ناصر.. الأب الروحي لفراعنة مصر المعاصرين
قيس قاسم
الإقدام على كتابة “سيرة سياسية” لزعماء مصريين معاصرين سينمائيا في حد ذاته مغامرة، وإذا أضفنا إليها الجدل الدائم منذ أكثر من ستة عقود حول أدوارهم السياسية وتأثيراتهم على مجمل التاريخ العربي المعاصر، سندرك حجم الصعوبة التي تواجه المتصدِّي لها.
وإذا أراد السينمائي الجاد أن يخرج عمله بمستوى عالٍ من الجودة سرديا وحكائيا، فلا بد له من حساب ما سيواجه مشروعه من عوائق، منها صعوبة الإحاطة الكاملة بسجل تاريخي يكتنفه كثير من الغموض، ويغمره سيل من التبجيل الشخصي يكاد يصل إلى درجة العبادة، بجانب كثرة المشاركين في كتابته إلى حد تبدو فيه وفرة الخامة المكتوبة والبصرية -في الحالة المصرية- عائقا لاقتراح نص وثائقي واضح ومحايد.
وربما لهذه الأسباب مجتمعة لجأت مخرجة ثلاثية “فراعنة مصر الجدد” المصرية الأصل جيهان الطاهري؛ إلى ترتيب مشروعها الكبير وفق قاعدة مركزية الفكرة والموضوع، لتبعد بهما وثائقيها عن العموميات وتجنبه خطر الضياع في متاهات القراءات الشخصية المتشظّية والمنحازة.
عبد الناصر.. مؤسس هيكل الدولة العميقة
أرادت مخرجة السلسلة أن تجعلها قراءة استنتاجية في تاريخ ثلاثة من زعماء مصر، هم جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك. وبدأت أول فصول ثلاثيتها مع ناصر بوصفه الشخصية الأبرز بينهم والمساهم الأقدم في تأسيس هيكل الدولة العميقة وما تنتجه موضوعيا من سطوة سياسية تضع القائد في مصاف الفراعنة، وهذا ما حاول الاشتغال عليه هذا الفيلم الفرنسي الإنتاج “فراعنة مصر الجدد” (Les Pharaons de l’Egypte moderne).
سِجِل المخرجة جيهان الطاهري المهني يسمح لها بخوض تجربة كتابة تاريخ مصر السياسي بحرية أكبر من غيرها، لتخلصها من اشتراطات المكان كونها تعيش وتعمل خارج مصر، كما أن منجزها السينمائي يدعم خطوتها ويشجع مؤسسات إنتاجية للمساهمة فيها، من بينها؛ الـ”بي بي سي”، والتلفزيون الفرنسي، ومؤسسة الدوحة للأفلام وغيرها، ولهذا لا غرابة أن تأتي أفلامها بمستوى جيد من الناحية التقنية والبنائية، كما يظهر بوضوح في عمليها المهمين؛ “كوبا: أوديسة أفريقية” (Cuba, une odyssée africaine) عام 2007، و”خلف قوس قزح” (Behind the Rainbow) عام 2008.

عهد الفرعون الأول.. قراءة في صفحات التاريخ المصري
مهدت جيهان لكتابة فصل جمال عبد الناصر بمقدمة ربطت فيها بين تاريخ الفراعنة المصريين القدماء ودورهم البارز في إقامة مدن كبيرة طيلة أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وبين معاملة الناس لهم كآلهة فوق بني البشر.
بينما أبقت القوى الأخرى التي جاءت بعدهم على نفس العلاقات السلطوية المهيمنة مع رعيتها، وكان من بين أقواها تأثيرا في تاريخ المجتمع المصري الإمبراطورية العثمانية التي كانت تتوقف عند منجزات محمد علي ودوره في نقل مصر إلى الحداثة، وصولا إلى حكم الملك فاروق، ثم الاستعمار الإنجليزي وهيمنته الفعلية على “السرايا” وقرارتها.
فمن ضعفها وفسادها وخضوعها للأجنبي ظهرت بوادر الرفض الاجتماعي ودفعت نخبة من ضباط الجيش للتحرك لإنهاء فترة حكمهم وأخذ السلطة عنوة منهم.

