“هيباتيا”.. متمردة تطلب أسرار السماء تحت ضجيج الإسكندرية القديمة

“ماذا لو أن للكون شكلا مغايرا، لم نعتد أن نراه به. ماذا إن كانت تعمينا رؤيتنا له بالعين ذاتها عن طبيعته الحقيقية، كما تحجب عنا الشمس انعكاسات النجوم. لا بد أن أتجرد من حكمي السابق عليه لكي أراه حقا، لا بد أن أعيد النظر في كل شيء، لا بد أن أعيد النظر في كل شيء”.

هكذا قالت “هيباتيا” على لسان مؤديتها “رايتشل فايس” في فيلم “أغورا” (Agora)، للمخرج “أليخاندرو أمينابار” (2009)، ومع أنه فيلم ذو طابع توثيقي، فإن المخرج أصر على وجود اللمسة الرومانسية القوية، التى قد لا يحملها فيلم رومانسى صُنع خصيصيا لتكثيف مثل هذه المشاعر.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

لقد تفوهت “هيباتيا” بهذه العبارة وهي تبحث في مسألة دوران الأرض، فهل الأرض حقا تتحرك بنا ونحن لا نعي، تلف بنا حول الشمس بغير دراية منا؟

أستاذة ثائرة تقف لمعتقداتها بالمرصاد

كانت في هذا المشهد تقف لمعتقداتها بالمرصاد، يسعها بكل رحابة صدر أن تقلبها رأسا على عقب، وتعيد تدويرها من جديد، إن كانت ستفتح بذلك طاقة نور وبصيرة جديدة، فتخلع عن نفسها أفكارا ممنطقة وضعها السلف، وتستعيض عنها باجتهادات تشعر أنها قابلة للمناقشة، وقريبة أكثر من الصواب.

كانت تجدد دماء فكرها، لتواكب حركة الكون، فتلفظ نظام بطليموس الذي يفيد بأن الأرض مركز الكون، تدور حولها الشمس والكواكب في دوائر متعددة، إحداها واسعة رئيسية، والأخريات صغيرات خاصة برحلة كل كوكب حول نفسه. ما كل هذا التعقيد؟ أهذه معجزة الكون؟ أن يكون معقدا لهذه الدرجة؟ ومن هنا تساءلت “هيباتيا”: ماذا لو كانت معجزة الكون تكمن في بساطته المتناهية؟

كانت تبحث عن البساطة، وكل من حولها يلهث خلف الصراعات. كانت تزيح عن عينيها غمامات معتقداتها لتصفو لها الرؤية، في حين يتمادى الجمع المحيط بها في تمريغ عقله بالضلالات والتعصبات.

ولهذا كان لا بد أن يموت جسدها المنقوع في مثل العالم المليء بالوساخات، حتى وإن بقيت روحها حية منتعشة في فكرها الذى تناقله البعض من قرن لآخر. لقد رقدت في قبرها سعيدة، لأن مثلها له حكاية حقيقية لتروى، حكاية أنثى تسيدت واقع حياتها السخية فلسفيا، وواقعة موتها المفجعة.

 “هيباتيا”.. نهاية مأساوية لامرة حلّق فكرها في السماء

عاشت “هيباتيا” في مصر الرومانية، وهي ابنة “ثيون” آخر زملاء مكتبة الإسكندرية، وقد نذرت نفسها لتدريس الفلك والرياضيات، ولم تلتفت قط لحياتها الأنثوية، وتملصت دوما من مغازلات الرجال، لدرجة أنها حين صارحها ذات مرة أحد طلابها بحبه، أهدته منديلا يقطر بدماء دورتها الشهرية، لتخبره بحذق أنها لا تجد أى جمال في الرغبات الجسدية.

لقد رفضت فكرة الإيمان المطلق، ولم تكن على ذمة أي دين، وتوجهت بولائها كله للفلسفة والتساؤل، وكانت الإسكندرية يومئذ تضطرم بنيران الحرب بين المسيحيين والوثنيين ومن بعدهم اليهود، وبينما كانت الصراعات متقدة، حرصت على تعليم تلاميذها المحبة وأخلاق الأخوة، مهما بلغت اختلافات المعتقد.

