سيناترا: “الكل أو لا شيء على الإطلاق”

قيس قاسم

“كل أغنية هي جزء من حياته وكل فصل من حياته يحكي  فصلاً من تاريخنا”.. قد يكون هذا التوصيف الذي قدّمه الناقد الفني  “تيري تيتشاوت” من بين أكثر التوصيفات دقة لمنجز وشخصية المغني والممثل الأمريكي الشهير “فرانك سيناترا”، وربما قد يكون، حسب ما يراه المخرج  “أليكس غيبني”، الأصلح لبناء نصّ وثائقي عليه، يتصدّى عبر عملية إعمار فنية دقيقة، استنباط  معانيه الكبيرة والخروج منه بصورة بانورامية عن حياة مبدع شهرته بلغت الآفاق، وترك منجزه بصمة واضحة على حقبة مهمة من تاريخ الفن.

حاول الوثائقي Sinatra: All Or Nothing At All  تقديمها عبر نص سينمائي طويل (أربع ساعات في جزئين) سطّر بصرياً خلالها سيرة حياة مليئة بالإبداع لم تغب عنها الأفراح ولا الأحزان، امتلأت على الدوام بالنجاحات والإحباطات، ولِغناها ساهم بشر من كل صنف في تسجيل فصولها، وكانت السياسة، وبدرجة ما، تناور وتلعب فيها، فجاءت بسبب كل هذا شديدة الثراء لأن صاحبها قرر ومنذ البداية أن يحصل على “الكل أو لا شيء على الإطلاق”.

ترك أنصاف الحلول ونحّى الخيارات الناقصة جانباً فاندفع نحو تحقيق هدف أو حلم مستحيل. حاول ونجح في مراحل من حياته وأخفق في مراحل أخرى لكن النتيجة النهائية المستخلصة منها تؤكد ما كان يريد الوصول اليه، على المستوى الإبداعي طبعاً، وهذا ما أدركه المخرج الأمريكي “غيبني” جيداً فقرر أن يكون صوته لقوته وسعة تردداته ومصدر نجاحه الأقوى، الوسيلة الأساسية في كتابة نصّ عمله السينمائي الباهر، أما بقية العناصر (مقابلات صحفية، أرشيف شخصي، مقاطع من أفلام .. وغيرها) فأُريد لها أن تكون “أدوات” مساعدة ضمن مساحاتها الصوتية، لأنه قد تكفّل، وبمساعدة المنتج فرانك مارشال، بضمان الصورة المناسبة لتأطيرها، وربما قد يكون هذا هو التميُّز الأبرز في المنجز الذي زامنت شركة الإنتاج الأمريكية “إتش.بي.أو” عرضه مع حلول مئوية ميلاد سيناترا.

وصفنا له بـ”الوثائقي الصوتي” يفرض علينا مقاربته بنص ستيفان رايلي الأخير “أصغِ إليّ مارلون” الذي تناول فيه جانباً من حياة الممثل الأمريكي مارلون براندو، الذي اعتمد في عمله بالأساس على تسجيلاته الصوتية التي كتب بها مذكراته الشخصية وأفكاره كما فعل سيناترا خلال مقابلاته الإذاعية وتسجيلاته الصوتية الخاصة على كل أغنية غنّاها وكل تجربة حياتية مرّ بها. فالصوت في الاثنين هو الأساس، لكن المدهش في الأمر أنهما وعلى المستوى البصري شُبعّا بأعلى درجات الإشباع الصوري لدرجة لا يمكن فيها الالتفات إلى جانب دون الآخر، فمسيرة سيناترا وعلى طولها عُرضت أمامنا بلغة سينمائية صرفة بكل ما تعنيه الكلمة اصطلاحاً.

سيرته بدأت  تقليدياً من طفولته التي عاشها في مدينة هوبوكين التابعة لولاية نيو جيرسي وتأثرّه بموروث عائلته الإيطالي. سيلعب أصله دوراً فاعلاً في تكوين شخصيته، وهو المولود في الولايات المتحدة الأمريكية! ما يعكس طبيعة تكوينه الاجتماعي كابن لوالد مهاجر وطبيعة المجتمع الأوسع الحاضن له، والذي سيعود في حكمه عليه أثناء المنعطفات الحادة في حياته إلى أصله “الإيطالي” بكل ما توحيه “الصفة” من دلالات في الذهنية الأمريكية.

ولأنه الولد الوحيد لعائلته خافت أمه قوية الشخصية عليه، ومنعته من الاختلاط  كثيراً بأقرانه، ولهذا مال إلى العزلة وشعر بها طيلة حياته. والده كان بسيطاً حصل على وظيفة “إطفائي” وظل يعمل  فيها حتى تقاعده.
علاقته به فيها كثير من تعابير السلوك “الإيطالي” التقليدي حيث الأب لا يبوح بحبه لأولاده صراحة مع حرصه الشديد على تماسك عائلته. سلوك امتزج بعقد الوالد القادم من البحر والناشيء في وسط المافيات الإيطالية.

