بطل أمريكي بلا شوائب

 
محمد موسى
 
بعد أن رَفَعَ المخرج الأمريكي المعروف كلينت إيستوود في فيلمه السابق “القناص الأمريكي” (2014) شخصية “كريس كايل” الجدلية إلى مصاف الأبطال، يعود “إيستوود” بفيلم جديد بعنوان “سولي”، عن شخصية أمريكية حقيقية جديدة، لكن على خلاف الشخصية الأخرى، هناك إجماع أمريكي على بطولتها ونبلها. وهو الأمر الذي سيغلف فيلمه الجديد بصفاء وسلاسة غابت عن أفلامه الأخيرة. 
 
وعلى خلاف الفيلم القديم الذي فتح الأبواب للانتقادات الأعنف على المخرج الذي تجاوز الثمانين من العمر والذي صور فيه جنديا أمريكيا سابقا يفخر بالرؤوس العراقية التي اخترقها رصاص بندقيته عندما خدم في العراق ولم تخضع سيرته في فيلم المخرج المذكور إلى أيّ محاسبة أو مساءلة، ولم يتم قراءة عنفها كأحد تمظهرات الحرب الأمريكية الوحشية والمنفلته في العراق ، يرتكز الفيلم الجديد والذي يعرض حالياً في الصالات السينمائية في الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، على تفصيلة غير معروفة في حادثة الهبوط الإضطراري للطائرة الأمريكية في نهر هدسون في نيويورك في شتاء عام 2009، وبعد إقلاعها بدقائق، والمعجزة التي جعلت جميع ركابها ينجون من موت يعد محققاً في عرف حوادث الطيران. 
 
إذ إن الذي لم يصل إلى الإعلام الواسع وقتها، أن اتهامات وجهت إلى قبطان الطائرة شيسلي سولنبرغر (يعرف ب” سولي”) بالتسرع في قرار الهبوط وإنه كان بالإمكان له العودة إلى المطار الذي أقلع منه دون أن يعرض حياة راكبيه للخطر. هذه التفصيلة والتي تمت مناقشتها حينذاك في دوائر مؤسسات الطيران الرسمية، هي التي ستشكل الدراما في هذا الفيلم، ويتم عبرها إظهار شخصية كابتن الطائرة “سولي”، الذي ينضم إلى قائمة من الشخصيات الحقيقية التي استحوذت على البطولات في سينما المخرج الأمريكي، ومنها:  الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا، و”جي. أدجار هوفر” والذي كان أول رئيس لمكتب التحقيقيات الفيدرالية الأمريكية.
 
 
تقع أحداث الفيلم في الأيام القليلة التي سبقت التحقيق الرسمي بأسباب سقوط الطائرة، وتنتهي بعد أن تصل لجنة خاصة لقرارها. يبدأ الفيلم بكابوس للطيار “سولي” (دور كبير آخر للممثل المتألق دائماً توم هانكس)، إذ يرادوه الحلم نفسه، بأن الطائرة التي كان يقودها تصدم ببنايات مدينة نيويورك وتتحطم وتتحول أشلاءً. الكابوس ذاك هو استعارة عن الأفكار السوداء التي تشغله، وعن المحنة التي تنتظره إذا تبين أنه جازف بتسرع بسلامة راكبيه. وعلى النقيض من كوابيس الليل، تحمل النهارات السعادة للبطل، فالاحتفاءات به تتواصل من كل الجهات، حينا عفوية من ناس عاديين، وأحياناً عبر الإعلام، الذي ربما أغوى قليلاً الطيار، فبالغ الأخير في الظهور الإعلامي، حتى وصل إلى برامج المساء التلفزيونية الكوميدية. لم تصل الشكوك بشأن ما حدث في الطائرة قبل هبوطها إلى الإعلام، وفي الفجوة ما بين ما قبل قرار لجنة الطيران الخاصة، والتمجيد الشعبي والإعلامي للبطل، يعيش هذا الأخير زمنا مضطرباً وشكوكاً جعلت النوم يُفارقه.
 
