“دستور”.. السجناء العرب في إيطاليا

محمد موسى

يَندَرج فيلم “دستور” للمخرج الإيطالي “ماركو سينتارلي” في فئة الأفلام التسجيلية التي تَتَشَكَّل في معظمها من رصد كاميرات لأحداث عامة عابرة، ليحاول بعدها صانعوها في غرف المونتاج أن يُنقبّوا ويستخلصوا من هذه الأحداث تيمة ومسارا واضحيْن، يتأسسان وينهلان مما يُنتجه فعل المُراقبة المُجرد بالدرجة الأساس، وما يثيره وجود الكاميرا المُتواصل في محيط هذه الأحداث من تفاعلات محسوسة ولا شعورية بين الحاضرين، تقود أحياناً إلى ذروات نفسية وتصادمات مفاجئة تنتظرها كاميرات هذه الأفلام بترقّب لتُسجلّها، وتبرزها ضمن سياقاتها السردية المُتنوعة، كاسرة – أي هذه اللحظات – الوتيرة الرتيبة أو الخانعة لتلك الأحداث، وكاشفة أكثر من غيرها عن المسكوت عنه والمخفيّ فيها، مانحة إياها أحياناً أبعاداً أكبر من الأحداث نفسها.

والحدث الذي يقع عليه اختيار المُخرج الإيطالي، هو نشاط تثقيفي توعوي يقوم به سجن إيطالي للسجناء العرب تحديداً. إذ تُنظِّم إدارة السجن لقاءات بين اختصاصين وسجناء عرب في مكتبة السجن. أما مادة الحوار فستكون الدستور الإيطالي. لكن ما بدا أنه نقاش لتمضية وقت السجناء سيتطور تدريجياً ليصل إلى كثير من المُعضلات التي تواجه المسلمين في دولهم الأصلية وأوروبا اليوم: كعلاقة الدين بالدولة والحريات الفردية وفصل الدين عن الموروثات الاجتماعية، و”الربيع العربي”، الذي وصفه القسّ الإيطالي الذي زار مراراً الشرق العربي ويدير اليوم هذه الحوارات، بالشتاء الذي يخلف ملايين الضحايا في كل مكان. كل هذا سيجري أمام كاميرات المخرج الإيطالي، دون أن يحتاج هذا الأخير لأن يتدخل أو يفتح فمه ولا لمرة واحدة طوال فترة تسجيلية للنقاشات التي كانت تجري في مكتبة السجن.

يبقى الفيلم التسجيلي في معظمه بين أسوار السجن، مع مشاهد قليله خارجية، رافق فيها سجينا عربيا شابا سابقا، وهو يحاول أن يجد طريقه في الحياة بعد تجربة السجن، مُركزّاً بالدرجة الأساس على النشاطات التي يقوم بها هذا الشاب للتحذير من السقوط في إغراءات الجريمة. كما سيصور الفيلم مشاهد للحياة اليومية من داخل السجن، ليربط بها مشاهد الحوارات الطويلة، وهذه الأخيرة جاءت مبتكرة فنيّاً، ذلك أن المخرج وأثناء بحثه عن مدخل شكليّ خاص يُصوِّر به اجتماعات تبدو مملة ويُحدّدها الحيز المكاني الضيق، سيصل إلى تنويعات من المشاهد الحيوية وغير التقليدية التي كانت تنتقل بمرونة بين وجوه المجتمعين، دون أن تتحول الكاميرا إلى عثرة أمام تدفّق نقاشات الحاضرين، والتي وصلت في مواقع في النصف الأخير من الفيلم إلى مستويات كبيرة من الحدّة، مخترقة الكياسة الاجتماعية التي غلفّت النقاش في النصف الأول منه.

لن نعرف – وباستثناء الشاب المغربي المُطلَق سراحه – الأسباب وراء وجود الرجال العرب في السجن الإيطالي. وكأن الفيلم لم يرغب في أن يشغل نفسه بذلك، بقدر اهتمامه بحضورهم الآني ورغبتهم بالتعلُّم والتغيُّر، وكما يُبيَّن انضمامهم إلى مجموعة النقاش الطوعية في السجن. هناك إشارات يكشفها السجناء أنفسهم عن حيواتهم قبل السجن، فبعضهم مثلاً هاجر في مراحل لاحقة من عمره إلى إيطاليا، لذلك تراه يُجيد اللغة العربية الفصحى بتمكُّن، وهناك من كان طفلاً عندما وصل مع أهله إلى البلد الجديد، وهؤلاء يملكون وجهات نظر مُختلفة قليلاً عن الذين عاشوا جزءاً مُهماً من حياتهم في بلدانهم الأصلية.