صورة الجد وهو يحمل مدفع الرشاش تقليدية راسخة في ذهن سيناترا مثل رسوخ الصورة النمطية لعصابات المافيا وتهريبها للمشروبات الكحولية في العقود الأولى من القرن الماضي في ذهن الأمريكان، حتى في الأحياء الفقيرة التي بدأت تفرز هوياتها القومية وتُرسخّها كما رسخ الأيرلنديون حضورهم كملاكمين أشداء أفرزت تنميطاً لاحقاً لصورتهم كسياسيين، على عكس الطليان الذين ظلّوا يتنازعون بين صورة المهرب للممنوعات والمغني في الحانات وبين رغبتهم الانسجام والارتقاء في السلم الاجتماعي وهذا ما ظهر جلياً في تكوين الصبي سيناترا، حين صار يواظب على دخول مطعم جده والغناء فيه على أنغام موسيقة البيانو”الآلي” مقابل حصوله على مبلغ بسيط.
من هذا المكان سينطلق صوت رخيم لصبي لم يمرنه جيداً لكنه يتمتع بموروث إيطالي يساعده على خوض تجربة الغناء أينما حلّ ما دام هناك مطاعم ليلية ورجال عصابات إيطاليون يرتادونها.

سيتأثر في سنوات مراهقته كثيراً بالموسيقى الأفرو أمريكية وبالفنانين السود المعبرين بموسيقاهم عن الاضطهاد العنصري الذي يتعرضون إليه. هذان الجانبان سيجريان سوية في دم الشاب التوّاق لأن يصبح فناناً.
عن تلك المرحلة يحشد الشريط كمّاً رائعاً من الأشرطة والتسجيلات التي تعكس الحياة الأمريكية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ويُقدِّم صورة مدهشة للحياة الفنية فيها وبشكل خاص الموسيقى، التي سنرافق تطورها في دروس مجانية يوفرها لنا شريط همّه الأول تفكيك العلاقة شديدة العضوية بين الفن وبين التطور الاجتماعي الأمريكي وتأثيره المباشر على سيناترا.

يظهر في ثنايا تجاربه الأولى قوة الإذاعة بوصفها منبراً لانتشار الأصوات الفنية كما يفعل التلفزيون وبقية الوسائل السمعية والبصرية في وقتنا الحاضر، وسيفرض هذا الجانب شروطه على النص السينمائي ويجبره على ضمان التناغم بين الصوت والصورة لحين بروز دور التلفزيون والسينما لاحقاً.
من المدهش أن نتعرف على نباهة سيناترا والتفاته إلى هذا الجانب وكأنه كان يتنبأ بما ستؤول إليه الأيام ويصبح صوته عنصراً مهماً في كتابة مذكراته.
فكان يُعلِّق على كل مرحلة يمرّ بها ويربطها بجوانب من حياته مثل تعرّفه على زوجته نانسي وإنجابه منها أطفالاً ستساهم أصواتهم (شهاداتهم) في دعم متن الشريط  الحكائي وتضفي عليه أبعادا درامية مهمة لفهم شخصية رجل تواق إلى الحرية والتحرك نحو آفاق رحبة أهم بالنسبة إليه من عادية العلاقات الأُسرية.
التطور المهم في مسار حياته الفنية سيبدأ مع ذهابة إلى نيويورك في أواسط الثلاثينيات بعد اشتداد الأزمة الاقتصادية على عائلته.

سيلعب الفقر واضطراره للسفر دوراً في إغناء الشاب الطموح، وإن أخذ وقتاً طويلاً عاش خلاله سيناترا سنوات من العوز والانتقال من ناد ليلي إلى آخر ومن فرقة إلى أخرى، حتى وصل إلى فرقة “بيني غودمان” وحصوله على فرص الغناء معها في ذات الوقت الذي كان يتعلم فيه الأداء الصحيح على يد مغني مدمن مغمور.
قبوله بعرض العازف الموسيقي “هاري جيمس” سيفتح له الآفاق وستساعد الجولة التي قاما بها في عديد من المدن الأمريكية على خوض تجربة جديدة خارج الأمكنة الأولى.
فتح له العام الأخير من الثلاثينات أبواب الشهرة حين شارك في تسجيل أسطوانة “الكل أو لا شيء على الإطلاق” مع  الفنان جاك ليونارد، ثم توالت أغانيه وأخذت حظها الجيد من الانتشار، خاصة  خلال السنوات الأربع الأولى من الأربعينيات رغم دخول الولايات المتحدة الأمريكية طرفاً في الحرب العالمية الثانية.

