“بقعة ضوء”: الرسائل الخفيّة في الأوسكار

أسامة صفار

“هذا لم يكن كافيا.. علىكم أن تعلموا أن الأمر ليس في بوسطن وحدها ولا في الولايات المتحدة.. إنه في العالم كله.. وفي الفاتيكان نفسها!”
هكذا وصل “فيل سابيانو” وهو واحد من ضحايا التحرُّش من قبل قساوسة الأبرشية في بوسطن إلى أقصى التصورات الكابوسية في عبارة صدمت هؤلاء الذين يبحثون عن الحقيقة بهدف نشرها والانتصار لضحايا ذلك التحرش، لذلك جاء السؤال: هل لدّيك أدلة على ما تقول؟ وكانت الإجابة: ليس بعد ..

وبقدر ما في العبارة الصادمة من هوس وبارانويا قد لا تنطبق على الحقيقة لكنها كانت مفتاحا لقضية أطاحت بكاردينال بوسطن وحصلت بموجبها جريدة “بوسطن جلوب” على جائزة بولتزر وكتب وأخرج بفضلها المخرج توماس ما كارثي فيلمه “Spotlight” المرشّح للأوسكار 2016.

ويستند الفيلم على قصة حقيقية تكشف حقيقة الاعتداء الجنسي في الكنيسة الكاثوليكية، حيث يُنفِّذ مجموعة من الصحفيين سلسلة من التحقيقات حول ادعّاءات باعتداء جنسي في الأبرشية الكاثوليكية، ويكشف التحقيق معلومات خطيرة تم إخفاؤها لسنين طويلة.
والفيلم الذي عُرض للمرة الأولى في 6 نوفمبر 2015 حصل على الجائزة الكبرى في حفل توزيع جوائز النقاد الأمريكيين The Critics’ Choice، ويشارك في بطولته (ييف شرايبر، مارك روفلو، مايكل كيتون، ريتشارد ماك آدمز، ستانلي توشى، براين دارسي جيمس، بيلي كرودوب).

يبدو الفيلم وكأنه من تلك الأعمال النادرة التي تتعامل مع الصحافة من دون موقف سلبي وهي أفلام قليلة في تاريخ العلاقة بين المؤسستين السينمائية والصحفية، فالانطباع السينمائي الدائم الذي يظهر في أفلام هوليوود وغيرها عن الصحفي يدور حول ذلك الشخص الذي يكره العاملون على القضايا وجوده ويحاولون إبعاده عن مسرح الأحداث، إما لكونه يبحث عن الإثارة دائما أو لأنه يفسد القضية بما ينشره عنها من معلومات ينبغي أن تظلّ سرية إلى حين.
فإذا ما أضفنا إلى المؤسستين السابقتين مؤسسة ثالثة هي الكنيسة، وهي موضوع العمل، سوف نجد أننا أمام اشتباك ثلاثي شديد الحساسية والتعقيد وخاصة أن الثالثة تحظى باحترام وقدسية بينما يدور تحقيق الفيلم حول انحرافات مستمرة تم التواطؤ على إخفائها من قبل أطرف عديدة في مجتمع يبدو شفافا لكنه يقف عند حد الكنيسة ليؤكد المتواطئون أنهم لا يرغبون في تشويه الصورة الناصعة لها.

ورغم تحول الجريمة – أو الجرائم – محل التحقيق في الفيلم إلى ماضي، فإن آثارها المأساوية ما زالت قائمة في صورة ضحايا تعرّضوا للتحرش وهم أطفال وكان الاختيار لكل منهم بين بديلين إما الانسحاب إلى إدمان المخدرات أو الانتحار.

وتعمل الصحافة كمؤسسة مجتمعية طبقا للمقولة التأسيسية “الصحافة ضمير المجتمع وهي الرقيب على الحاكم والمحكوم”، وهي مقولة مثالية قد يبدو الفيلم في انطباعه الأول لدي المشاهد منطبقا عليها تماما إذا اختزلنا القصة في قيام فريق المحقِّقين الصحفيين في جريدة بوسطن جلوب بالكفاح والعمل من أجل كشف حقيقة مجموعة كبيرة من القساوسة يمارسون التحرُّش بالأطفال و تتواطأ معهم الأبرشية عبر نقلهم كلما تم كشف أحدهم، ويتخطى هذا الفريق كل العقبات التي تتعلق بمحاولات الإنكار والكتمان من قبل المحامين والرعايا وصولا إلى الكاردينال نفسه .
يكشف الفريق في النهاية عن نحو 249 حالة تحرش بالأطفال وهو ما يؤدي إلى استقالة الكاردينال واعتذار البابا.
ويحمل الفيلم – الذي يقوم بدور البطولة فيه سيناريو محكم وتنفيذ دقيق وإيقاع سريع وبناء يصعب النفاذ منه – ملاحظة حول مطّ أو تطويل أو استطراد من أي نوع مجموعة من الرسائل الجانبية تشير اجمالا إلى رسالة خفية ومتنكرة في ذلك الإيقاع السريع.

