“حرب” .. خالية من الانتصارات
محمد موسى

يُطارد الكابوس الأفغاني، بعنفه ودمويته، بطل الفيلم الروائي “حرب” A War 2015 للدنماركي “توبياس ليندهولم”، إلى سكينة بيته الآمن في الشمال الأوروبي. هذا البطل هو قائد وحدة دنماركية، من التي كانت تقاتل ضمن قوات التحالف الغربي في أفغانستان، والذي سيتبين له بعد عودته صعوبة توديع ذكريات الحرب أو الفكاك من أوزارها.
يُخالف المخرج الدنماركي السائد من أفلام حرب أفغانستان الروائية الغربية التي بقيت مكانياً في البلد الصعب، فيتابع أزمان ما بعد المعارك الشرسة، وبعد عودة الجنود إلى بلدانهم، ويُقدِّم قصة صادمة ملتبسة، هي في جوهرها عن الإثم والمسؤولية الغربيين، ومفاعيل الحرب ومآلاتها، وكيف تَهزّ النزاعات المسلحة المُثل الأخلاقية للمتورِّطين بها، ولا تُخلِّف إلا المهزومين والمشوهِّين.
يوسِّع الفيلم الذي ينافس على جوائز الأوسكار القادمة في فئة أفضل فيلم أجنبي مداه الجغرافي والنفسي، ويقدم ضمن توليف موازٍ يوميات وحدة دنماركية تخدم في أفغانستان، وعائلة قائد هذه الوحدة في الدنمارك، وهي تعيش تفاصيل الحياة اليومية. ورغم الفروقات الشاسعة بين المكانين، يُبقي المخرج على مناخ سوداوي واقعي واحد على طوال زمن الفيلم. فلا انتقالات أسلوبية بين الجزأين، واختار المخرج أن يلتصق بأبطاله عبر العديد من اللقطات المقرّبة، لتضيف هذه المشاهد بالذات بتمعنّها بالملامح المرتبكة والحائرة للأبطال، إلى التيه العام الذي تُمثلّه حرب أفغانستان في الفيلم، وفي الوعي الغربي الجمعي، وعدم جاهزية هذا الأخير بعد لتقييم دوره في تلك الحرب.
لا يستند الفيلم ،وكحال العديد من أفلام حرب أفغانستان من العقد الأخير، إلى وقائع حقيقية. هو في المقابل يجمع تفاصيل عنها بعضها معروف، والبعض الآخر يخصّ سيرة قوات بلده بالتحديد في تلك الحرب، التي تميزت بقسوتها وضبابيتها، وصعوبة الاستدلال على العدو فيها، فطالبان (وهذا أمر تشترك فيه معظم أفلام الحرب الأفغانية الغربية)، هم العدو الحاضر الغائب، الذي بالكاد نراه الشاشة، لكنه يترك دائما آثارا دموية خلفه. يبدأ الفيلم بمشهد لتصادم مسلّح للوحدة الدنماركية مع عدو ما قرب القرية التي تعسكر بها، والتي ستخلِّف ضحية واحدة من تلك الوحدة. هذه البداية ستُمهِّد لفيلم دموي قاتم، تتخلّله مشاهد شديدة التأثير عن الخسائر المدنية الأفغانية المنسيّة، والتي جاءت لتوازن فيلماً سيكون بدونها، أحادي الاهتمام.
تقود المشاهد الافتتاحية الرصينة للفيلم إلى ما سيكون الحدث الأهم في مهمة جنود الوحدة في أفغانستان، وخاصة قائدها، فالوحدة تواجه وضعاً خطراً للغاية عندما تُحاصر من جميع الجهات في القرية الصغيرة التي تتمركّز عندها. وهذا سيقود إلى فوضى تنتهي بمقتل 11 مدنياً أفغانياً وجرح جندي دنماركي واحد. لا يكشف الفيلم عن جميع تفاصيل ما حدث في تلك المواجهة، ومن المسؤول عن مقتل الأفغان المدنيين، حتى يُمهِّد لما سيعقب من حوادث، ذلك أن القيادة العليا للقوات الغربية في أفغانستان، تُقرِّر توجيه تهمة القتل غير المتعمّد لقائد الوحدة، وستحاكمه في محكمة في بلده التي عاد إليها ولم يكمل بعد فترة خدمته المقرّرة في أفغانستان.
