“صناعة القاتل”
محمد موسى

بعد أن قدمت قناة “إتش.بي.أو” HBO الأمريكية العام الماضي برنامجها التسجيلي الطويل: “النحس: الحياة والموت لروبرت ديرست”، والذي حظيّ بنجاحات نقدية وشعبية واسعة حول العالم، واختارته مجلات وصحف غربية عديدة ضمن قوائمها لأفضل برامج عام 2015 التلفزيونية. طرحت أخيراً شركة “نيتفليكس” الأمريكية التي تُجهِّز وتنتج المواد الفنيّة وتُوفرّها عبر الإنترنت مقابل اشتراكات شهرية، برنامجاً تسجيلياً ضخماً على غرار البرنامج المذكور بعنوان: “صناعة القاتل”، الذي يعود هو الآخر إلى سلسلة من الجرائم الأمريكية المعاصرة الملغزّة ليفككها، مُسلِّطاً الضوء على ظروفها وملابساتها الدقيقة، في أسلوب لا يختلف عما يُعرض في أفلام التحقيقيات والاستقصاءات التسجيلية، مع فارق الزمن الطويل الذي تأخذه هذه البرامج للتحقيق في الجرائم الشبيهة، والذي يصل في حال “صناعة القاتل” إلى ساعات عديدة تتوزّع على عشر حلقات.
يُشَكِل البرنامجان بداية ظاهرة تلفزيونية مُثيرة للغاية. في حين يؤكِّد نجاحهما الشعبي المهم، على شهية الجمهور لهذا النوع من المُقاربات غير المسبوقة. وأن هناك مساحة في البرامج التلفزيونية لحكايات من الواقع تُقدّم بروية وضمن سرديات طويلة جداً، بين أعمال الدراما التي تكاد تهيمن على الشاشات الأمريكية والغربية. يعكس البرنامجان علاقتنا التي تقترب من الهوس بالصورة وحفظها، كما تُبيِّن الصور الأرشيفية التي سجلها الإعلام الإمريكي لسلسلة الحوادث الحقيقية إسراف هذا الإعلام في بحثه عن الإثارة.
لا غرابة في أن يكون انطلاق هذا النوع من البرامج من الولايات المتحدة بالتحديد، ذلك أن البلد يملك علاقات فريدة مع الإعلام. فالمحاكم فيه تسمح بتصوير جلساتها، كما يمكن الحصول على تسجيلات التحقيقات التي تجريها الشرطة بعد انقضاء زمن معين عليها. في حين تبدو علاقة الأمريكي العادي بالإعلام بالمجمل أكثر يسراً من تعامل الأوروبي معه مثلاً. هذه المميزات، ربما ستحصر هذا النوع من البرامج في الولايات المتحدة، وتعرقل انتقالها إلى مناطق أخرى من العالم، وكما هو الحال عادة مع الأفكار التلفزيونية الناجحة.
ولعل الأمر المهم في هذا النوع من البرامج، هو اختياراتها للجرائم والشخصيات التي تُسلِّط عليها الأضواء. فهي يجب أن تتضمن قدراً وافراً من التفاصيل والمفاجآت والغرابة والظلم الذي لا يُصدَّق، ما يجعلها قادرة على ملء الزمن التلفزيوني الطويل الذي يُخصّص لها. فكلا البرنامجين يُحقِّق في أكثر من جريمة قتل تُتهّم بها شخصيتاهما الرئيسيتان. كما أن البرنامجين ورغم جهدهما غير المسبوق تلفزيونيا للتحقيق في ملابسات تلك الجرائم، لم ينجحا في هَزَّ الواقع أو يدفعا القضاء الأمريكي لمراجعة أحكامه على شخصيتي البرنامجين، وإن اقتربا كثيراً من ذلك. أعاد البرنامجان تعريف مشاهدين كثر بقصص تُغلّفها الغرابة، كما لم يحصر البرنامجان نفسيهما بالقصص الشخصية، إذ اجتهد صُنّاعهما في مقاربة قضايا أوسع من مدخل التجارب والمِحَن الخاصة للشخصيتين الرئيسيتين.
