أطفال سوريا .. في الانتظار

 
قيس قاسم
 
 تنفرد الحرب الأهلية السورية المرعبة عن غيرها من الحروب بسرعة نقلها إلى السينما، فمنذ اشتعالها قامت كاميرات، محلية وعربية وعالمية، برصد مجرياتها وقدم سينمائيون مقاربات كثيرة عنها، كل واحدة تناولت جانباً منها، فغدا المشهد السوري حاضراً على الشاشات بقوة، وليس أدل على ذلك من أن مخرجاً ألمعياً مثل الألماني؛ “مارسيل ميتلشفين” قدم فيلمين عن أطفال حلب: الأول بعنوان “أطفال على خط النار” 2014، وأكمله هذا العام بآخر حمل عنواناً مقارباً؛ “أطفال على خط النار: الهروب”، فيما تقاربت رؤية المخرج السوري “فراس فياض” معه بشدة في منجزه الجديد “هروبي”. 
الوثائقيان تشاركا هاجس الطفولة السورية وذهبا لتوثيقها في المكان الذي شهد تدميراً وتشويهاً لها؛ سوريا ولاحقا قصص أطفال من بلاد تعرّضت للخراب، ما دفع كثيرا منهم إلى ركوب البحر وخوض مغامرة الهجرة وحدهم أحياناً، هرباً من الموت وأملاً في حياة جديدة تعوضهم بعض الشيء عما فقدوه في موطنهم الذي ما عاد يستوعب وجودهم.
 
المشترك الأبرز بين الفيلمين: الأطفال وتسيُّدهم المشهد إلى جانب المكان بوصفه بطلاً لا يمكن لوثائقي يقوم برصد حياة الهاربين منه والمارّين بدروب موحشة وبحار هائجة تجاهله وبالتالي فالبطلان متشابهان في عملي السوري والألماني ومختلفان في المعالجة السينمائية وأسلوب تجسيدها أيضاً.
توفرّت للألماني خامة جاهزة، كونه عاد إلى نفس الأسرة السورية التي صورّها قبل عامين وركز وقتها على تصوير حياة أطفالها في ظل الحرب والدمار المتسيّدين المشهد الحلبي، فيما يجرب اليوم رصد رحلتهم منها إلى ألمانيا مستفيداً من معرفته بتفاصيل حياتهم ومستنداً على مشاهداته السابقة للمدينة وبالتالي كانت عنده فرصة ليقارن بين ما جرى لها خلال سنتين، فيما ركزت تجربة السوري على مراهقيْن اضطرا للخروج ومواجهة العالم الخارجي دون استعدادات مسبقة فكانت تجربة تستحق المعايشة والتسجيل.
 
هروبي..
 
على لسان الصبيين “عبد الله صباغ” و”غيث سلطان” سيَبني المخرج السوري “فراس فياض” ومساعده الدنماركي “راموس نيلهولم شميت” معمار فيلمهما الحكائي؛ “هروبي” ولأن بطليهما من بيئة واحدة فقد تركا لهما حرية التعبير عن خصوصيتهما ليجسدا درامياً جانبين من قصة كل واحد منهما؛ أي العام .. رحلة الهروب، والخاص المتعلق بحياتهما والإحاطة بالظروف الخاصة التي عاشا فيها في مدينتيهما. قصتهما متشابهة على مستوى الحدث فالاثنان هربا وبطلب من أهلهما خوفا عليهما من الموت. اجتمعا على غير موعد في مدنية أوروبية غريبة، أرادا الانطلاق منها إلى مكان جديد أشيع الكثير عن كرمه. كان “غيث” يحلم بالوصول إلى ألمانيا فيما رفيق الدرب “عبد الله” الذي تعرف عليه في أثينا وظلا صديقين حتى بعد افتراق  طرقهما، يريد الذهاب إلى السويد لوجود عمه فيها.
 
