ماذا حدث لكِ نينا سيمون..؟
محمد موسى

ضَمَّت قائمة الخمسة عشر فيلماً تسجيلياً، التي تؤلِّف القائمة القصيرة الأولى للأفلام المُتنافسة على جوائز الأوسكار القادمة، (سيتم لاحقاً اختيار خمسة أفلام من تلك المجموعة للمنافسات النهائية) فيلمين عن سيرتين مأساويتين لمطربتين بمواهب فذة وحيوات مُعذبة. الأول: “آيمي”، للمخرج البريطاني آصف كاباديا عن الحياة القصيرة الحافلة للبريطانية آيمي واينهاوس والتي رحلت في عام 2011، عن عمر ناهز سبعة وعشرين عاماً فقط. والآخر هو: “ما الذي حدث يا سيدة سيمون..؟” للمُخرجة الامريكية ليز غاربو، الذي يقدم سيرة مُطربة الجاز الأمريكية الشهيرة نينا سيمون، والتي ذوت موهبتها وحياتها هي أيضاً في شرخ الشباب، لتعاني بعدها احتضاراً طويلاً دام لعقود.
هناك الكثير الذي يجمع بين المطربتين، من موسيقى الجاز التي تميزه أغانيهما، وما كابدتاه من الشهرة، والإدمان على المخدرات، والعنف والتعقيد الذي طبع علاقتيهما بالرجال في حياتهما، وتفريطهما بموهبتيهما الكبيرتين. عانت المطربتان من الأمراض النفسية الجديّة. بعضها كان مجهولاً لهما وللمحيط من حولهما. والبعض الآخر شُخِصَ في مراحل متأخرة من مرضهما، كحال نينا، التي يعود الاستقرار النسبي الذي طرأ على سنواتها الأخيرة بسبب الاستدلال على العلّات النفسيّة التي كانت تحملها وخضوعها لعلاج مكثف بعد ذلك.
يختار الفيلمان أسلوب السيرة التقليدي المعروف، الذي يغطي أهم الأحداث العاطفية والمفصلية لشخصياته، من الولادة إلى الموت. باستثناء انتقالات محدودة للغاية في فيلم “ما الذي حدث يا سيدة سيمون؟”، خالفت السرد الترتيبي التصاعدي. ذلك أن الفيلم يبدأ من محطة لاحقة من حياة نينا سيمون، لكنه سرعان ما سيعود إلى طفولتها وشبابها ليواصل من هناك رواية حكايتها. يرتكز الفيلمان على حوارات مسجلة للمطربتين، وشهادات أهل وأصدقاء مقربين.
في “آيمي”، يؤلِّف المخرج فيلمه حول كلمات الأغاني التي كتبتها المطربة الراحلة والتي ستكون الضوء الذي يعين في الاستدلال على محطات من حياتها القاتمة ويفسر بعضاً من سلوكها غير المفهوم. في حين ستشكل يوميات المطربة نينا سيمون التي كانت تكتبها بانتظام في ستينيات القرن الماضي، الكوة المناسبة للإطلال على حياة وعذابات الفنانة والمرأة في تلك السنوات الحاسمة. وأرشفة دقيقة وتفصيلية للكابوس الذي كان يُطبق عليها.
يفتتح فيلم “ما الذي حدث يا سيدة سيمون؟” زمنه بمشهد من حفل لنينا في سويسرا عام 1976. يُشَكِل الحفل ذاك ما يمكن أن يُعتبر بداية نهاية الكابوس الذي عاشت فيه المطربة منذ تركها الولايات المتحدة في نهاية عقد الستينيات، وعودتها للوقوف أمام جمهور المسارح بعد اختفاء دام سنوات طويلة. عندما أطلّت نينا على المسرح بدت مُرتبكة تماماً، فحدّقت بالجمهور في الصالة الساكنة لثوانٍ طويلة مُحرجة. قبل غنائها ستكشف المطربة عن أهمية هذه اللحظة والطريق المضني الذي قاد إليها. سينتقل الفيلم ومع الضربات الأولى للمطربة على البيانو، إلى زمن بعيد سابق. إلى طفولة المطربة التي ولدت في أسرة فقيرة، لكنها حظيت بفرصة لتعلُّم الموسيقى الكلاسيكية بمساعدة سيدة أمريكية بيضاء شاهدتها تعزف بالصدفة في الكنيسة الفقيرة القريبة من بيت المطربة، ثم انتقالها بعد ذلك إلى أداء أغاني الجاز، وكيف أن هذه الانتقالة بين هذين النوعين الموسيقيين كانت بدوافع الحاجة المالية، وأن عشقها الصافي الوحيد كان دائماً الموسيقى الكلاسيكية.