 وإلى جانب السجناء العرب، هناك شاب من أصول عربية سيكون ضمن فريق السجن الذي يدير اللقاءات العامة. يمثل هذا العربي الشاب شريحة من العرب المتدينين والرافضين لأفكار الحركات الإسلامية المُتطرفة. هذا الشاب لن يتولى فقط ترجمة الأفكار الصعبة التي تخصّ مبادئ الدستور الإيطالي إلى اللغة العربية لغير المتمكنين من اللغة الإيطالية، هو سيشرح أيضاً هذه المفاهيم بلغة مُبسطّة وسيجيب على أسئلة السجناء أحياناً.

تتصاعد حدة الحوار عندما يصل إلى قضايا الحاضر المُعقدة، فتنظيم داعش سيكون حاضراً هناك في نقاشات السجن الإيطالي، كذلك الموقف من قضايا الجهاد في الإسلام. يكشف بعض السجناء عن مستويات مُتقدمة من الفهم لما يجري في العالم. فعندما يرمي القسّ الإيطالي بقضية دخول مسلمين إلى المسيحية على الطاولة ويسأل عن آراء السجناء، ينطلق نقاش على قدر كبير من الوعي بهذه القضية الحساسة، بل سيصل النقاش إلى أكثر محطاته حدة في الفيلم كله، بعد أن يكشف أحد السجناء، أن الحكم الشرعي على تاركي الإسلام هو القتل، وهو الأمر الذي سيلقى ردود أفعال لا تقل حدة من زملاء له في السجن. كما بدا التركيز على موضوع الجهاد والالتحاق بالتنظيمات المتطرفة في تلك النقاشات، جزءا من سعي إدارات السجون إلى وضع حد لعمليات تجنيد سجناء مسلمين في سجون أوروبية، وكما كشفت أخيراً تقارير أكثر من بلد أوروبي.

يُواصل المخرج في المشاهد الخارجية من فيلمه، الأسلوب ذاته الذي اتبعّه في المشاهد الداخلية، أي المراقبة بدون توجيه أو تدخلات والبحث عن اللحظات الإنسانية الكاشفة. يكاد بطل المشاهد الخارجية، الشاب المغربي الأصل الذي لم يتعدّ السادسة والعشرين من العمر، أن يكون أمثولة للذين مرّوا بالسجن ونجحوا بعد أن قضوا عقوباتهم في  تغيير مسار حياتهم. يرافق الفيلم الشاب العربي ذاك وهو يزور جامعة إيطالية ليروي لمجموعة من طلابها تجربته مع الجريمة والسجن. سيغالب الشاب دموعه وهو يسرد حادثة زيارته إلى بلدته الصغيرة في المغرب، وعجزه حينها عن لقاء والدته التي كان يراها من سيارته المتوقفة على الطريق، لأنه كان وقتها في عالم آخر بسبب المُخدرات التي كان يتناولها. كما سيرافق الفيلم الحياة اليومية لهذا الشاب وهو يحاول أن يعتاد على واقع صعب، بعد أن ودّع الحياة المادية السهلة التي وفرّتها الجريمة.

وإذا كان الفيلم ينطلق من قاع المجتمع بتركيزه على سجناء يحمل كل منهم ماضياً إجرامياً قاتماً، إلا أنه سيبدأ بعدها في رحلة نحو الأعلى، إلى الضوء، وليتحول سريعاً إلى عمليات مُكاشفة تطال السجناء والمجتمع في الخارج، داعماً دون شعارات الرُؤًى التي تؤمن أنه من المهم توفير فرص ثانية وثالثة للمجرمين والضالين الذين لا يريد كُثر تذكر وجودهم. لا يُحوِّل المخرج الإيطالي ماركو سينتارلي شخصياته من سجناء إلى “صالحين” أو “ضحايا”، لكنه يمنحهم في المقابل الفرصة عبر الفيلم الذي يلتقط تعابير وجوههم الدقيقة وحركات أجسادهم، لأن يعودوا إلى إنسانيتهم مرة أخرى. كما يُبيِّن العمل التسجيلي أن هؤلاء السجناء، مثلهم مثل كثيرين في العالم اليوم، حائرون أمام أسئلة الهويات والإثنيات والأديان.


إعلان