هكذا تكلم سوكوروف !

قيس قاسم

بصوت خفيض تكلم المخرج الروسي سوكوروف عن تجاربه السينمائية وأفكاره كما لو أنه كان يخاطب نفسه ويراجع مسيرته أمام كاميرا أليفة، اعتاد تسجيل يومياته وأفكاره على أشرطتها لوقت طويل من الزمن. هكذا نجحت المخرجة “لينا كيلبلنين” تقديمه لنا في وثائقيها “صوت سوكوروف”، كما هو.. بصوته!، وكأنها بهذا: “الصوت” أرادت الدخول إلى عالم “الصورة”؛ عالمه الذي أبدع فيه تحفاً سينمائية وصار بقوة  تجريبه وجرأته على ابتكار أساليب تعبير بصرية غير مطروقة واحداً من أميز صناع الفن السابع في وقتنا وأشدّهم عمقاً، وربما لهذا السبب حرصت صانعته على انتقاء الجمله التالية له في مفتتح فيلمها “أنا إنسان لا يدخل الخوف إلى قلبه بسهولة، لست مذعوراً، ومنبع ذلك أني كنت طيلة حياتي مجبراً على سماع صوتي الداخلي وتذوّق طعم الأشياء بذائقتي الخاصة؛ الكامنة في داخلي”.

قسمّت لينا كيلبلنين وثائقيها الفنلندي الإنتاج على سبعة أيام. يغطي كل يوم منها مرحلة من حياته مصحوباً بمقاطع من أفلامه التي أُنجزت خلالها. أما المقابلات فكانت تجريها معه في أمكنة اعتاد ارتيادها؛ مكتب عمله، مقاهي المدينة المحببة إلى نفسه، ضفة النهر، الشوارع والساحات العامة، لتمنح فيلمها أجواءً حميمية أولاً وتنقل بساطة الرجل وصلته بالأمكنة التي يعيش فيها ونظرته الثاقبة إلى تفاصيلها ومعاينته العميقة لها ثانياً، لأن منجز سوكوروف جلّه كان على صلة بالإنسان ولصيقاً بقضاياه وربما بسببها جاءت إليه صفة “فيلسوف”، وعلى المستوى النقدي وُصف من قبل كثير من النقاد والباحثين بالسينمائي المهموم بتاريخ البشرية ومصير الإنسان، وما معارضته للأنظمة الشمولية وحكامها، إلا محصلّة موضوعية لموقفه الفكري المسؤول من العالم، ولهذا السبب ركزّت مخرجة العمل على تلك المواقف إلى درجة بدا معها فيلمها وكأنه مكرّس بمعظمه لها.

في مكتبه وبعد استلامه هدية تقديرية من مهرجان فينيسيا السينمائي، يُدشِّن سوكوروف يومه الأول في شريط “Sound of Sukorov” والمعنون (ولادة سينمائي) لمراجعة تكوينه الفني الذي انطلق من التلفزيون!  فبعد إنهاء دراسته الجامعية للتاريخ قُبل للعمل فيه ولكنه سرعان ما أُجبر على تركه لإنجازه فيلماً منعت إدراته عرضه فقرر التوجه لدراسة السينما وهجر التلفزيون إلى الأبد.

سيتبيّن وبعد سنوات على دراستة الأكاديمية للإخراج الوثائقي في معهد “فغيك” أن فيلم تخرجه “صوت إنسان وحيد” (1978) والمأخوذ عن رواية الكاتب المعارض أندريه بلاتونوف كان هو ذات الفيلم الذي منعه التلفزيون وأمرت إدارة المعهد بمنعه هذة المرة أيضاً، ولم تقبل به كفيلم تخرُّج، ولكن وبعد إنهاء دراسته بشكل مبكر ـ قبل انتهاء المدة المقررة بعام ونصف ـ ولإعجاب المخرج الروسي الكبير تاركوفسكي به قُبل عرضه.
سيترك هذا الموقف التضامني أثراً عميقاً في نفس سوكوروف على المستويين المهني والإنساني وستتعزّز صداقتهما أكثر فأكثر.

أرادت “لينا كيلبلنين” تجاوز أسلوب المراجعة الشكلي لمنجز المخرج الروسي الكبير إلى مستوى التحليل العميق له وهذا ما شجع بدوره سوكوروف للمضي معها والتوقف في أحيان كثيرة عند جوانب خاصة لم يطلّع عليها المتلقي من قبل ويصعب  حتى على النقاد تفسير معانيها كما تجلّى في وقفته المـتأمِّلة أمام فيلمه الوثائقي الأول “ماريا” حين شرح من خلاله نظرته وفهمه للسينما وأنواع أفلامها ومعاملته الوثائقي مثل الروائي تماماً.
وكيف أنه لمح ضمناً في فيلمه الوثائقي الشاعري إلى الصعوبات التي تواجهها النساء الروسيات أثناء المرحلة الشيوعية والمختلفة عما تُقدّمه السلطة من صورة براقة لهن.