هناك أرشيف مُتميز بثرائه لسنوات انطلاق نينا سيمون في بداية عقد الستينيات، وهذا سينعكس على الفيلم الذي استفاد كثيراً من الصور الفوتوغرافية وتسجيلات الفيديو، ليعرض بالتفصيل خطوات المطربة الأولى، وأحياناً يقترب من نقل روح تلك السنوات. فالمطربة التي كانت لم تدخل بعد نفق المتاعب الطويل، منحت وقتها مجموعة من المقابلات التلفزيونية المهمة، إضافة لسماحها لمصورين فوتوغرافيين بتصوير حياتها اليومية.
الكثير من هذه الصور سيصل إلى الفيلم التسجيلي، كما سينتفع هذا الأخير من استعادات المطربة لطفولتها في حواراتها الإذاعية والتلفزيونية، ومن دفاتر يومياتها التي كانت تكتبها. إذ ستحفظ تلك اليوميات تقلّبات أيامها كما أنها سجلّت بداية انهيارها النفسي، وخاصة في السنوات الأولى من زواجها. وعلاقتها العنيفة مع زوجها. الشرطي الذي ترك عمله من أجل أن يدير أعمال المطربة. يُبيَّن الفيلم وشهادات مقربين، أن ما بدا وقتها زواجاً مثالياً بين المطربة الشابة والشرطي الوسيم. سينقلب سريعاً إلى علاقة عنيفة دامية. إذ كانت الزوجة تتعرض لعنف جسدي من زوجها بشكل يومي تقريباً، وكانت تُجبر على الغناء في الحفلات رغم تعبها الشديد. وهي الظروف التي قادت إلى أزمتها النفسية.
يُفرد الفيلم مساحة مهمة لانشغال نينا السياسي وتعاطفها الشديد مع حركات وثورات الأمريكيين السود في عقد الستينيات من القرن الماضي. إذ قاد ذكاؤها الفطري وحساسيتها ضد الظلم إلى قلب الحركة الثورية تلك، فرافقت أبرز رموزها وأدباءها.
يقدم الفيلم مشاهد أرشيفية رائعة لحفلات للمطربة الراحلة وهي تغني أغاني الغضب والثورة، بحضور جمهور جُلَّه من الأمريكيين السود. سينعكس موقف نينا الراديكالي من الأحداث تلك على مكانتها كفنانة، اذ امتنعت أغلب محطات الراديو وقتها عن بث أغانيها. كما أن المطربة نفسها لم تعد تستسيغ أداء أغاني الحب والهجران العادية في حفلاتها، وتفضل أغاني الثورة والتحريض. فجذبت جمهوراً مختلفاً. هذا كله سينتهي مع بداية الاغتيالات التي طالت رموز الحركة الثورية من السود في نهاية عقد الستينيات. والذي سيؤذن ببداية رحلة تشرُّد قاسية للمطربة، التي قررت أن تهجر بلدها وتذهب إلى أفريقيا، الموطن الأول للأمريكيين السود، بحثا عن هوية صافية بعيداً عن أمريكا.
تتضاءل المواد الأرشيفية في جزء الفيلم الذي يقدم سنوات تشرد المطربة، لتعوضها المخرجة بالحوارات التي أجرتها مع الذين رافقوها في تلك السنوات العصيبة، ومنهم ابنتها الوحيدة. هناك صور فوتوغرافية قليلة فقط لها من حياتها في أفريقيا، وفيديو سيء النوعية من عملها في ناد ليلي في باريس، التي عاشت فيها متشردة فقيرة. ستدفع الحاجة نينا إلى العودة إلى الغناء في المسارح الكبيرة، لكن هذا كان يشترط خضوعها لعلاج نفسي، ستبدأ به في فرنسا ومن ثم في هولندا التي عاشت فيها عامين، وبعدها في جنوب فرنسا، المكان الذي قضت فيه سنواتها الأخيرة، وحتى وفاتها في عام 2003.

حصل الفيلم التسجيلي على مباركة ابنة المطربة التي تحدّثت طويلاً فيه. بيد أن الفيلم لا يبدو أنه يتعثر برغبات هذه الابنة في تنميق صورة ما لوالدتها وكما يحدث غالباً في أفلام السيرة الذاتية التي يشترك فيها الأبناء أو العائلة. فهي ستقدم شهادة تدين والدها وتعامله النفعي مع أُمّها. كما ستمرّ على محطة حياتها مع والدتها في أفريقيا، والعنف الجسدي الذي وقع عليها من الأُمّ نفسها. توفر الابنة أرشيف والدتها الذي ورثته، وتضعه دون أن تمرره بغربلة أخلاقية تحت تصرف المخرجة. ذلك أن ما وصل من هذا الأرشيف إلى الفيلم يتضمن بوحاً خاصأً وإلى حدود كبيرة، كاعتراف المطربة وقتها باستمتاعها بالعلاقة السادية مع زوجها، أو إدمانها على الجنس. كما توفر الابنة مقابلة أرشيفية طويلة مع الأب من ثمانينيات القرن الماضي. والتي تكشف بدورها عن تفاصيل من حياة الزوجين، وأخرى من سيرة المطربة الغنائية.
تنجز المُخرجة فيلم سيرة على قدر كبير من التمحيص والإخلاص للحقيقة التاريخية مهما بلغت من قسوة. إلى الحد الذي يبدو فيها صعبا تخيل نسخة او مُقاربة مُختلفة متوهجة لحياة نينا سيمون لا تتطابق مع تلك التي قدمها فيلم “ما الذي حدث يا سيدة سيمون..؟” What Happened, Miss Simone? أو لا تتضمن الرؤية الحيادية للفيلم وهو يقلب أحداثاً لازالت تبعاتها موجودة حتى اليوم، وسعيه الصادق لفهم حياة امرأة وفنانة تعرّضت لضغوط هائلة من الشركات الموسيقية ومن محيطها العائلي، وارتكبت هي نفسها أخطاءً كبيرة.
بموازاة عرض التراجيديا الشخصية، يترك الفيلم لموهبة نينا الاستثنائية وفرادة صوتها وموسيقاها أن تشعّ عبر تسجيلات موسيقية كانت تُذَكِر دائماً بأنه ليس من الهين أبداً حمل كل هذه الموهبة، دون أن يفقد صاحبها الكثير من توازنه. وهي الخلاصة التي وصل إليها الفيلم البريطاني “آيمي” أيضاً.