“وحوش بلا أمة” .. لعنة الحرب !

أمير العمري

بعض الأفلام قليلة الحظ، رغم تميّزها الذي لا تُخطؤه عين. من هذه الأفلام فيلم “وحوش بلا أمة” Beasts of No Nation للمخرج الأمريكي كاري جوجي فوكوناغا Cary Joji Fukunaga وهو نفسه كاتب السنياريو ومدير تصوير الفيلم.
هذا فيلم متكامل من نواحٍ كثيرة: سيناريو مدروس جيدا يتضمن شخصيات حقيقية تتميز بالحيوية والإقناع.. إخراج متمكِّن يسيطر تماما على الموضوع.. وتصوير واقعي مذهل في قلب أفريقيا مع إعادة تصميم المناظر بحيث يصبح متطابقا مع واقع الحروب الأهلية التي لا تنقطع عن القارة السمراء.

غير أن “وحوش بلا أمة” رغم ذلك، لم ينَل ما كان يستحقه من جوائز في المهرجانات السينمائية الدولية، كما لم يحظَ بما كان متوقعّا من اهتمام نقدي وجماهيري، رغم موضوعه الإنساني المؤثِّر، ومناظره المدهشة، وأداء أبطاله المتميز.

سيناريو الفيلم مقتبس عن رواية للكاتب النيجيري (الأمريكي) أوزودينما إويلا نُشرت عام 2005، والموضوع ببساطة هو: كيف يتحول طفل من البراءة الأولى إلى البدائية والتوحُّش ويصبح كهلا قبل الأوان بعد أن يمرّ بتجربة الحرب والقتل وسفك الدماء وانتهاك البراءة.
المكان في الفيلم غير محدد، رغم أن عبارة يقولها الصبي في المشاهد الأولى من الفيلم، تشي بأن الجيش النيجيري (يتولى حفظ السلام).. لكننا على أي حال، في دولة أفريقية تغشاها الفوضى والاشتباكات المسلحّة بين قوات الحكومة والمتمردِّين، وإن كانت القضية السياسية غير محددة / فالمخرج يتعمّد تجريد الموضوع حتى يجعل تركيز المتفرِّج ينحصر في التجربة ومغزاها وليس في اتخاذ موقف ما.. مع أو ضد، فالمهم هنا أن هناك حربا أهلية تدور رحاها بين أطراف متعددة، لا يهم سببها ولا دافعها، فهي معادل للجحيم الأرضي الذي يصبح الأبرياء وقوده.

السرد

لذلك يجعل المخرج – المؤلف مسار السرد في فيلمه يُروى من وجهة نظر صبي في الثامنة يدعى “أغو” Agu،  يقيم في قرية مع أسرته المكونّة من والده المدرس، وشقيقه الأكبر الذي يتعلم في مدرسة الكنيسة بالقرية، وأمه التي ترعى المنزل، وشقيقته الرضيعة. يلهو “أغو” مع رفاقه من الأطفال، يحاول بيع هيكل جهاز تليفزيون فارغ لأحد جنود القوة النيجيرية المتمركزة قرب القرية، بدعوى أنه “تلفزيون التخيُّل”، يأخذه الجندي منه شفقة به ويمنحه بعض المأكولات له ولأصدقائه.

يتدفق على القرية كثير من اللاجئين الفارِّين من جحيم الاشتباكات المسلحة، فالقرية تقع في المنطقة العازلة بين القوى المتنازعة، ولكن القوات الحكومية تخرق الهدنة وتجتاح القرية، وينجح والد أغو في تهريب زوجته مع ابنتها الرضيعة بعد أن يدفع لسائق سيارة كل ما لديه من مال، لكن السائق يرفض اصطحاب أغو.
سرعان ما تعتقل قوات الحكومة كل من بقوا ومنهم والد أغو وشقيقه، وتقتلهم بينما يتمكن هو من الفرار إلى الغابة، ثم يقع في قبضة فرقة مسلحّة من الشباب والأطفال يقودهم رجل يتمتع بقوة شخصية وجاذبية وقدرة هائلة على التأثير، سرعان ما يتبنى “أغو” ويقرر تدريبه ليصبح جنديا من جنود فرقته، ليثأر لوالده وشقيقه.