وكان لا بد للفيلم أن يعود لحادثة الطيران نفسها، والتي سيستدعيها من زوايا تصويرية ونفسية مختلفة، إذ يكون أول الاستعادات أقرب إلى الرواية الرسمية للطيار، من لحظة إقلاعه واصطدامه بسرب من الطيور وتعطل محركاته جميعا، واتصاله بعدها ببرج المراقبة حتى الهبوط في النهر، تعقبها استعادة أخرى عاطفية تعود للحالة النفسية للطيار وقتها وردات أفعاله بعد هبوط الطائرة، وتتواصل إلى زمن إسعاف جميع الركاب. تُكمِّل الاستعادتان صورة وافية وعاطفية عما وقع بالفعل، وتحضر للمشاهد الطويلة للتحقيق الذي سيجري مع الطيار ومساعده، والتي ستأخذ دقائق الربع الأخير من الفيلم. عندما كان البطل وزميله في ما يشبه قفص الاتهام، يدافعان من هناك عن احترافيتهما وبأنهما قاما بكل ما يمكن القيام به وقتها.
 
من زمن قاتم وجهته مجهولة يأخذ الفيلم بطله إلى النور. يفعل ذلك عبر سيناريو ذكي يعود إلى حادثة الطائرة عبر التشكيك بما فعله قبطانها وقتها، ومن ذلك الموقع يعثر على المعالجة المناسبة لسرد القصة التي ربما سيكون من الصعب كثيراً العثور على مدخل مناسب لسردها. وبعد عدة أعمال سابقة للمخرج “ايستوود” تميزت ببنائها المضطرب، يتميز فيلمه الأخير هذا بالصفاء. كما يمكن تخمين أسباب اختيار المخرج لهذه الشخصية بالذات، إذ إنها تشترك مع الشخصيات التي طالما أغرته في السابق وقدمها في أفلام عديدة، أي تلك التي تطفح بالثقة، والتصميم، والشجاعة. 
 
 
وإذا كانت بعض المواقف العاطفية في السينما تحتاج الكثير من التحضيرات والتقديمات حتى تصل إلى ذرواتها العاطفية، يصل فيلم “سولي” إلى لحظاته العاطفية بسرعة كبيرة، وبالخصوص تلك التي تتعلق بركاب الطائرة أو طاقهما . فلم يقض الفيلم الكثير من وقته في تقديمات مفصلة لقصص الركاب، لكنه سيبلغ معهم لحظات شديدة التأثير بعاطفيتها عندما تبدأ محنة الطائرة. في واحد من المشاهد المهمة، يمر “سولي” بين صفوف الركاب الهلعين وبعد أن حطت الطائرة فوق مياه نهر “هودسون”، ويطلب الطيار الذي حافظ على تماسكه من بعض الركاب أن يأخذوا معاطفهم معهم ليقيهم البرد الذي ينتظرهم خارج الطائرة. في مشاهد أخرى يتبع الفيلم أبا وابنيه الشابين، لحقوا في اللحظات الأخيرة بالطائرة وقبل إغلاق أبوابها، ويعود لهم بعد أن تفرقوا بعد هبوط الطائرة، وعثورهم على بعضهم في مشاهد عاطفية متميزة هي الأخرى.
 
في أول وقوف له أمام كاميرا المخرج “إيستوود”، يثبت توم هانكس مجدداً أنه أفضل ممثلي هوليويود اليوم، ومن صنف الممثلين القادرين وحدهم أحياناً على رفع وإضافة الكثير للأفلام التي يلعبوا أدواراً فيها. هناك هيبة ما تغلف خيارات النجم الذي بلغ الستين من العمر، وهذه الهيبة أصبحت تميز الأفلام التي يظهر فيها. ربما لا يختلف “سولي” كثيراً عن “فيليبس”، الشخصية الحقيقية التي لعبها في فيلم “الكابتن فيليبس” (2009) للمخرج باول غرينغراس، والذي لعب فيه أيضاً دور قبطان مركبة (سفينة في الفيلم الآخر)، ويواجه الأزمة الأكبر في حياته المهنية. لكن “هانكس” قادر دائماً أن يضيف ويلون الشخصيات التي يلعبها، ويجعلها تتميز وتختلف عن التي يقدمها في أفلامه الأخرى. تنتمي شخصية “سولي” إلى جيل يكاد ينقرض من الرجال، الذي يجمع النبل، والمحافظة، والمهنية، والقدرة على تلمس الصواب حتى في أحلك الظروف. وهذه صفات يفهمها “هانكس” ويعكسها في أداء كبير جديد له. 

إعلان