“أطفال الثورة”: عودة إلى الماضي
أمير العمري

يظلّ فيلم “أطفال الثورة” Children of the Revolution أحد الأفلام الوثائقية الكلاسيكية التي يجب أن يتعلم منها السينمائيون العرب الشباب الذين يطمحون إلى إخراج الفيلم الوثائقي الحديث. فهو نموذج مثالي لاستخدام السيناريو المكتوب بحرفية ودقة كبيرتين، ومعرفة أين تُستخدم الوثيقة المصورة، وأين يمكن إدخال مقطع من المقابلات مع الشخصيات التي تدعم موضوع الفيلم من مختلف الزوايا، ومتى يعود إليها عبر الفيلم دون أن تطغى المقابلات على بناء الفيلم الوثائقي نفسه الذي يعتمد أساسا على الوثيقة المصورة، بما يشمله هذا من “حفريات” أو أبحاث يقوم بها فريق الإعداد، من أجل الحصول على المواد القديمة المصورة، ثم قيام المخرج والمونتير معا بخلق علاقات بصرية بين الصور واللقطات، من دون حاجة إلى استخدام التعليق الصوتي، بل من خلال بناء يشبه البناء القصصي الذي يشرح نفسه بنفسه.
يتمتع مخرج الفيلم الأيرلندي شاين أوسوليفان، بمعرفة جيدة بالمادة التي يتناولها، ويتمتع فيلمه بوحدة الموضوع، رغم انتقاله بين عالمين مختلفين وشخصيتين تنتميان سياسيا إلى قضية واحدة، لكنهما في واقع الأمر، قادمتان من مجتمعين شديدي الاختلاف.
صخب الستينات السياسي
يروي الفيلم قصة سيدتين من “المناضلات” اللاتي انطلقن من فكرة الرفض اليساري في الستينات لما كان يحدث في بلديهما: ألمانيا واليابان، فالتحقتا بالمنظمات الفدائية الفلسطينية وقامتا بعمليات مسلحة كان هدفها لفت أنظار العالم الى القضية الفلسطينية. ولاشك أن الفيلم بجعل المشاهدين يتوقفون طويلا أمام ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين فكرة النضال من أجل قضية إنسانية عادلة، وما يسمى بـ “الإرهاب” الدولي.. أي التورط في خطف الطائرات وارتكاب أعمال عنيفة قد تؤدي أيضا إلى القتل.
نحن أولا أمام الواقع الأوروبي بعد 1968، أي بعد فشل حركات التمرد الشبابية التي اجتاحت أوروبا في ذلك الوقت وانتقلت أيضا إلى اليابان، في أكبر مظاهرات للغضب شهدتها تلك البلدان ضد كل ما كان مستقرا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولم يكن غريبا أن يرفع المتظاهرون من الشباب وقتذاك، صور ماوتسي تونغ وتشي غيفارا وكاسترو وهوشي منه، في وقت تصاعد موجات الغضب الشعبي ضد الدور الأمريكي في حرب فيتنام.
هذا السياق التاريخي المحدد يصلنا من خلال لقطات تنقلنا من أوروبا، ومن ألمانيا تحديدا، إلى اليابان، حيث نشاهد مظاهرات الطلاب الذين كونوا صفوفا لا نهاية لها، كانت تتخذ شكل الديدان الملتوية، وكانوا يواجهون بشجاعة قوات الأمن التي تطلق عليهم مدافع المياه. ولعل ما يجمع كلا من ألمانيا واليابان هنا، تاريخهما المشترك في الحرب العالمية الثانية، ثم ما انتهت إليه من هزيمة قاسية تركت آثارها حتى يومنا هذا على سيكولوجية الشباب بوجه خاص، الذي كان ينتفض ضد أنظمة يراها ورثت على نحو ما، ما سبق أن أدى إلى كارثة الهزيمة والاحتلال. وكانت مظاهرات الطلاب والشباب تجنح بالطبع نحو اليسار فقد كان اليسار في تلك الفترة هو “أفيون الشباب”- إذا جاز التعبير!
يبدأ الفيلم بلقطة نادرة بالألوان لرجل مسلح ملثم يقود مجموعة من الرهائن يرغمهم على الصعود إلى متن حافلة. ويقول تعليق صوتي باللغة اليابانية، غالبا بصوت أحد قيادات منظمة “الجيش الياباني الأحمر”: “إن ما يؤمن به المقهورون ليس النضال من أجل العيش، بل العيش من أجل النضال.. فالنضال هو الحياة”، ثم نشاهد لقطة نادرة أخرى بالألوان لتفجير ثلاث طائرات في مطار عمان.. لننتقل الى لقطات قديمة بالأبيض والأسود، لرجل يجلس على منصة في مؤتمر صحفي، وبجواره سيدة حسناء شابة، يشير إليها بقوله: على يميني “أولريكا ماينهوف” من هامبورغ وهي رئيسة تحرير مجلة “كونكريت” وكاتبة العمود المثير الجدل، ثم نشاهد لقطة بالأبيض والأسود معلقة على جدار أحد المباني في ألمانيا ثم لقطات لشاحنة يهبط من داخلها عدد من الأشخاص ويقول التعليق الصوتي (الذي يأتي في إطار ما يبثه التليفزيون في تلك الفترة): بادر، ماينهوف والطالبة غودرون إينسلين، المتهمون بتكشيل منظمة سرية مسلحة مناهضة للنظام الاجتماعي في ألمانيا من خلال أعمال عنف.