فراعنة مصر الجدد.. صناع الانتكاسات والهزائم والفرعنة الوطنية
كان مهما لغير العارفين جيدا بتاريخ مصر تلك النبذة التاريخية التي ضمّنتها أغنية محمد منير “بلادي يا عرب” ومقاطع من أفلام مصرية كثيرة تناولت جوانب من تاريخها السياسي والاجتماعي مثل: “الأرض” و”جمال عبد الناصر” و”الرصاصة لا تزال في جيبي” و”السمان والخريف” وبعض أفلام يوسف شاهين وغيره من المخرجين، مما أعطى للوثائقي ديناميكية وحلاوة، وساعدت من ناحية ثانية على الربط بقوة بين الفعل السياسي وانعكاساته المباشرة على المجتمع المصري، مدعومة على طول مسار الوثائقي بشهادات شخصيات لعبت أدوارا مهمة في الأحداث، وكانت شديدة القرب من جمال عبد الناصر.
بينما أعطت الصحف المصرية وعناوينها الرئيسة لكل حدث ومفصل تاريخي مهم صدقية ودعما للقراءة الخاصة بجيهان الطاهري، فكل منجز وثائقي يتناول مرحلة أو شخصية تاريخية معينة إنما يعكس بقدر معين رؤية صاحبه لها.
وفي “فراعنة مصر الجدد”، تظهر رغبة المخرجة جيهان الطاهري في توصيل فكرة مفادها أن فرعنة قادة مصر الجدد هي سبب البلاء، وهم وراء الهزائم والانتكاسات التي حلت بالبلاد منذ ثورة/ انقلاب يوليو 52 حتى يومنا هذا، ومن هنا يمكن تفسير سبب تضمين مقدمة فيلمها صورا من ثورة 25 يناير، باعتبارها نتاجا موضوعا لمعارضة الفرعنة وخطوة لازمة للتخلص من الفراعنة.
صعوبة التخلص من الفرعنة الوطنية هي واحدة من الخلاصات المهمة للفيلم، وقد أخذت وقتا طويلا لتتبلور أمام المشاهد لأنها اشترطت مراجعة وافية لدور الضباط الأحرار في التهيئة للثورة وظهور الانشقاق والخلاف بين قادتها بعد مدة قصيرة من استلامهم السلطة.
إطعام الفلاحين.. خطة ناصر لبناء الدولة الصناعية
يُظهر الفيلم ديمقراطية اللواء والرئيس محمد نجيب، وهو فصل ربما يعد الأندر في تسليط الضوء على شخصية طغت شخصية جمال عبد الناصر عليها، ومحت حنكته السياسية وحضوره الطاغي معالمها، فقد كان نجيب مخلصا لقناعته بمحدودية دور الجيش وحصر دوره في التخلص من الملك فاروق، ثم تسليم الحكم إلى الشعب بأسلوب ديمقراطي انتقالي سلمي.
وقد عززت كل الشهادات هذه الصورة وقدمت مقابلها ميل ناصر إلى احتفاظ الجيش بالحكم، فالحرص على الثورة وقيادة الجيش لها كان أكثر أهمية عنده من الديمقراطية ومن تسليم السلطة للشعب، فقد كره في أعماقه الديمقراطية، وفي مراحل معينة من صراعه مع نجيب سيعلن موقفه منها دون مواربة.
في المقابل كان الرجل يتمتع بحس وطني وعنده مشروع لنهضة مصر ونقلها إلى عصر التصنيع، وهذا ما انعكس على تطبيقاته الاجتماعية التي أمنت للفقراء والفلاحين مستوى معاشيا معقولا، وأعطتهم أملا بحياة أفضل من تلك التي كانوا يعيشونها في العهد الملكي، على الأقل في المراحل الأولى من حكمه.
تهمة العمل ضد الثورة.. مبررات فرعنة القائد
على المستوى السياسي لم يقبل مشاركة أحد في اتخاذ القرارات الحاسمة، فالتف سريعا على الإخوان المسلمين والشيوعيين، ومنع نشاطاتهم وزجّ بقادتهم في السجون وأعدم كثيرا منهم، ويظهر الفيلم الآثار التدميرية لهذا السلوك الذي سيعزز بدوره الميل الشديد نحو “فرعنة” القائد وإطلاق يد الجيش وأجهزة الأمن حرة.
يتابع الوثائقي مسار علاقته مع الإخوان والشيوعيين، وكيف بدأ التعارض بينهما على أساس رؤية كل واحد منهما للحكم، فالديكتاتورية أو عسكرة السلطة لا تتوافق مع مبادئ الشورى التي كان يدعو الإخوان إليها، وتتعارض بالمطلق مع الأفكار الاشتراكية والقيادة الجماعية عند الشيوعيين.
التناقض المبدئي بين الأطراف التي باركت الثورة في بدايتها، هو الذي سيقود كل طرف لانتهاج أسلوب عمل سياسي خاص به، على عكس ما كان يروجه ناصر وأجهزة أمنه بأن الإخوان والشيوعيين كانوا يعملون ضد الثورة.
ونفس هذه التهمة سيوجهها لاحقا للرئيس محمد نجيب، ليزيحه من موقعه ويستلم هو زمام الأمور وحيدا لا ينافسه كائن على كرسيه، ولا أحد يجادله حول رؤيته للبلاد التي حولها إلى سجن كبير من دون أن يشعر الناس بذلك، إلا حين حلت الكارثة وخسرت مصر حرب 67.
النتائج السياسية الاجتماعية للهزيمة تشرحها المخرجة جيهان الطاهري بمِبضَع السينمائي الواعي لما يريد قوله في فيلمه، فالحرب التي عول عليها ناصر لتحقيق حلمه في أن يصبح قائدا مطلقا للأمة العربية قد تبخر، وبعدها شعرت الجماهير بفراغ هائل يحيطها لحظة إعلان استقالته، وما مطالبتهم العفوية والصادقة بالعودة عنها سوى تعبير عن حالة اليُتم والخوف من غياب الأب عن رعاية البيت.
يقابل ذلك وعي ظهر بين أوساط الطلبة وتبلور بمظاهرات حاشدة طالبت بالديمقراطية، لكن سرعان ما تحركت أجهزة مخابراته وقمعتها.

