“أماندا نوكس”
محمد موسى
عَرَضَ مهرجان تورونتو السينمائي في دورته الأخيرة (عُقدت من الثامن إلى الثامن عشر من شهر سبتمبر الماضي)، الفيلم التسجيلي “أماندا نوكس”، سابقاً بأيام وصوله إلى خدمة شركة “نتفليكيس” الأمريكية لتزويد المواد الترفيهية عبر الإنترنت والتي أنتجت للفيلم. تندرج برمجة هذا العمل التسجيلي في المهرجان السينمائي المعروف ضمن تقليد جديد بعرض أفلام ومسلسلات تلفزيونية مُختارة لشركات إنترنت ومحطات تلفزيونية في المهرجانات السينمائية العالمية وقبل مواعيد بثها المُقررة على القنوات الأصلية المنتجة لها، في تأكيد على المستويات الرفيعة التي تبلغها هذه الأعمال منذ سنوات، لتتسابق منصات عرض الأفلام السينمائية في الحصول على حقوق عرضها الأولى.
والفيلم التسجيلي الذي حمل توقيع المخرجين: رود بلاكهيرست وبريان ماكجين، هو استعادة سينمائية مستفيضة جديدة، لكنها لن تكون على الأرجح الوحيدة لجريمة قتل الطالبة البريطانية “ميريديث كيرجير” في بلدة بيروجيا الإيطالية في الأول من شهر نوفمبر من عام 2007. وهي الجريمة التي تحولت بسبب الاهتمام الإعلامي غير المسبوق إلى جريمة القرن الحادي والعشرين الأوروبية، واستفحلت بعد إصدار الحكم فيها إلى أزمة بين الولايات المتحدة وإيطاليا، ذلك أن سياسيين أمريكيين ودوائر إعلامية في الولايات المتحدة انتقدت سير التحقيقات الجنائية والقضائية التي قادت إلى حبس الأمريكية “أماندا نوكس” بتهمة قتل زميلتها في السكن البريطانية “كيرجير”، بمساعدة صديق الأولى الإيطالي “رافاييل سوليسيتو” وشاب آخر.
يفتتح صوت “نوكس” المشاهد الأولى من العمل التسجيلي، إذ ستروي الفتاة الأمريكية قصتها بنفسها، من اختيارها إيطاليا كوجهة لدراستها، ووصولها إلى مدينة بيروجيا. تعترف “نوكس” أنها كانت فتاة جامحة إلى درجات الانفلات أحياناً، نهمة إلى اكتشاف العالم وإلى تجارب الحب والجنس. تؤكد مشاهد منزلية للفتاة الأمريكية طباعها المشاكسة وجمالها اللافت، والأخير سيلفت اهتمام الإعلام. ستقابل “نوكس” شاباً إيطالياً من المدينة، وسيبدآن علاقة عاطفية قبل أسبوع واحد من مقتل “كيرجير”. وستكون الفتاة الأمريكية أول من يشك بوقوع حادث ما في البيت الذي تسكن فيه. وعندما تصل الشرطة وتكتشف جثة “كيرجير” في غرفتها، مقطعة الأوصال تقريباً، سيوجه الاتهام إلى “نوكس” وصديقها، لتلاحقهما هذه التهمة بعدها لسنوات.
يستعيد الفيلم الأحداث الأساسية وضمن تسلسلها الزمني التصاعدي، مُبرزاً النقاط والعقد الحسّاسة التي غيرت اتجاه التحقيقات، فهناك مشهد أرشيفي مثلاً يظهر “نوكس” مع صديقها وهما يتبادلان القبل خارج البيت الذي كانت الشرطة قد وجدت فيه للتو جثة البريطانية الشابة. وهو التصرف الذي ستفسره الصحافة الشعبية في بريطانيا بأنه ينسجم مع الطباع الغريبة الشاذة للصديقين. كما ستضيف صوراً شخصية تظهر “نوكس” و “سوليسيتو”، وهما يلعبان بالأسلحة تم النبش عليها في الصفحات الخاصة بهما على مواقع التواصل الإجتماعي على شبكة الإنترنت، ليصبا الزيت على نار الشكوك حولهما وعن سلوكها غير السوي، إلى الحد الذي نشرت صحف كثيرة أن الجريمة قطعت حفلة جنسية تبدل اتجاهها لأسباب غير معروفة، وانتهت بدموية.