يشير في تجربته مع هذا النص إلى قوة “الشاعرية” السينمائية وقدرتها على تبطين الحقائق الصارخة بطريقة مدهشة، تماماً مثل شخصية “ماريا” سيميونوفا، التي اعتبرها، على بساطتها، مبدعة حقيقية في مجال عملها، وأن إبداعها المهني لا يقلّ قيمة عن إبداع الموهوبين من الفنانيين والأدباء، ويتوقف في نفس السياق عند تجربة عمله  في ستوديو “لينفيلم” وإقراره بجدية إدارته وعراقة تقاليده رغم تبعيته للدولة إلى درجة يحيل تعميق رؤيته للفن السابع عملياً إلى مجموعة أفلام وثائقية أنجزها داخله، إلى جانب ما كشفته تلك الأفلام، على المستوى الشخصي، من موهبة مبكرة وعمق تفكير وإيمان بقدرة الفن على التغيير، شريطة عدم التضحية بالموهبة والجمال على حساب المواقف السياسية كما أكد أكثر من مرة.

في كل وقفة من تاريخه الشخصي وتجاربه السينمائية الأولى كانت الصورة ملازمة للصوت بأعلى درجات التناغم، وهكذا في اليوم الثاني وبقية أيام الأسبوع الرائع والمتخم بالحكايات والأفكار. من عنوان اليوم (ضيق الأفق البشري) يتجلى تذمره من سعي السلطات الديكتاتورية وإصرارها على تبليد أذهان الجماهير بنظريات سياسية تحرص على تأطيرها بمفاهيم ونظريات جمالية. لقد وقف بالضد من نظرية “الواقعية الاشتراكية” ومال إلى المدرسة الجمالية المستقلة.

يشرح كيف توحدت السلطات (الشيوعية والنازية) المتناقضة في الظاهر حول معاداتها. يحكي في هذا اليوم أيضاً عما تعرضت له أفلامه من تشويه متعمّد من قبل مخابرات بلاده وكيف دفع ثمن مواقفه غالياً، إلا أن أكثر ما كان يحزنه في تلك الممارسات مضامينها الكاشفة لطبيعة وعدوانية الإنسان، التي لا يمكن مقارنتها بطبيعة الحيوانات البرية وقانون غاباتها.

فالإنسان هو أشد الكائنات على الأرض قدرة على التدمير وهذا ما توصل له وأراد قوله سوكوروف في الكثير من أفلامه وبشكل خاص في فيلمه الوثائقي عن الحرب العالمية الثانية وتحالف ستالين وتشرشل فيها وعنوانه: “لا شيء أكثر”. في نهاية ذلك النهار يقول المخرج العميق التفكير جملة تلخص ما جاء فيه: “القادة والحروب والأيدولوجيات كلها تنتهي أما الفن فباقٍ. أين النظام السوفيتي؟ لقد انتهى أما أنا فمازلت أمامكم حياً وما زلت أصنع أفلاماً”!.

يتخّذ الوثائقي ليومه الثالث عنواناً لافتاً: (إرث الماضي) وفيه يراجع قوة التاريخ وقدرته على تكرار نفسه عبر أشخاص مختلفين وحوادث مختلفة. يُلمِّح “صوت سوكوروف” إلى مخاوفه من تكرار النظام الروسي الجديد تجارب التاريخ السوفيتي القديم، التي جسدّها في فيلمه الوثائقي “”أيام من الظلمة” (1988) ويدور حول المُبعدين السياسيين في الصحارى المقفرة والأصْقّاع السيبيرية المتجمدّة في عهد ستا��ين، وأكمله بشريط “ليلة الضحية” عن قوة الحشود الجماهيرية المندفعة بالحس القومي المُستغَّل سياسياً. فيه ركّز عدسات كاميرته على الحشود الهاتفة باحتفلات يوم النصر السوفيتي، وكمية الكراهية المنبعثة من حناجرها.
 في هذا اليوم يعرض صانع الأفلام المنتقدة للأنظمة الشمولية نظرته إلى روسيا تاريخياً وخوفه من أن يعود الماضي ويفرض شروطه القاهرة على الحاضر.