وتبدو أولى ملامح الرسالة مع بداية الفيلم حيث يتم تعيين رئيس تحرير جديد للجريدة ويعقد اجتماعا يتعرّف خلاله على العاملين ومن ثم يستعرض مع المشرفين والمنفذين مجمل القضايا التي يعمل عليها فريق التحقيقات وببساطة شديدة يصدر الأمر بتأجيل جدول الأعمال والعمل على قضية التحرش بالأطفال ويركز حوار الفيلم على التأكيد بأن رئيس التحرير الجديد “يهودي”.

وهناك أكثر من احتمال لتفسير التركيز على ديانة الرجل الأكثر اهتماما بالحقيقة وكشف فساد الكنيسة الكاثوليكية أولهما أن يهوديته تحرّره من الخضوع لضغوط الكنيسة في حالة حدوث ذلك وبالتالي تصلح كمبرر درامي لاستمرار العمل على القضية ولكن هذا الاحتمال يصبح ضعيفا في ظلّ صمود باقي الفريق وإن كان بنسب متفاوتة.

والاحتمال الثاني يتعلق بكونه يهوديا فقط مع العلم بأنه غير متزوج وليس لديه أطفال، وبالتالي لا يوجد لديه ذلك المعادل الشخصي الذي يدفعه للحفاظ على المستقبل ولعل لقاءه بالكاردينال “لوو” هو الأكثر تعبيرا عن أداء الكنيسة من جهة وكشفا لتصورات صانع الفيلم من جهة أخرى، فعلى قصر وقت اللقاء جاءت هدية الكاردينال لرئيس التحرير الذي يسعى لكشف قضية مشينة في الكنيسة، كتابا تحت عنوان “تعلم المسيحية” وكأن الكاردينال يمارس التبشير مع اليهودي القادم إليه من دون أن يرى أن القضية التي جاء من أجلها محل اعتبار.

وثاني ملامح الرسالة يتجلى في المقابلة التي أجراها فريق المحققين مع “فيل سابيانو” ضحية التحرش في صغره والذي شكل جمعية أهلية لحماية هؤلاء الضحايا وبالتحديد حين يؤكد أنه جمع المستندات التي تدين ما يزيد عن تسعين قسا بالتحرش بأطفال وأراد إرسالها للجريدة نفسها لكن رد الجريدة جاء بما يعني إنهم غير مهتمين!
ثمة مقاومة إذن للحقيقة داخل مؤسسة الصحافة أو بدقة ثمة نفوذ للكنيسة ويظهر هذا النفوذ جليا في سلوك مريب لأكثر من شخص داخل فريق العمل، من بينهم المشرف الذي يهدد بإيقاف التحقيق إن لم تتوافر أدلة واضحة أو تم تجاوز الوقت المحدد لإنهاء الأمر.

ولأن الحدث الرئيسي في الفيلم هو كشف القضية وليس وقت حدوثها فقد صادف هذا الكشف أحداث 11 سبتمبر 2001 الشهيرة واختار توم ما كارثي أن يكون صوت البابا هو المعبر عن مأساوية الحدث المحوري وبالتحديد دعائه لكل أبناء الديانات السماوية، لكن الإشارة التي لم ترد في الفيلم مطلقا لدرجة أن عدم وجودها قد يكون دالا بأكثر مما يتوقع المشاهد فهي تلك التي تتحدث عن الإنجيلية، فقد ذكرت اليهودية حول شخص رئيس التحرير والكاثوليكية باعتبارها مذهب الكنيسة موضوع التحقيق والفيلم والإسلام في معرض دعاء البابا ورغم اقتسام الكاثوليكية والبروتستانتية للأغلبية الدينية في الولايات المتحدة، فإن الأخيرة لم تذكر .

استطاع توم ما كارثي أن ينسج حالة من الصراع الناعم رغم موضوعه الشائك وذلك عبر الاحتكام إلى القانون بدءا من رفع دعوى قضائية على الكنيسة على صعوبة الأمر وإثارته للدهشة بين الجميع وانتهاء بالعمل الدؤوب للصحفيين وإلحاحهم ومعاناتهم للحصول على الوثائق والمستندات وإجراء المقابلات مع الضحايا أو أولئك المحامين الذين تواطأوا خوفا وطمعا، وبقدر ما يحمل الفيلم من أمل في إظهار الحقيقة رغم الصعوبات فإنه يحذر من تواطؤ الضحايا مع الجناة في أحيان كثيرة. 


إعلان