“غيبوبة”: فيلم عن حالة الحصار في سوريا
أمير العمري

لاشك أن ظهور كاميرا الديجيتال (الرقمية) الصغيرة قليلة التكاليف، فتح الباب واسعا أمام كثير من الشباب لتصوير الأفلام، وخاصة الأفلام الوثائقية التي لا تحتاج إلى ديكورات ضخمة أو ممثلين، ولكن مغامرة تصوير الأفلام بكاميرا ديجيتال، في المواقع الطبيعية دون حاجة إلى أجهزة الإضاءة المركبة، أو تقنيات ما بعد التصوير، هي مغامرة محفوفة بالمخاطر، وهو ما يمكننا التأكد منه بعد مشاهدة فيلم “غيبوبة” Coma الذي أخرجته وصورته المخرجة السورية الشابة “ساره فتاحي”.
عُرض فيلم “غيبوبة” (98 دقيقة) في مسابقة الأفلام الأولى بالدورة الـ 33 من مهرجان تورينو السينمائي (20- 28 نوفمبر).
فكرة الفيلم جيدة دون شك، وهي رصد مشاعر ثلاث نساء من ثلاثة أجيال مختلفة: الجدة والأم والإبنة، أصبحن يعشن في عزلة تامة عن العالم، داخل مسكن في العاصة السورية دمشق في الزمن المضارع، أي بينما تتزايد حدّة الانفجارات والاشتباكات والمعارك بين الجماعات المسلحة والمقاومة السورية والقوات المسلحة التابعة ��لنظام السوري. ولكن من دون أن نشاهد أي صور للمعارك والاشتباكات بل نسمع فقط، بين حين وآخر، صوت انفجار قنبلة عن قرب، أو اهتزاز زجاج نافذة.
تضع المخرجة – التي قامت أيضا بتصوير الفيلم، الكاميرا داخل تلك الشقة محدودة المساحة في إحدى بنايات دمشق، تحاصر الوجوه وتحصرها في لقطات، معظمها من اللقطات القريبة الكبيرة (كلوز- أب)، حيث تراقب الكاميرا وتستمع وتُسجِّل ما يجري من مناقشات بين الأم والجدة والحفيدة، وهي مناقشات ربما لا تبدو ذات أهمية كبيرة من ناحية تفاصيلها، لكنها تعكس على نحو ما، حالة التوتر، ومشاعر الإحباط والخوف من المستقبل، أو بالأحرى، ضبابية الرؤية فيما يتعلق بالمستقبل القريب.
لقد اختارت النسوة البقاء داخل المنزل حرصا على حياتهن.. خاصة وأن الأم لم تعد تعمل وأصبحت أيضا منذ فترة امرأة مطلقة، وهي تبدي طوال الوقت، مشاعر النفور من فكرة العودة إلى زوجها، بينما تُعبِّر كثيرا عن افتقادها لرجل يقف الى جوارها ويُفكِّر معها في كيفية الخلاص من هذا المأزق، فالرجل حاضر باستمرار في أحاديث ومشاجرات النساء الثلاث، فالجدة دائمة التذكير لابنتها بوالدها الراحل، كيف أنه لا يوجد رجل في العالم يعادله أو يوازيه في كرمه ونبله وشجاعته وتحمّله للمسؤولية، والابنة – الأم توافق لكنها ترى أن الحديث عن الماضي لم يعد مفيدا الآن، فقد مضى ما مضى، وقد أصبحت الآن تواجه الحياة وحدها، لا تعرف كيف تنفق ولا كيف ستخرج من هذا المأزق الذي يخنقها، ويخنق الجميع ويدفعهن تارة إلى الإفراط في التدخين، مع لقطات قريبة متكررة لمطفأة السجائر التي امتلأت بأعقاب اللفافات، أو تلجأن حينا آخر، إلى “حرق الوقت” في لعب الورق مع سيدتين من الأقارب، تحضرن أحيانا للزيارة، حيث يتحلّق الجميع حول طاولة خشبية للعب الورق، وترتفع أصوات الشجار بينهن كل تتهم الأخرى بالسرقة والغش في اللعب، ومن حين لآخر، يرتد الفيلم إلى الذاكرة وإلى الماضي، من خلال صور عابرة لما كان، تتداعى على شكل أقرب إلى الأحلام أو الخيالات.