من هذا المدخل يصبح الفيلم رصدا دقيقا للتحوّل الذي يطرأ تدريجيا على شخصية “أغو”.. المتدين، الذي تعلّم على يدي والدته ألا يرتكب الخطايا، فنراه هنا وقد أصبح قاتلا يقطع رأس رجل بسيف في مشهد مرعب، تحت إصرار قائده الذي يُرسِّخ صورته لدى أفراد الفرقة كأب بديل لهم جميعا.
يحمل “أغو” السلاح، ويصاحب طفلا آخر صامت يدعى “سترايكا”، وينتقل الجميع من قرية إلى أخرى، يغزون وينتقمون ويُحرِّفون ويُدِّمرون، يفجرون المنازل ويغتصبون النساء، وتصبح الحرب عملية همجية بربرية وليست وسيلة للدفاع عن قضية واضحة.

الوحش

لكن الفيلم ليس فقط عن “أغو”، الذي ينتقل من الطفولة إلى الرجولة، ويفقد خلال ذلك الكثير من القيم والمُثل التي تربى عليها ونشأ، ليصبح “وحشا” من هؤلاء الوحوش البشرية، بل هو في الوقت نفسه فيلم عن ذلك “القائد” الذي كرّس نفسه كرمز للبطولة والقوة وتحقيق المستحيل في ساحة القتال، وكيف ينتهي به الحال مهزوما ذليلا أمام من يعتقد أنهم من صنعوه.
إنه يشحذ عزيمة فرقته من الصبية والشباب، بترديد الكلمات المثيرة، والعبارات التي تجعلهم يذوبون في شخصه وكأنه أصبح معبودا لهم، يُقدِّمون حياتهم من أجله، مع ملاحظة أننا لا نراه أبدا خلال القتال، يحمل سلاحا، بل يسير في المقدمة محاطا بزمرته الخاصة، وكأنه مُحصّن ضد الموت.

وفي أحد المشاهد البديعة في الفيلم، نشاهد كيف تتم عملية شبيهة بـ “التعميد” عن طريق السحر، على يدي كاهن أفريقي كهل، يحرق البخور في حفرة بالغابة، يتصاعد غبار البخور الكثيف مما يُرغم “أرغو” على السعال، يمسّ الرجل الكهل صدور الأطفال بأحد فروع الأشجار وهو يُردِّد بعض التمائم، وبعد ذلك يتعين على “أغو” الجريّ بين صفين من الشباب بينما ينهالون على جسده ضربا بالهراوات، يمسك الساحر بأحد الفتيان ويقطع رأسه كأنما يقدمه ضحية لآلهة الغابة، ثم يضع “أغو” داخل حفرة وكأنه سيدفنه، ويجرحه بسكين حاد في منطقة من صدره ثم يضع مسحوقا بنيا فوق الجرح مرددا “يجب أن تموت قبل أن تولد من جديد”!

يقف “أغو” في صف مع مجموعة من شباب المقاتلين، وأمامهم مباشرة بعض جنود الفرقة يصوِّبون ويطلقون عليهم النار لكنهم لا يصابون. ويردد القائد “الأرواح تبارككم.. وتطهركم.. لقد أصبحتم غير مرئيين بالنسبة للأعداء.. لكن هناك قواعد يجب أن نحترمها لكي ترضى عنا الأرواح.. أن نبقى أنقياء”. يرقص الجميع ويتمايلون وهم ينشدون كلمات أفريقية مبهمة بينما يضرب القائد على صدورهم واحدا إثر الآخر وهو يردد: “العدو لن يراكم بعد اليوم”!
لكن ما سيحدث أن الكثير من رفاق “أغو” سيفقدون حياتهم، بمن في ذلك “سترايكا”، وسيصبح “القائد” نفسه مهزوما بعد أن يخذله رئيسه المفوِّض السياسي للحركة ويرغمه على التخلي عن العمل في ميدان القتال، وتسليم القيادة لأحد مرؤوسيه الشباب. لقد انتهى دور “القائد” الذي كان يظن نفسه قد أصبح “نصف إله”، وسرعان ما سيتخلّى عنه “أبناؤه” أيضا.