يفتح المخرج فيلمه على أسئلة الحقيقية، والمسؤولية الجمعيّة على ما يجري في العالم، فمحاكمة قائد الوحدة في بلده، والتي تستحوذ مشاهدها على معظم الربع الأخير من الفيلم، هي محاكمة رمزية للجميع، من القائد الدنماركي وجنود وحدته، إلى طالبان، مروراً بالغرب، وحتى المشاهد نفسه الذي يتورط في مكيدة الفيلم الأخلاقية. يغطي المخرج الشاب المبدع هذه الأسئلة المستحيلة بقصة وتيمات واضحة، ظاهرها المأزق الذي وقع فيه ضابط شاب، الذي اقترب من أن يكون أحد أضاحي الحرب المعقدة تلك، وبواطنها محاسبة جديّة لأدوارنا جميعا في ما يجري، رغم الضبابية التي تُغلِّف مشهد الحرب كله.

يؤكد فيلم “حرب” الاختلافات الجوهرية بين الأفلام الهوليوودية التي تناولت حروب الولايات المتحدة الأخيرة، وتلك التي يقف خلفها مخرجون أوروبيون، فالفيلم هذا يعي تماماً أن الحروب بالمطلق وحرب أفغانستان على وجه التحديد لم تُخلِّف إلا المهزومين. لا انتصارات يحتفل بها الجنود ولا بطولات وهمية. في المقابل تطاردهم هواجس شرعية المهمة التي جاؤوا من أجلها، وقلق أدائهم فيها. تغيب الذكوريات المعتادة عن مشاهد الحياة اليومية في الوحدة العسكرية، ويتم الاحتفاء بالتنوع الإثني للمجتمع الدنماركي المعاصر، فالوحدة تضم جنوداً من أصول مسلمة (يؤدِّي الشخصيات ممثلون دنماركيون من أصول شرق أوسطية)، وهم كحال زملائهم في الوحدة، مشغولون بالبحث عن طرق للخلاص من المتاهة الأفغانية.
فيلم “حرب” هو الثالث للمخرج الدنماركي الشاب، ويُعَّد على وجه الخصوص استكمالاً للأسلوب الخاص المتمكِّن الذي قدّمه في فيلم “اختطاف”، والذي تناول محنة عاملين في سفينة دنماركية تتعرّض لقرصنة صومالية في عرض البحر. جمع المخرج في فيلميه الأخيرين بين عناصر ومفردات من الواقع عبر استعانته ببحارة وجنود حقيقين، والمتخيَّل الذي تُبنى عليه القصص ومسارتها. هذا الخلط على صعيد الممثلين ومواقع التصوير، يغلفّان أفلامه بواقعية محسوسة. كما أن المخرج وهو يقارب قضايا من العالم المعاصر القاتم، يبحث وسط القصص عن لحظات تُذكِّر بإنسانية “العدو”، ليُعقِّد من الأسئلة الأخلاقية التي تواجه الشخصيات في أفلامه ويزيد من أزماتها، كالمشهد البليغ في فيلم “حرب”، والذي يظهر فيه قائد الوحدة الدنماركي وهو يتفقد أبنائه في أسرّتهم، وكيف ستُذكِّره أقدامهم المكشوفة من تحت الأغطية، بأقدام أطفال عائلة أفغانية، قتلتهم “طالبان” أثناء غفوتهم، لعلاقة والدهم الودّية مع القوات الدنماركية.