الملصق الدعائي لفيلم “أغورا”

وقد تقلد بعض تلاميذها مناصب مهمة في الدولة، منهم “أوريستوس”، الوالي الذى كان دوما يلجأ لمشورتها في أمور الحكم، وهي يومئذ منشغلة بنظرية دوران الأرض حول الشمس، فحرّض الأسقف “كيرلس” جماعته المسيحية المتطرفة عليها، لأنها امرأة مشعوذة تتحكم في مصير الوالي، وتقوده إلى الكفر.

وبينما كانت تسير عربتها في شوارع الإسكندرية، هجم عليها أفراد من هذه الجماعة، وجردوها من ملابسها، ثم سحلوها عارية، حتى سُلِخ جلدها وهي حية، ولكي يمعنوا في الإهانة تجمعوا حول جسدها، وأزالوا بقية جلدها بالأصداف، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، ثم حرقوا جثتها.

علاقة خاصة مع العبد المسيحي 

قدّم فيلم “أغورا” ملحمة حياة “هيباتيا” في أفضل صورة يمكن أن نراها، ففي السيناريو نلمس الحرص على توثيق الظروف التاريخية التى عاصرتها، وفي الوقت ذاته لم تخلُ هذه الواقعية من ابتكار خط درامي إضافي، أخرج الفيلم من فخ الأصمية الفكرية والوثائقية، وأكسبه بعض الحميمية.

فقد كانت بين “هيباتيا” وعبدها “ديفوس” علاقة خاصة، وهو فتاها وذراعها الأيمن، وقد آمن بالمسيحية وهو ما زال في خدمتها، وقلبه متعلق بها، يدعو الله ألا تكون لغيره أبدا، وقد ضخت تلك العلاقة حياة للمشاعر الموجودة بالفيلم.

ومن جهة أخرى منحتنا عينا قريبة من معسكر جماعة المسيحيين المتطرفة، التى انضم لها “ديفوس” بعد تطور الأحداث، وتراجُع الوثنيين لحساب المسيحيين الذين دخلوا مكتبة الإسكندرية، وحطموا كل شىء.

مهد السيناريو لتعلق قلب “ديفوس” بالديانة المسيحية، فمع أنه كان يحب “هيباتيا”، فإنه لم ينس أنه كان عندها في منزلة العبد، تتناسى دوما وتوبخه، أو تذكر أمامه وهي تنصح تلاميذها: لا تقتتلوا، فالقتال سمة الرعاع والعبيد.

“أمينيوس”.. درع الإيمان والإنسانية والثورة

في مقابل عبودية “هيباتيا”، وضع السيناريو في طريق “ديفوس” شخصية “أمينيوس” المسيحي شديد التعصب، فيضم عليه جناحه، ويعامله برفق المؤمنين لكونه من نفس ملته، فيستميله إلى الرب، يعلمه الصلاة، ويدفعه لكي يفني نفسه وأمواله في المَنّ على الفقير، فلا عبودية ولا سيادة، بل الكل سواء.

كانت تربط “ديفوس” علاقة خاصة بسيدته “هيباتيا” يشوبها شيء من التمرد

“أمينيوس” ملطخ الوجه بالدماء، لكن له قلبا هشا طيعا يحني به على “ديفوس” ويكون له ملاذا وطمأنينة. هذه الشخصية قد قدمها السيناريو ببراعة، لتجسد مأساة ضحايا التطرف الديني، المخلصين في ولائهم لدرجة التوحش والتدني، مع أن لديهم وجها حقيقيا للإنسانية.

لقد صنعت شخصية “أمينيوس” معادلا مهما لدراما الفيلم، فجعلتنا على حواف النبذ والشفقة لهذه الجماعة الملتفة حول الأسقف “كيرلس”، وفي الوقت ذاته مثلت وازعا مهما لشخصية “ديفوس”، فجعلته ثائرا حقيقيا على العبودية، ونصف متمرد على حب “هيباتيا” والانصياع لها.

 ثلاثية الإيمان والتعصب والتبعية

بتحديد السيناريو إطار شخصية “هيباتيا” و”أمينيوس” و”ديفوس”، وبوضعه للخط الدرامي العام للعلاقات القريبة أو البعيدة التى تربطهم، وتقود أحداث الفيلم في مسارها الصحيح، يمكننا القول إنه قد أتقن رسم خريطة شفافة ووافية لشكل الحياة الإنسانية في الإسكندرية، بهذه الأوقات التاريخية الملتبسة.