عن الإخراج والتمثيل

باستثناء بعض المشاهد الطويلة في الفيلم الذي يبلغ زمن عرضه نحو 137 دقيقة، فالبناء في الفيلم متقن، والتدرُّج فيه يسير بسلاسة، وتبدو جميع مشاهد القتال مقنعة، ويتمكن المخرج من السيطرة على المشاهد الكبيرة التي تشمل حرق قرى والهجوم على جسور واشتباكات مرعبة في الغابة، ومشاهد الحرائق وغيرها، بحنكة كبيرة، مع تنويع مستمر في زوايا التصوير، واستغلال جيد لكل تفاصيل المكان، مع معرفة أين يتوقف ويتيح لنا مساحة للتنفّس والتأمّل، باستخدام لقطات للطبيعة، للطيور، مع موسيقى ناعمة تخفي ذلك التوتر المكتوم الذي يتراكم في صدر بطلنا الصغير.

ويستخدم المخرج أحيانا صوت الفتى “أغو” كرواية للأحداث من خلال تعليق صوتي شعري على غرار: “الرصاص يأكل كل شيء، أوراق الشجر، الأشجار، الأرض، البشر، إنه يأكل كل شيء.. يجعل المرء ينزف في كل مكان.. إننا الآن كالحيوانات المتوحشة.. لا مكان نذهب إليه.. أيتها الشمس.. لماذا تشعّين بضوئك على هذا العالم؟.. إنني أريد أن أمسك بك بين يدي.. أن أعتصرك إلى أن تكفِّي عن إلقاء أشعتك.. وبذلك يصبح كل شيء مظلم.. لا أحد يمكنه أن يرى كل هذه الأشياء المرعبة التي تحدث هنا”!

لم يكن ممكنا أن يأتي الفيلم على نحو ما شاهدنا من واقعية وقوة في التعبير إلا بفضل ذلك الأداء الفذ من الممثل البريطاني الكبير إدريس إلبا (من أصل أفريقي) في دور القائد الذي لا يسمِّيه سيناريو الفيلم، فهو يجتهد في تجسيد ذلك التباين والتعقيد الخفّي في شخصية المقاتل الذي يملك قدرة سحرية على الإقناع والتحريض والحشد، ورغم قسوته المفرطة، إلا أنه يعاني في الوقت نفسه من هشاشة داخلية وضعف وشعور بالوحدة وربما أيضا بعبثية الحرب، وكلها جوانب ينجح الفيلم في تجسيدها من خلال مشهد أو اثنين، خصوصا ذلك المشهد الداخلي الذي يناجي فيه “أغو” ويقول له إنه يعتبر نفسه والدا له ويطالبه بالإخلاص للوالد، ثم نفهم نوع “الخدمة” الخاصة التي يطلبها من الصبي، بعد أن يتعاطى المخدر لكي يستر شعوره بالضعف والهوان.

وأمام إدريس ألبا يقف بشموخ نادر الطفل الغاني “إبراهام عطا” في دور “أغو”، في أداء يندر أن نجده في ممثل يقف للمرة الأولى أمام الكاميرا في هذا الدور الصعب، لكنه يصمد في أكثر المشاهد قسوة، خاصة في اللقطات القريبة التي ترصد أدق الانفعالات على وجهه.
هذا فيلم ليس له مثيل من قبل في قوته وقوة تصويره لمأساة الحرب الهمجية والصراعات البشرية التي يدفع ثمنها الأبرياء.


إعلان