كل واحد منهما سرد بعفوية ما جرى له خلال المرحلة الأولى من الرحلة وعدا بعض تسجيلات كاميرا التليفون المحمول يكاد الكلام الشفهي أن يكون الوسيلة الوحيدة التي عبرا فيها عن مشاعرهما وما تعرضا إليه من أهوال أشدها عليهما كان اجتياز بحر إيجه نحو اليونان بقوارب مطاطية، لكن وبعد لقائهما في اليونان اختلف الأمر. صارت الصورة تنطق بما يحيط بتجربتهما من تفاصيل. فترة انتظارهما في اليونان لخصت ما يتعرض له أطفال سوريا من ضغوط هائلة في المكانين. في الداخل حيث يسود الخوف ويُحْدق الخطر بهم في كل مكان واحتمال موتهم القوي بالقنابل والبراميل المتفجرة، إلى جانب الخوف من إجبارهم على أداء الخدمة العسكرية، فيما كان هاجس موت أهاليهم خلال الصراع المسلح يلح على تفكيرهم ويزيدهم توتراً.
 
فراس فياض مخرج فيلم "هروبي"
 
 في المكان المؤقت حيث كانا ينتظران لحظة الفرج، وقد تمكنا من التعبير عنها وعما كان يجول في خاطرهما من أفكار بأسلوب نادر. عبرّا عن عمق صداقتهما وعلاقتهما بعائلتيهما وكيف وحدّت الظروف القاسية مصيرهما. في كل مرحلة من مراحل رحلتهما كنا نتعرف على العوالم المخيفة المحيطة بهما بفضل ما يتمتعان به من قوة التعبير وسهولته. كانت الدروب المظلمة مصدر رعب لهما والخوف من رجوعهما إلى المكان المخرب تحفز فيهما الرغبة لمقاومة الصعاب. 
 
في منتصف الفيلم تقريباً يحدث انقلاب درامي، حين يضطر “عبد الله” لترك صاحبه، بعدما توفرت له فرصه الخروج من أثينا نحو هنغاريا. 
 
لنسمي رحلته بـ”السهلة” فيما سنطلق على رحلة غيث “الصعبة”. ذاق فيها مرارات التعامل اللاإنساني على حدود دول أوروبية شرقية ورافق موجات من المهاجرين اضطرته الظروف للعب دور “الراوي” و”المصور الخارجي” فيها. 
نقل تفاصيلها بأمانة وسرد مشاعره وما كان يحسه به لحظتها، وعليه يمكن وصف دوره بالمركب؛ فهو “الموضوع” وناقله في آن.
 دوره رفع مستوى العمل وجعله بين أجمل الأفلام التي رصدت الطفولة السورية وعذاباتها ومن بين القلة التي راهنت على جمال الصورة رغم صعوبة الظروف التي تم التصوير فيها لكن حساسية الكاميرا ونباهتها إلى جانب حرارة المشاهد وصدق وصفها على لسان الصبيين ستضعه بين قائمة الأفلام المرشحة لنيل جوائز سينمائية كثيرة. 
 
أطفال على خط النار: الهروب
 
يسترجع الألماني”مارسيل ميتلشفين” في الدقائق العشر الأولى من وثائقيه الجديد الظروف التي كانت عليها مدينة حلب عام 2014 وحال عائلة “أبو علي” خلالها.
 
المشهد الداخلي لم يتغير كثيراً؛ عائلة سورية من أب وأم وأولادهما الصغار يعيشون في بيت يقع تماماً على خط المواجهة بين قوات المعارضة السورية والنظام في مدينة حلب، برشاقة يتسلل الفيلم إلى الزمن الحالي دون أن يشعر متابعه بفارق الزمنين وكأنه يريد القول؛ إنه زمن واحد ممتد ومتواصل.
 
 
المتغير الأكبر فيه كان ارتفاع منسوب الدمار وازدياد حدة الصراع وطغيان المرارة على طعم الحياة كلها، فغدا الخراب يغطي مشهدها العام وآثارها بدت واضحة على الأطفال وتصرفاتهم. 
فالمدارس اليوم مغلقة والجيران هجروا المكان بعد تعرضه للقصف والأب منغمس أكثر في عمله كقائد ميداني لوحدات من “الجيش السوري الحر”. كَبُر الأولاد وصاروا معنيين بالحرب وتفاصيلها. صاروا يعرفون أنواع القذائف ومتى تنفجر وطرق تجنبها قدر الإمكان. لكن ظلت الطفولة مغروزة في دواخلهم تحجبها قساوة الواقع.
 