قصة “ستيفين أيفري”

تُمهِّد الحلقة الأولى من برنامج “صناعة القاتل” زمنها، بالتعريف بشخصية البرنامج الرئيسية: “ستيفين أيفري”. الرجل البسيط، ابن العائلة الأمريكية التي تنتمي إلى طبقة العمال البيض الفقيرة وصعبة المراس. عاش أيفري طفولة عادية، فهو لم يكن طفلاً ذكيا بالمرة. وانخرط مُبكراً في عمل العائلة بتصليح السيارات وتفكيكها. تزوج أيفري وأنجب أبناءً. وكانت حياته تبدو وكأنها تسير على الطريق ذاته الذي قطعه أسلافه. هذا كله سيتغير في عام 1985 بعد اتهامه بالاغتصاب والشروع في قتل امرأة متزوجة وهي ابنة لعائلة مرموقة من مقاطعة مانيتووك الأمريكية. سيحاكم أيفري ويُرسل إلى السجن لفترة 32 عاماً. لكن عائلته التي لم تفقد الأمل في براءته ستنجح في إثارة القضية مجدداً، وسيتم الاستعانة بتقنية الحامض النووي التي بدأ الأخذ بها في بداية الألفية الجديدة، لتحليل الشَعر الذي وُجد في مسرح الجريمة. عندها يتكشّف أن أيفري بريء تماماً ليُطلق سراحه بعدها في عام 2003.
لكن كابوس أيفري لن ينتهي مع الإفراج عنه بعد 18 عاماً من الحبس ظلماً، إذ ستنتظره محطات أكثر قتامة. فبعد سنتين من الحرية، انشغل فيهما في جهد قضائي لإجبار جهاز الشرطة المحلي والقضاء على دفع تعويضات مقابل سنوات السجن الطويلة، سيجد أيفري نفسه وسط جريمة أخرى أكثر وحشية، إذ سيُتهّم مع ابن أخته بتدبير اغتصاب وقتل امرأة أمريكية. يُركز البرنامج في حلقاته الست الأخيرة على الجريمة الثانية، لكنه سيعود بانتظام إلى ظروف الجريمة الأولى، في محاولته لتفسير عدد كبير من الحوادث الغريبة، بعضها اقترفه جهاز الشرطة الأمريكي المحلي، والبعض الآخر لازالت دوافعه غير مفهومة.
البرنامج كمُحقِّق محايد
يسترجع البرنامج التلفزيوني تفاصيل الجريمتين، ويُعيد البحث فيهما، مستعينا بشهود كانوا على علاقة مباشرة بالقضية، منهم محامي أيفري نفسه، وعائلته، والأرشيف الصوري الضخم الذي تجمع عن تلك السنوات. يغيب التعليق الصوتي عن البرنامج، والذي يقود عادة الرحلات التحقيقية، ويُبيِّن الانتقالات بين التيمات والمحاور. استعاض البرنامج عن التعليق الصوتي، بشروحات تظهر على الشاشة بين مشاهده، كما يلجأ إلى الجرافيك ليوضِّح للمُشاهد علاقة الشخصيات التي تمرّ في البرنامج ببعضها. وإلى جانب المواد الأرشيفية، يُقدِّم البرنامج مادته الصورية الخاصة، للأمكنة التي وقعت بها الحوادث. هذه المشاهد الصامتة غالباً، ستربط أيضاً بين المشاهد الأرشيفية وستشكل الخلفية الصورية للمكالمات الهاتفية العديدة التي أجراها أيفري وابن شقيقته مع عائلتهما من سجنهما. كما ستنقل هذه المشاهد أحياناً القسوة والحيرة والضياع. خاصة المشاهد التي صَوّرت من الجو مرآب السيارات المحطمة لعائلة أيفري، والتي بدت كناية لحياة هذه العائلة في العقدين الأخيرين.