فرعنة القائد.. تغلغل الفساد في مفاصل الدولة
لم يلتفت الشعب إلى غياب قوى سياسية فعالة في البلاد إلا بعد موت عبد الناصر، ولم تدرك الجماهير فداحة سلوكه الديكتاتوري إلا بعد حين، فحتى الحزب الذي أسسه “اشتراكيا وحدويا” وحكم البلاد باسمه، غدا مكاتب تضمن لأعضائها امتيازات شخصية مقابل تأييدهم المطلق لكل خطوة يتخذها الرئيس.
لقد استشرى الفساد في كل مفاصل الدولة، وتشكلت طبقة جيدة من المقربين والمستفيدين من وجود جمال في السلطة، وسيُشجع هؤلاء الممارسات القمعية ويتشبثون بها كطريقة عمل لحل المشكلات التي تواجههم.
وعلى مستوى السياسة الخارجية سيدرك الناس أن بلادهم كانت تتأرجح بين القوى العظمى، فمرة مع الأمريكان، وأخرى مع الروس، وثالثة مع دول عدم الانحياز والعالم الثالث، دون أن يكون لها خط واضح.

“زوار الفجر”.. نواة الفرعنة السياسية النامية
يحيل الوثائقي الفقر الفكري لناصر وسوء تقديره السياسي -بالرغم من حنكته وذكائه- إلى طبيعة حكمه الفردي ونزعته العسكرية التي ستؤسس لاحقا بنيوية قمعية لا يمكن التخلص منها بسهولة، وهذه واحدة من أخطر نتائج السياسية الناصرية.
وللتدقيق في صحتها، يعود الوثائقي إلى أحداث مهمة سابقة سيطرت فيها أجهزة المخابرات على مفاصل الحكم، فقمعت كل صوت معارض، إلى درجة أن أطلق الناس على رجالها لقب “زوار الفجر”، وبسببها مالت أحزاب معارضة ومن بينها الإخوان إلى العنف بوصفه وسيلة تقابل نفس الوسيلة المتبعة ضدهم.
وهذا سيخلق بدوره شرخا سياسيا اجتماعيا كبيرا لعب عليه حكام مصر للتغطية على عيوب أنظمتهم، عبر تعزيز سلطة الجيش وأجهزة الأمن وإزاحة قوى المجتمع المدني والأحزاب السياسية المعارضة، فتشكلت إثر ذلك نواة فرعنة سياسية نمت، وكانت أولى ثمارها ديكتاتورية عبد الناصر.

هل ينتهي عصر الفراعنة؟
مقترح جيهان الطاهري لقراءة فصل “ناصر” من ثلاثيتها يحتمل كثيرا من الجدل لكنه يظل على المستوى السينمائي منجزا مميزا طموحا يفتح الشهية لخوض تجارب مماثلة، فتاريخنا ما زال بحاجة كبيرة إلى إعادة قراءة بصرية يقوم بها صناع سينما يتمتعون بثقافة حرفية وسياسية عامة، ويستندون على خلفية فكرية جيدة، فبدونها لا يمكنهم إنجاز أعمال مهمة، حتى لو توفر لها دعم مالي جيد وفريق عمل محترف.