كاميرا سارة فتّاحي مثل عين تراقب ولا تتدخل، حركتها نادرة، وجودها غير محسوس لكي تتيح الفرصة أمام النساء الثلاث للتصرُّف والتحرك والحديث بشكل طبيعي دون حرج أمام الكاميرا. أحاديث السياسة غائبة بشكل واضح، فنحن أمام نماذج لنساء يرغبن فقط في الاستمرار في الحياة في سلام وأمان دون أن ينشغلن كثيرا بمن يقتل من ولماذا، فليست هذه هي القضية الأساسية، كما يُفكرّن بصوت مسموع في كيفية الخروج من حالة الحصار التي يعشن فيها، ورغم ذلك تأتينا الأخبار من المذياع طول الوقت، من محطات إذاعية مختلفة، تبث أخبار التطورات التي تجري في البلاد وفي المنطقة بل وفي العالم، وفي لقطة تركز الكاميرا طويلا على وجه المرأة وهي تتطلع من وراء زجاج نافذة على ما يجري في الخارج، لكننا لا نرى ما تراه بل نتأمل ملامح وجهها المليئة بالقلق.
غير أن المشكلة الأولية البسيطة تتلخّص هنا في أن المغالاة في التبسيط والبساطة، أي الاكتفاء بوضع الكاميرا والتقاط المناظر من داخل ردهات ضيقة مظلمة، وأيضا بسبب قلّة الضوء الطبيعي الذي يأتي من خلال المصادر الطبيعية، مع انقطاع الكهرباء كثيرا أثناء التصوير، أن تصبح المشاهدة مرهقة للعين، والصور تمتليء بالحبيبات، والوجوه تبدو غائمة، وتساهم المساحة الزمنية الطويلة، المفتوحة أمام اللقطات الثابتة على الشاشة، في إرهاق العين، خصوصا مع التركيز الخاص من جانب المخرجة، على المرأة التي تجاوزت الخمسين من عمرها وتبدو في حالة من التوتر والإرهاق، تتحدث أحيانا دون انقطاع بل وتحاول أن تخترع سياقا لا معنى له لاستمرار الحديث مع المرأة العجوز.
تُفضِّل المخرجة التركيز على وجه الابنة – الأم، وإبقاء الجدة خارج الصورة، يأتينا صوتها من خارج الكادر، ورغم أنها تحيط جيدا بالمكان، إلا أن تجربة المشاهدة لمدة 98 دقيقة والكاميرا تنتقل بين الوجوه في لقطات قريبة، مع إضاءة شاحبة، تجعل التجربة مرهقة، صحيح أن جانبا من التأثير المقصود للفيلم أن يجعلنا نشعر بحالة الاختناق والحصار التي تعيشها الشخصيات في سوريا وهي تعيش حالة الحرب، لكن مع تقديرنا لكل ذلك، إلا أن السينما في نهاية الأمر هي أساسا، تعبير بالصورة ويجب أن تكون الصورة واضحة، غير مرهقة للمتفرج مهما كان المكان نفسه الذي يدور فيه التصوير ضيقا ومحدودا، ويجب أن يضمن وجود صورة واضحة من خلال إضاءة مناسبة في كل الأحوال، عندما تفقد القدرة على تبيُّن تفاصيل الصورة ومعايشة التفاصيل، تضيع القدرة على التركيز ويفقد المتفرج الاهتمام!
مخرجة الفيلم سارة فتّاحي من مواليد عام 1983. درست القانون في جامعة دمشق ثم درست الفنون وتخرّجت من معهد “أدهم إسماعيل” للفنون الجميلة في دمشق. وبين عامي 2003 و2008 عملت في الرسوم لحساب قنوات تليفزيونية منها قناة “سبيس تون” وقناة “الجزيرة للأطفال”. وفي الفترة من 2008 حتى 2011 عملت في تصميم الديكور لعدد كبير من المسلسلات الدرامية التليفزيونية السورية. ومنذ 2010 بدأت في إنتاج عدد من الأفلام التسجيلية، وكان أول أفلامها التسجيلية كمخرجة فيلم “27 مترا” عام 2013.