ننتقل مجددا الى أولريكا في المؤتمر الصحفي وهي تقول إن النساء رغم أنهن يملكن القدرة على الإبداع، إلا أنهن مقيدات بسبب أبنائهن. تظهر لقطة لابنتها وهي طفلة، تعقبها صورتها، أي الإبنة “بتينا رول”، بعد أن كبرت وأصبحت امرأة شابة، تقول عن أمها: “كان ما تريده صحيحا.. لكنها اختارت وسائل خاطئة”. تعقب هذه اللقطة لقطة لامرأة يابانية (بالأبيض والأسود) هي فوساكو شينغنوبو، التي يصفها التعليق الصوتي (من التليفزيون الياباني) بأنها “العقل المدبر لعملية مطار اللد في إسرائيل، كما أنها تقف وراء خطف طائرة يابانية مؤخرا”. ويأتي صوت يسأل باليابانية” من هي والدتك؟ وتظهر الابنة في صورتها الحالية في بيروت، بعد أن أصبحت شابة تقول: إسمها هو فوساكو وقد جاءت هنا قبل ثلاثين سنة لتناضل من أجل القضية العربية كقيادية في الجيش الأحمر.
تظهر كتابة على الشاشة باليابانية تقول: “الثورة هي الحرب العالمية.. النضال المسلح.. إحمل سلاحك”. وننتقل الى طوكيو اليوم لنشاهد الإبنة وهي داخل قطار تروي لنا بصوتها من خارج الصورة كيف ظلت تعتقد لسنوات طويلة إنها عربية الى أن أدركت هويتها اليابانية. وهي تروي عبر الفيلم كيف أنها لم تعلم شيئا عن حقيقة والدها، وكان فلسطينيا، إلا بعد أن أصبحت في الرابعة عشرة من عمرها فقد أبقوا هويته سرية لأسباب أمنية، وكانت تقيم في بيروت، بينما لم تكن تر والدتها سوى نادرا وفي ظروف تأمين خاص بعد أن اختبأت والدتها “تحت الأرض” خشية من تعقب عناصر جهاز الموساد الإسرائيلي.
بعد هذا المدخل التاريخي الموثق باللقطات النادرة التي لم يسبق أن شاهدناها على الشاشة من قبل، ينتقل الفيلم إلى الواقع في ألمانيا الغربية في الستينات، بعد فشل حركات الاحتجاج الواسعة النطاق في أوائل السبعينات، وتحول حركة الشباب الراديكالي إلى حركة تتبنى العنف والإرهاب بعد تكوين منظمة جماعة “بادر- ماينهوف” الشهيرة، وكانت أولريكا ماينهوف تعمل صحفية في المجلة التي يملكها زوجها الذي أنجبت منه طفلتين، إلا أنها تمردت على نمط الحياة البورجوازية وانفصلت عن زوجها، واشتركت في تأسيس تلك الجماعة التي تناهض الدولة، وشاركت في عمليات تفجير قنابل استهدفت عددا من المؤسسات الحكومية والعامة، من بينها المجلة التي يملكها زوجها، والتي أصبحت في نظرها، إحدى أدوات السلطة “البورجوازية” القمعية. وقد اضطرت للاختباء من مطاردة الشرطة، ولم تكن بالتالي ترى ابنتيها سوى نادرا.

يقدم الفيلم صورة تفصيلية موثقة بالصور الفوتوغرافية والمشاهد التسجيلية السينمائية، لشخصية ماينهوف التي انتحرت في سجنها عام 1975، كما يكمل الصورة من خلال ما نستمع إليه من شهادات وذكريات ترويها صديقة لها كانت أيضا زميلتها في النشاط السياسي وقضت سنوات في السجن قبل أن يُطلق سراحها، ثم ننتقل الى الشهادة الأهم التي ترويها ابنتها “بتينا”، التي تتحدث عن علاقتها بأمها، وكيف أنها كانت ترتبط بها وجدانيا رغم عدم فهمها لما كانت تقوم به من نشاط في البداية، وتصف كيف كان الرأي العام يتعامل بقسوة معها، وكيف أدركت فيما بعد بنوع من التعاطف، تلك النزعة الطوباوية الفوضوية ودوافعها في إطار المعطيات السياسية التي كانت سائدة وقتذاك.