في منتصف الأسبوع ولغنى ما قدمه الشريط خلاله وبسبب سلاسة انتقالاته بين المراحل التاريخية سنجد أنفسنا أمام سؤال مُلح: ترى مَنْ يقود “اللعبة” السينمائية التي أمامنا؛ المخرج المخضرم اللبق العميق أم المخرجة التي تقف وراء الكاميرا وتعرف كيف تقوده إلى الوجهة التي تريدها؟
تداخْل المخرجة وكاتبة السيناريو ـ منعاً للتكرارـ بقية الأيام مع بعضها عبر عمليات تقطيع وربط لمشاهد ومقاطع من بقية أفلامه مع حرصها على عنونة كل يوم بعنوانه الخاص ليغدو التداخل منطقياً وفي سياق تجسيد الشخصية المركزية لفيلمها خلال أسبوع كامل وسيجيب هذا التداخل على بعض جوانب السؤال السابق: إنهما الاثنان معاً أحدهما يقود الآخر!.

في اليوم الرابع مثلاً ستعود إلى ما قاله سوكوروف حول الإرث التاريخي والخوف على روسيا اليوم، لتُغير من نمط السرد الفردي إلى السرد الجدلي حين تسبق سؤالها له عن المساعدة المالية المقدمة من الرئيس بوتين لإنتاج فيلمه الأخير “فرانكوفونيا”، بمشاهد من فيلمه “فاوست” الذي باع نفسه للشيطان. ثم تستكمل موقفه من المساعدة في اليوم الخامس (سيطرة القوة) لتتجاوز الإنصات والتسجيل إلى المماحكة.

تُشْفَع لسوكوروف مواقفه السابقة ولهذا كان مروره السريع على تجربته مع بوتين مقبولاً إلى حد ما، وتبريره مقنعاً، لأنه كما قال “طلبت المساعدة لإكمال فيلمي “فرانكوفونيا” وحين قابلته وعرضت عليه الفكرة قبلها ووعد بالمساعدة وتقبلتها من أجل السينما”. موقفه كفنان سينمائي من روسيا وسلطاتها ربطتها كيلبلنين بقبوله وتعاطفه مع التغيير الذي بدأه الرئيس السابق غورباتشوف، ولكن بحذر فنان منحاز لاستقلاليته، وبالتالي فهو لم يتلَّون مع بوتين وغيره ومشاهدة “الدائرة الثانية” (1990) و”حجر” (1992) تُعزّزان تلك القناعة.

تُكمل بـ”فاوست” الفصل الخاص بالقوة والديكتاتوريات عبر التاريخ والمجسدّة سينمائياً في رباعيته الرائعة: “مولوخ” (1999) حول هتلر و”العجل” عن لينين وستالين و”الشمس” يدور حول يوم كامل من حياة الإمبراطور الياباني هيروهيتو وآخرها “فاوست” (الفائز بجائزة الأسد الذهب في الدروة 68 لمهرجان فينيسيا الدولي). فيها أراد المخرج الروسي الإشكالي بامتياز القول إن السياسة فكرة بشرية سيئة.

لقد ابتكرت من أجل الخداع والتملُّص من المواقف وخدمة الأغراض الشخصية وإشباع الرغبة لمزيد من السلطة والهيمنة المطلقة، ومن يقف ضدها يُصفّى أو يجبر على العيش في عزلة تامة كما عبّر عنوان اليوم السادس عنها بمرارة: (صوت العزلة). قدم فيه المخرج، الأكثر إثارة للجدل بين أقرانه عالمياً وعلى أكثر من مستوى، خلفية عن شخصيته التي لجأت إلى الصمت سنوات احتجاجاً على كل ما آلت اليه حياتنا المعاصرة. يتذكر طفولته ووالده العسكري وضوابطه الصارمة على أسرته والتي نقلها إلى السينما عبر فيلمه “أب وابن”.

أحب خلال تنقلاته مع والده مدناً تميزت بالانفتاح والطيبة مثل صحراء تركمانستان التي ارتاح لها وأحب البحر في الوقت الذي كره السلطات حين انتقل الى موسكو التي رثاها عام 1986 بفيلم “مرثية موسكو”.  في الفصل قبل الأخير يتوسّع المخرج الألمعي في شرح رؤيته للعالم وفلسفته الخاصة التي صُقلت وتبلورت عبر تجربة شاقة أنجز خلالها الكثير ويأمل أن يُكملها بأفلام أكثر عن مضامينها وخاصة موضوع الإنسان وعلاقته بالطبيعة ودور السياسة في “ظلمة” واقعنا.

لقد توصل إلى قناعة بزوال الأيدولوجيات والانتصار الكامل للإنسان بوصفه نقطة انطلاق الحياة ومُحدّد مصيرها، والأهم هو أنه مبدع نتاجها الفني. لقد وضع الفنان في اليوم السابع (معنى الفن) موضع التقديس وعبّر عن موقفه هذا في فيلم “سفينة نوح الروسية” عام 2002. فالفنون والمتاحف الكبيرة شواهد على عظمة الإنسان وموهبته في ابتكار وسائل تعبير تسمو بالروح إلى الأعالي وبشكل خاص فن السينما الذي عشقه وأبدع فيه. 
 


إعلان