لم يتطوع للخدمة العسكرية لحرصه على عائلته الجديدة التكوين ولأسباب صحية، فانهالت عليه التهم من الحاسدين وراحوا يروجون دعاية تقول؛ إن المافيات الايطالية تعينه على النجاح وأن أغنيته “لن أبتسم بعد الآن” خلال الحرب لا تُبرِّر هروبه من التطوّع والمساهمة في الحرب.
لم يساعد دعمه السخي لمجهودات الحرب وأغنياته التضامنية مع الجنود وتأكيد قرار اللجنة الطبية العسكرية  لصالحه في التخفيف من الضغوطات السياسية التي ازدادت عليه مع إعلانه دعم حملة المرشح الرئاسي “فرانكلين روزفلت”، فوجهّت إليه تهم “الشيوعية” زوراً وجرّته إلى متاهات مرهقة.

عن مواقفه السياسية وتحولاته الفكرية يخصص الشريط حيزاً كبيراً، لكنه يتعمد تجزئتها وتوزيعها على طول الشريط. يتوقف طويلاً عند موقف أخلاقي لم يتنازل عنه أبداً طيلة حياته ويتعلق بالسود وما يتعرضون له. لقد وقف إلى جانبهم وأحبهم بعفوية الناشيء في مناطقهم منذ الصغر. لم يفرق بسبب اللون بين البشر بل ظل يدعم المغنين والموسيقيين السود الذين عملوا معه.
كل المواقف المعروضة تقدم صورة ناصعة له في هذا الجانب، في حين ظلت مواقفه السياسية مرتبكة، فنراه جمهورياً مرة وديمقراطياً مرة ثانية، قريب من المافيات دون أن يكون منهم، يساعد في دعم الفقراء في بلاده وخارجها ويعيش حياة لهو وبذخ مقابلها.
كان على المستوى السياسي متذبذباً فيما كان على المستوى العنصري إنساناً سوياً وشجاعاً دفع ثمن مواقفه كثيراً لكنه ظل ثابتاً عليها.

لم يصل سيناترا إلى القمة إلا في الخمسينيات والستينيات، وبالتالي مثلّت الأربعينيات له فترة تمهيدية لنجاح لاحق على أكثر من مستوى وفي مقدمتها العمل السينمائي لأسباب ذات صلة بالتحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها أمريكا وتناولها الوثائقي بالتحليل على ضوء تجربة سيناترا الخاصة، وليست من خارجها، وهذا عنصر إضافي يضاف إلى عناصر نجاح الفيلم على المستويين الفني والتحليلي ومحاولته تشخيص إخفاقاته وصعوبة تأقلمه مع الموجات الفنية الجديدة طيلة حياته الفنية، وخاصة تلك المعارضة للحروب وبشكل خاص حرب فيتنام وظهور الميول الموسيقية التجديدية في الثمانينيات، وبنفس القدر يصح تحليل الوثائقي حين تناول تأثير المدارس السينمائية الجديدة على نظرته للفن السابع المحافظة والتقليدية على العموم.

فالسينما في الأزمات وفي زمن الحرب تصبخ فناً مكلفاً، في حين تبقى الإذاعة مجانية ومتاحة للجميع، ثم جاء التلفزيون في فترات لاحقة وقوى مكانته على حسابها فيما ظل ازدهار السينما مقروناً بالانتعاش الاقتصادي حيث يتاح للناس إمكانية شراء البطاقات والدخول إلى صالات عرضها، لقد ارتبط مسار سيناترا الممثل السينمائي بكل تلك المراحل وما تلاها، فخلال الأربعينيات لم تحظ أفلامه بقبول نقدي جيد إلا الارتباط به كمطرب رائع لعب فيها دور المغني أكثر من دور الممثل، ونجاح فيلمه Anchors Aweigh عام 1954 لم يشذ عن القاعدة.
لقد نقلت السينما ابن المهاجر الإيطالي إلى قمة المجد فصار بفضل ما تدرّه عليه من مال غنياً ومشهوراً إلى جانب شهرته كمغن، لكنها جلبت له في نفس الوقت عداوات ومشاكل كثيرة مع عائلته التى انفصل عنها، وراح يعيش تجارب عاطفية مع نجمات هوليوود وينتقل من تجربة إلى أخرى.

تمهّل الوثائقي في عرضها لكونها جزءاً من تكوينه كفنان أسطوري جمع بين فني الموسيقى والسينما وأبدع فيهما، ومن خلال ما قدّمه لهما كسب إعجاب الناس في كل مكان، فلم تبق بقعة في الأرض لم تصدح بإحدى أغانيه كما لم تتردّد دور السينما وعلى اختلاف مستوياتها في عرض فيلم من أفلامه مهما كان مستواه، فاسمه كان كافياً لجلب جمهور كبير، رافق مسيرته الفنية خلال ستة عقود قدم فيها سيناترا الكثير وترك بصمات واضحة عليها كما عرضها شريط “الكل ولا شيء على الإطلاق” وأحاطنا بذات الدهشة التي كانت تصيب معجبيه كلما سمعوا  أغنية من أغانيه الحلوة، التي تساعد كلماتها اليوم فن السينما على توثيق جوانب مهمة من حياته وفنّه.


إعلان