وبسبب الدور المهم للصحافة العالمية وقتها يفرد الفيلم مساحة للصحافي البريطاني “نيك بيزا”، والذي كان أحد الذين تابعوا القضية، وكتبوا مقالات عديدة عنها، بعضها حجز له مكاناً على الصفحات الأولى لصحف فضائحية بريطانية، من التي يثيرها بالعادة الجانب المعتم في النفس البشرية، إضافة إلى هوس تلك المقالات بفرضية الدافع الجنسي في الحادثة، وتطرفها بعد ذلك في البحث في موضوع الجنس، والذي يبيع الصحف دائماً في كل مكان. تقترب شخصية “بيزا” من الصور النمطية التي يحملها كثر عن صحفيي التابلويد: صلف، وبلا خجل، لكنه يملك حضوراً وإقناعاً. يعترف الصحفي بأن الإعلام وقتها اقترف أخطاءً ستؤثر كثيراً على سير التحقيقات، لكنه في المقابل يعلل اهتمام جريدته بأنه استجابة لشغف شعبي بهذا النوع من القصص.
كما يُركز الفيلم على شخصية المدعي العام الإيطالي “جوليانو مجنيني”، الكاثوليكي المتدين الصارم الطباع والذي أدار التحقيقات في القضية. بدا المدعي العام في الأسابيع الاولى من التحريات وكأنه عثر سريعاً على غايته. لكن سرعان ما تبين أنه كان ضحية ضغط الرأي العام والإعلام لإيجاد الفاعل، واقترف أخطاءً لا تغتفر تسببت في القبض وحبس بريئين لسنوات. وأن فريقه ربما تورط في تشويه أدلة، وترك أثاراً غير حقيقية في موقع الجريمة، حتى يقدم نتيجة سريعة لتحرياته، وينتهي السيرك الإعلامي حول الجريمة، والذي تحول إلى كابوس للمدعي العام وفريق التحقيقات الصغير الذي كان يقوده.
وحتى بعد القبض على “رودي جيوده” ، وهو لص معروف للشرطة وجدت آثار للحامض النووي له في غرفه القتيلة، لم يهز هذا من الرواية العامة السائدة، والتي تقول أن “نوكس” و “سوليسيتو” اشتركا بشكل ما في الحادثة. هذه الأخطاء من فريق التحقيقات وبعدها أخطاء مماثلة من المحكمة التي حاكمتهما وجعلتهما يقضيان سنوات في السجن، قبل إعادة التحقيق مرتين وإثبات برائتهما في كل مرة. ولينتهي بعدها بشكل شبه نهائي الكابوس الذي طاردهما على طوال ثمانية أعوام. هذا رغم أن “جيوده” لم يعترف بجريمته بعد، وإن كانت كل الدلائل القوية تشير إلى تورطه.
يوفق الفيلم في الحصول على موافقة معظم الشخصيات الأساسية في الأحداث للاشتراك فيه، وعلى رأسهم “نوكس” نفسها، التي نشهد عبر زمن الفيلم على نضوجها النفسي، من فتاة مراهقة بلا خوف، إلى امرأة تنوء اليوم تحت ثقل تجربة مريرة تواصلت حتى بعد إطلاق سراحها وعودتها للولايات المتحدة، فالإعلام كان يقف لأسابيع على أبواب بيتها الأمريكي. وهناك من كان يحاول أن يقنع والدها بأن فرصة ابنته في جني أموال من الإعلام قد تتضاءل كلما طال صمتها، ونسيان الناس لقصتها، وانشغالهم بحكاية جديدة. يولي الفيلم الشخصيات الأخرى فيه اهتماماً جيداً، بخاصة المدعي الإيطالي العام، الشخصية المعذبة، والذي سنراه في مشاهد النهاية وهو يوقد الشموع في كنيسته التي يتردد عليها بحثاً عن المغفرة. وهناك أيضاً “سوليسيتو”، الذي غيرت الحادثة حياته.
وعلى خلاف أعمال تسجيلية استقصائية سابقة من إنتاج “نتلفيكس” بحثت في جرائم حقيقية لفها الجدل والشكوك، لا يتحدى فيلم “أماندا نوكس” الوقائع والمسلمات الرسمية، ولا يدفع بالشخصيات التي تسنى له مقابلتها إلى تحديات صعبة، بل يكتفي الفيلم باستعادة مفصلة للأحداث تنقصها الحدة بشكل عام، ولم تجب على كل التساؤلات، وبدت راضية بالحكم القضائي النهائي، وبتوجيه معظم الاتهامات إلى “الإعلام”، الذي تتمثل فيه كل الشرور، إذ هو الذي عكر مسّار التحريات الأصلية، وضلل طريقها. بيد أن هذه القراءة وإن صحت كانت تحتاج إلى تأكيدات أكثر وضوحاً، ومواجهات جريئة تحرج المؤسسات التي اشتركت في السيرك الإعلامي ذاك.