفي الصراع القومي المتأزِّم عتمة على المشهد العام للبلاد لهذا سيسود عدم اليقين طويلاً بين الإسبان، كما يتوقع الوثائقي اللَّماح.