فقد اعتمد على واقع حياة “هيباتيا” التي تعبر عن معنى الإيمان بالفكرة حقا، واستند على مواقف تعصب وقعت يومئذ، ووظفها في قالب شخصية “أمينيوس” المتخيلة، التي تمثل قلب الجهل والتشدد، مع تضفير كل ذلك بحيادية شخصية “ديفوس”، التي صنعها السيناريو لتكون نموذجا للتابعين، الذين فرغت قلوبهم من الانتماء صوب فكر وشعور معين بذاته.

بذلك صارت مادة السيناريو المعلوماتية حول الحياة في هذه الحقبة العصيبة من تاريخ الإسكندرية، ثرية وغنية على المستويين الدرامي والإخباري، فثمة قماشة نادرة للكتابة اعتمد عليها هذا السيناريو، ما بين الروائية والإصرار بنزاهة على تزويد المشاهد بحالة صحيحة وشفافة حدثيا، بلا مغالطات فادحة، حتى وإن كانت في صالح الدراما.

وعيد خطبة تتطاير فيها شرور العالم

بعد واقعة انتقم فيها يهود الإسكندرية من جماعة المسيحيين المتطرفة، التي كانت لا تنفك تضايقهم، توعدهم المسيحيون في مشهد محوري، وقف فيه “كيرلس” يهدد وينذر ويخطب في قومه، وشرور العالم تسيل من عينيه، في حين يلوك فمه كلام الله.

تعمد المخرج “أليخاندرو أمينابار” أن ينهي هذا المشهد بقطع حاد، تعقبه شاشة سوداء، ثم يقتحم المشهد التالي شريط الفيلم اقتحاما همجيا مزعج صوتيا، تترامى فيه صرخات اليهود يذبحهم المسيحيون، والصورة تحمل وجه “هيباتيا” المقابل للكاميرا في إطار قريب، وهي تجول مرتعبة في الشارع الذى تدور فيه المحرقة، ومن حولها تتطاير رؤوس اليهود وأطفالهم.

ما من تعبير تصويرى مُلخِص، سيتفوق على هذه الخطة البليغة بصريا، للتأكيد على وحشية وفوضوية العيش في هذه المدينة السكندرية في ذلك التاريخ.

خلع قلادة العبودية وحرية منتزعة بالسيف

لقد أصر المخرج طوال الفيلم على توثيق الإطارات البصرية التي ترمز للدائرة، في مواقع مكانية طبيعية جدا تنتمى لشكل المدينة والقصور. فهو بهذا استتبع ما يرمي إليه سيناريو الفيلم حول مفهوم الدائرة، التى أصرت “هيباتيا” أن تتجاهل قداستها في الاكتشافات العلمية السابقة، وهي تبحث في مسألة دوران الأرض حول الشمس.

كان نزع قلادة العبودية ووضعها بجانب السيف دليلا على أن “ديفوس” لم ينل حريته إلا بسيفه

فإن كانت النظريات المثبتة سابقا عن حركة الكون في دوائر معقدة، ستعيق طريق وصولها إلى حقيقة علاقة الشمس والأرض، فسترميها فورا، وتبحث بدءا من بعدها. وفي المقابل وفي نفس الزمن التى عاشت فيه، قد يقتل أحدهم روحا للدفاع عن فكرته الدينية المتعصبة، التي لا تمت لأي تعاليم إلهية بصلة.

بعد سيطرة جماعة المسيحيين التى انتمى لها “ديفوس”، يأتي مشهد يدخل فيه بسيفه على “هيباتيا” ويتجرأ على لمسِها عنوة، وقد كانت سيدته، ولكنه سرعان ما يتراجع ويبكي عند أخمص قدمها، فتخلع “هيباتيا” قلادة العبودية من رقبته، وتلقى بها إلى الأرض، فتستقر القلادة إلى جانب السيف، في تكوين مستقل، يوحى بأن “ديفوس” لم ينل حريته إلا بسيفه، مع كل ما يحمل من مشاعر الود والإنسانية التي ربطته بـ”هيباتيا”.


إعلان