الفرد ضد السلطة

تتشكّل سريعاً سردية البرنامج الأساسية، التي تقترح أن هناك مؤامرة ما حيكت ضد الشخصية الرئيسية. فهناك من ينقل في الحلقة الأولى من البرنامج، أن جهاز الشرطة الأمريكي يملك عداءً قديماً مع عائلة أيفري، وهو الذي أغشى بصيرتها عن كثير من الوقائع في الجريمة الأولى. وأن خوفها بعد ذلك من الدعاوي القضائية بعد أن تبين براءة أيفري من الجريمة الأولى، جعلها تُلفِّق تورطّه بالجريمة الثانية، خاصة مع وجود العديد من الإشارات المُحيِّرة عن أداء الشرطة. ينفذ البرنامج إلى التفاصيل الصغيرة، ويُقلِّب كثير من الأحجار المتروكة، بحثاً عما أغفلته الشرطة والقضاء في الجريمتين، كتحقيق الشرطة الذي شابته الكثير من السقطات القانونية مع ابن شقيق المتهم، محدود القدرات الذهنية، والذي تمثل شهادته على خاله، واحدا من الأدلة المُهمة في الجريمة الثانية.
أو قضية دم المتهم الذي وجد في سيارة القتيلة ذاتها، والذي أثار الدفاع أسئلة حوله، بعد أن تكشف أن عينة من دم المتهم التي كانت الشرطة تتحفظ عليها لدواع تحقيقية من الجريمة الأولى، تم فتحها، الأمر الذي يفتح الشكوك، بأن هناك من تلاعب بها، وربما نقل بعضاً من ذلك الدم إلى سيارة الضحية.
تُوفِّر الأفلام الأرشيفية لتغطيات التلفزيون الأمريكي للجريمتين، نافذة مهمة للبرنامج على حال إيفري وعائلته، خاصة والدته، المرأة التي لم تتخلّ عن ابنها أبداً. فنراها عبر تلك الأفلام وهي تشيخ تدريجياُ وتثقل خطواتها في طريقها إلى السجون الذي كان ولدها محبوسا فيها خلال العشرين عاما الأخيرة. الأُمّ ستكون موجودة أيضاً في جميع جلسات المحكمة. هناك بورتريه مهم آخر للمتهم نفسه، يتجمع بعد عشر ساعات من البرنامج. ليس أيفري أكثر الرجال فصاحة وذكاءً، لكنه كان يُعبِّر بكلمات قليلة غير مرتبّة عن محنته الذاتية. فسجنه الأول قاد لطلاقه من زوجته الأولى، وسجنه الثاني عجّل بنهاية علاقته مع صديقته. في إحدى الحلقات الختامية من البرنامج، وبعد أن يسمع أيفري أن صديقته التي كانت وفيّة له، قررت قطع علاقتها به، يبوح لأمه في مكالمة هاتفية، أن الحياة أصبحت بلا معنى، وأنه يُفضِّل الموت على العيش في هذا الكابوس.
وإذا كان شائعاً أن هذه النوعية من البرامج التسجيلية الطويلة تفتقد لعامل الجذب بسبب الحوادث العامة المعروفة التي تقدمها، وتعاني من شعبية وشيوع القصص التي تتعرض لها، وسهولة اكتشاف ما حصل لأبطال هذه القصص، إذ يُمكن وعن طريق الإنترنت التوصُّل إلى مصائر شخصياتها وحالهم اليوم، بيد أن صرامة وجودة بناء هذه البرامج، لا يجعلها تتوسل التشجيع عبر إخفاء نهاية القصص عن المشاهد، بل تعتمد على إضفاء الإثارة والتشويق على الرحلات التحقيقية نفسها، وما تكشفه هذه الرحلات من إجحاف لا يصدقه العقل، وتخبط النظام القضائي في واحد من أكثر البلدان تقدماً في العالم، والأثمان البشرية التي تُدفع بسبب بلادة وظلم السلطات.