ينتقل الفيلم بشكل محسوب ودقيق للغاية، بين الابنتين، مع استخدام الكثير من الوثائق المصورة والشهادات الأخرى للعناصر التي عاصرت الأحداث ومنها الشهاد التي تقدمها صديقة ماينهوف وجارتها التي أصبحت فيما بعد متخصصة في العلاج النفساني، والتي تروي كيف أن “أولريكا” أصيبت بحالة مرضية قد تكون سرطانا في المخ، وتؤكد ابنتها الرواية، ثم أجريت لها عملية داخل المخ وتركيب شريحة معدنية داخله، الأمر وهو ما ترى الشاهدة أنه قد يكون السبب في ذلك التغير الدرامي في شخصية ماينهوف وتحولها كما تقول “من بروتستانتية مخلصة الى ارهابية”!
الجيش الأحمر
يظهر في الفيلم أيضا قائد الجيش الأحمر الياباني وهو يروي تفصيلا كيف أنهم أصبحوا يؤمنون بضرورة نقل الثورة خارج اليابان بعد أن فشلوا في احداث التغيير المطلوب في الداخل، ومن هنا جاءت فكرة تأييد الثورة الفلسطينية المسلحة ضد الصهاينة، ويتحدث عن دور “فوساكو” ومثالياتها، وعن الرحلة التي قاموا بها الى لبنان للالتحاق بالثورة الفلسطينية، وعملية القبض عليه فيما بعد من قبل السلطات الاسرائيلية، ثم نشاهد المناضلة الفلسطينية ليلى خالد من منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي شاركت في خطف الطائرات في السبعينات وقضت فترة في السجون الاسرائيلية قبل أن يتم اطلاق سراحها بموجب اتفاق لتبادل الأسرى، وهي تروي كيف أنها ذهبت الى طوكيو لكي تشهد لصالح فوساكو أمام المحكمة، مؤكدة أنها لم تنغمس قط في القتل، ثم نعود الى شهادة ابنة فوساكو التي تتحدث عن فترة النضال المسلح وما كان يترامى اليها في شبابها البكر في بيروت من أخبار عن والدتها وما تقوم به، وكيف أن الجيش الأحمر الياباني شن الكثير من عمليات احتلال السفارات في الخارج وتفجير طائرات إلا أن عناصره لم تقتل أحدا.
سنرى فيما بعد الابنة وهي تتحدث عن نشأتها كفلسطينية، مع كثير من صورها الفوتوغرافية الخاصة من تلك الفترة، ثم نراها وهي تحلل بوعيها الحالي كصفحية تعمل بالتليفزيون الياباني كيف تسببت أحداث 11 سبتمبر 2001 في تشويه القضية العربية وصورة النضال من أجل الحرية في العالم، ثم كيف قررت والدتها في عام 2000 العودة الى اليابان بشكل سري فاعتقلت، وهي تقضي حاليا حكما بالسجن لمدة عشرين عاما.
فكرة عرض تاريخ امرأتين من خلال ابنتيهما هي الفكرة التي تجعل من هذا الفيلم تجربة خاصة، ليس فقط عن تاريخ العنف، والعلاقة بين الثورة والارهاب، بل وعن تاريخ حركات التمرد والغضب والعنف التي شهدها العالم في السبعينيات.. خاصة وأن الفيلم لا يترك جانبا الا وقدم الكثير من الوثائق المصورة الدالة عليه ومنها لقطات نادرة لكارلوس، وإعجاب الشباب الأوروبي بشخصية كاسترو، وغضب السلطات في ألمانيا الشرقية وقتها من هذا الاعجاب بسبب تحفظ ألمانيا الشرقية (الشيوعية) على سياسة كاسترو، ويتطرق الفيلم من الى دور برلين الشرقية في تغذية وتمويل العمليات التي قامت بها بادر- ماينهوف.
يحتوي الفيلم على الكثير من المواد المصورة الدعائية لمنظمة التحرير وتدريب الشبيبة الفلسطينية على الكفاح المسلح، وكذلك الأفلام الدعائية للجيش الأحمر الياباني، وصورا فوتوغرافية نادرة لليابانية فوساكو وهي تقف وسط الفلسطينيين في المخيمات.
ولعل ما يجعل من الفيلم عملا سينمائيا ملهما، تلك الرؤية الذكية التي تمكنت من الجميع بين شخصيتين تنتميان الى عالمين مختلفين تماما على الصعيد التاريخي والثقافي، واكتشاف ما يجمع بينهما. صحيح أن المرء لا يختار ماضيه وما يربطه بماضي آبائه، ولكن الأصعب هو أن يملك القدرة على فهم الماضي وتحليله في ضوء الحاضر بحيث لا يفهم ما حدث في اطاره التاريخي دون أن الاكتفاء بإهالة التراب ببساطة عليه.