يحيى الذي رُفِضَ 222 مرة
محمد موسى

هناك ملايين العاطلين عن العمل في أوروبا اليوم. منهم الهولندي من أصل مغربي: يحيى، الذي سيرافقه الفيلم التسجيلي “يحيى و222 رفضاً” للمخرجة الهولندية “جوليا فن جريفنتز” لعام كامل وهو يبحث عن طريق ناجح في واقع أرهقته الأزمات الإقتصادية والسياسية التي تضرب العالم الغربي منذ أكثر من عقد من السنوات.
لم يكن اختيار “يحيى” عشوائياً، فهو يمثل فئة صعبة من أبناء المهاجرين المسلمين تتركّز عليهم الأنظار منذ سنوات، وتطبع الصور النمطية العدوانية حضورهم الإعلامي، فهناك من يعتبرهم فاشلون يهربون من المسؤولية ويتلذّذون بالبطالة، وهناك من يرى أنهم يتعرّضون لعنصريات فردية وأحياناً ممنهجة، وأن هذه يمكن أن تدفعهم بعيداً عن الحياة السويّة، وتجعلهم فرائس سهلة للجريمة والأفكار المتطرّفة.
يُسجل الفيلم المحاولات المشتركة ليحيى ومكتب هولندي حكومي يتخصص بمساعدة الشباب، وهما يسعان لإيجاد شركة توافق أن يتدرب بها يحيى، كي يتمكن من الحصول على منحة حكومية لدراسة اللحام الكهربائي. إذ يشترط البرنامج الحكومي على المتقدم أن يعثر بنفسه على الشركة التي يتدرب فيها طوال فترة دراسته. لكن حتى هذه ستكون صعبة المنال على المغربي الشاب الذي لم يتجاوز العشرين من العمر، والذي ترك دراسته المتوسطة بلا شهادة، وتنازعه اليوم خواطر مُلحة خطرة لجنيّ المال السهل غير الشرعيّ، وكما كشف هو نفسه في مواضع عدة في الفيلم.
إلى جانب يحيى، يُقدِّم الفيلم شخصية جيفري، المُوظف الهولندي المتفهم الذي يشرف على ملف شخصية الفيلم الرئيسية، والذي تُوفِّر شهادته بما تتضمن من تجارب حقيقية، نافذة على ما يواجهه اليوم عاطلين كثر في أوروبا، والفراغ والخواء الذي يعيشون فيه. يبدأ الفيلم بمشاهد لجيفري وهو يقوم بجولته اليومية في المرور على بيوت شباب عاطلين عن العمل، ليحثهم على مواصلة المحاولات وعدم الاستسلام لليأس. وإذا بدت تلك المشاهد وكأنها توحي أن البعض ربما يفضل حقا البطالة، والاستفادة من النظام الاجتماعي الذي توفرّه الدول الأوروبية الغنية، إلا أن الفيلم سيكشف أن الحاضر مُعقد وصعب، وأن هؤلاء الشباب ربما ملّوا المحاولة حقا، وما استسلامهم للبطالة إلا رد فعل يمكن تفهّم خلفياته.
بعد عدد من المشاهد الافتتاحية التعريفية يصل الفيلم إلى “يحيى”، عندها يتغير خط العمل التسجيلي، ويتجه إلى التركيز، ويبتعد عن العموميات، فـ “يحيى” يمثل الفئة التي كانت المخرجة تسعى وراءها: شاب من أصول مُهاجرة مسلمة يعيش في قلب أمستردام، المدينة الأكبر في هولندا. تلتصق كاميرا الفيلم ببطلها، وتسجل الكثير من انفعالاته. من الفرح الطفولي الذي يجتاحه عندما يفكر أنه على أول الطريق لمستقبل مُستقر، وقنوطه في الأيام التي لم يَعُد بإمكانه تحمل رفضاً جديداً، من الشركات التي كان يتصل بها أو يزورها بنفسه. أو عندما تَكَشَّف أن الحكومة قررت أن توقف دعم برنامجها التعليمي، والذي عنى النهاية المؤقته لحلم يحيى بالدراسة أو الوظيفة الجيدة.

تسعى المخرجة الهولندية الشابة لأن تعرف المزيد عن شخصيتها الرئيسية، فتقابل والدته المغربية التي تتحدث اللغة الهولندية بصعوبة، لكنها ستصل إلى الكلمات التي تصف حبها لولدها وأمانيها له بأن يجد العمل المناسب. أما يحيى فسيعود في مشاهد في الفيلم إلى طفولته، عندما كانت أُمّه تعمل في ثلاث وظائف في اليوم لإعالته مع أخوته، وبعد وفاة الأب، ويحيى لم يتجاوز العام الأول من حياته. سيكشف يحيى أنه يتمنى أن يحقق آمال أُمّه، بالعمل والزواج. وأن ما يقف بينه وبين العمل غير الشرعي أو الجريمة، المبادىء التي كرستها الأُمّ البسيطة التعليم لدى أبناءها، وتعبها الكبير على تربيتهم.
تَنزع المُراقبة الطويلة للفيلم أقنعة الكياسة للشخصيات في الفيلم، فتكشف دون تردد أو محافظة اجتماعية عما يجول بداخلهم. فيحيى نفسه لايتردد في الإفصاح عن تطلعه لجنيّ الأموال وأن اختيار المجال الذي يريد الدراسة فيه له علاقة بالدخل الذي يأمل أن يحصل عليه بعد أن يجد الوظيفة. كما يبدو الشاب مبهوراً بالسيارات الحديثة وما توفرّه الأموال من أنماط حياة سهلة، وهو الأمر الذي بدا أن “جيفري” يتفهمه، كجزء من أحلام المراهقين العادية بالماديات. في واحد من المشاهد العفوية، بدا يحيى وجيفري مندهشين بالقدر نفسه بالسيارة الحديثة التي مرت بقربهم، في فعل عفوي نقله الفيلم ليس بغرض المحاسبة أو النقد، بل كطبيعة بشرية فطرية تتطلع دوما إلى الامتلاك والتمتُّع بما يتوفر في هذا العالم من مغريات مادية.
يتقرب الفيلم من منطقة العنصريات الحساسة – رغم أن المخرجة لم تربط بصورة مباشرة بين سوء حظ “يحيى” في إيجاد الشركة التي يريد أن يتدرب بها وأصله العربي المسلم لصعوبة تجميع الأدلة على إدعاء كهذا – فـ “جيفري” الذي يملك خبرات طويلة في العمل مع هولنديين من أصول مهاجرة، سيُدافع في مشهد مؤثر عنهم، ويتحدى الصور النمطية الشائعة عن الشباب المسلم، فهو يؤكد أن الكثير منهم يحاول فعلاً الخروج من أسر الدوائر الضيقة التي يجدون أنفسهم بها، لكنهم يصطدمون المرة تلو الأخرى بواقع صعب يُحِّبط عزائمهم ويدفعهم لمزيد من الإنعزال.
من جانبها تقدم المخرجة على خطوة يتجنبها بالعادة كثير من صانعي الأفلام التسجيلية، فهي وبعد أن ترافق محاولات شخصيتها الرئيسية لإيجاد عمل والتي دامت لعام كامل، قررت أن تتدخل في تحديد مصير الشخصية، فتوسطّت له لكي يعمل في الشركة السينمائية التي تنتج أفلامها.