لا أحد يعرف كم من الوقت كان بإمكان العائلة الحلبية العيش في تلك الظروف؟ غير أن متغيراً دراماتيكياً قلبها رأساً على عقب، يوم علموا بخطف والدهم على أيدي مسلحين من تنظيم “الدولة الإسلامية”، انقطعت بعدها أخباره. فرض غيابه واقعاً حزيناً عليهم ودفع والدتهم للتفكير بهجر المكان والرحيل إلى الشتات فالمكان ما عاد يصلح للعيش بدونه وما عادت الحياة تجيز بقاء أطفالها في انتظار رحمة القنابل والرصاص.
يوزع “أطفال على خط النار: الهروب” زمنه بين رصد يوميات العائلة وبين الاستعداد لرحيلها بكاميرا قريبة موزعة بين جدران المنزل وبين الخارج المليء بالموت ودوي القنابل ولعلعة الرصاص. يُشبِع الوثائقي المناخ العام ويغور عميقاً في دواخل الأطفال ويسجل حالة والدتهم النفسية، وإصرارها على التعامل وكأن زوجها الغائب لم يغب أبداً. حاضر معها، يشربان سوية قهوتهما الصباحية.
 
أراد “ميتلشفين” كتابة فصل سينمائي رائع في أسباب الهجرة السورية، وفي المقابل سعى لتصوير حجم التغيير الحاصل عند الأطفال، والذي وصل إلى حد الانقلاب الدراماتيكي وهم في طريقهم للعيش في أمكنة جديدة منتقلين من ساحات قتال بالمعنى الدقيق إلى المجهول.
 
 
لم تعانِ العائلة مثل غيرها في رحلة الذهاب إلى ألمانيا لأنها دخلتها بتأشيرة مرور شرعية، اختصرت عليهم عذابات الإبحار واجتياز الحدود وبهذا التميز اختلف الفيلم نفسه عن الكثير من تلك التي رصدت هجرة السوريين وربما بسببه بدا “دعائيا” بعض الشيء، لأنه ركز وخصص أكثر من نصف زمنه تقريباً لتسجيل تفاصيل عيش العائلة في إحدى المدن الألمانية. سجل سرعة تكيّف الأطفال مع المجتمع.
 
لو عاينّا الأمر من منظور تحليلي فسيسقط الجانب الدعائي فيه بل سيبدو الحديث عنه غير ذي بال لأن مخرج العمل لم يرغب في الترويج لألمانيا بقدر ما كان حريصاً على نقل الواقع الذي وجد الأطفال أنفسهم فيه، وعزلة والدتهم وصعوبة اندماجها فيه مؤشر على ذلك. فالأم ظلت حبيسة منزلها تجترُّ جميل ذكرياتها وتعتبر إقامتها تضحية من أجل أولادها. في المقابل كانت درجات قبول المجتمع الجديد متباينة عند الصغار وقد حرص الفيلم على تلمُّس تفاصيلها. ثم فرضت المقارنة الموضوعية بين المكانين الإحساس بعمق الاختلاف خاصة في مقدار الحرية الممنوحة للأفراد. 
 
فسوريا هي قطعاً غير ألمانيا وهذا وجد انعكاسه الواضح على الصبية الأكبر بين إخوانها، والتي سرعان ما تغيرت وبدأت تشعر بانسلاخها عن ماضيها، فيما أخوها الأصغر منها، يصر على التشبث به. 
 
مصائر وخيارات وانتقالات تجعل من وثائقي “ميتلشفين” منجزاً متكاملاً بدأ في قسمه الأول محلياً بامتياز ثم انتقل في جزءه الثاني إلى الخارج ليجسد التحولات النفسية والجسدية التي طرأت على الأطفال السوريين خلال سنوات قليلة، لعل جملة “عبد الله” في فيلم “هروبي” التي نطقها حين دخل الحدود الألمانية هي خير ما يعبر عنها: “لقد شعرت أن ما قمت به بطولة وأني بحق رجل قام بعمل لا يقوم به سوى الرجال”. 
 
جملة انفعالية تحيلنا إلى ملاحظة نضوج الأطفال سريعاً خلال الفيلمين. فمن مرحلة الطفولة انتقلوا إلى سن النضج دون المرور بمرحلة المراهقة ما يطرح معها أسئلة حول الآثار النفسية المترتبة على ذلك التحول اللاطبيعي، وماذا سيولد في نفوسهم من عُقد قد لا تظهر إلا بعد مرور مدة من الزمن. لم يرغب الوثائقيان خوض النقاش فيها فتركا الأمر لما هو عليه الآن بانتظار ما ستُجليه الأيام من نتائج. 
 
 
 
 
 

إعلان