“طريق الضبع” في أفغانستان

أمير العمري

في المشهد الأول من فيلم “طريق الضبع” Hyena Road تتابع الكاميرا من مقدمة سيارة طريقها مُتحرِّكة في طريق صحراوي ممتّد على خلفية تنويعات مختلفة لصوت الآذان، وسرعان ما سنعرف من خلال المحادثات اللاسلكية المتبادلة، أن في السيارة مجموعة خاصة من قنّاصة القوات الكندية الموجودة ضمن القوات الدولية في أفغانستان، وهي مجموعة مكلفة بحماية طريق جديد يُطلق عليه “طريق الضبع” تشقه هذه القوات داخل الصحراء الأفغانية ليربط بين أطراف البلاد وبالتالي يسهل القضاء على فلول جماعة طالبان التي لا تزال تعيث تخريبا وعنفا في البلاد، تناضل من أجل استعادة السلطة.

لقد سبق أن شاهدنا الكثير من الأفلام التي أنتجتها هوليوود، عن دور القوات الأمريكية في العراق، كما أخرج عدد من السينمائيين البريطانيين أفلاما هامة حول الموضوع. من أشهر الأفلام الأمريكية وأهمّها، فيلم “القناص الأمريكي” (2014) لكلينت إيستوود، الذي أثار انتقادات واسعة بسبب نظرته العنصرية إلى العراقيين، والإعلاء المفتعل من شأن “البطولة” الأمريكية مُبرِّرا قتل الأبرياء، بل إنه يصل في أحد مستوياته، إلى افتراض غياب البراءة عن ساحة العنف في العراق!

والآن يأتي هذا الفيلم الكندي للمخرج بول جراس Paul Grass (وهو نفسه الذي كتب له السيناريو) لكي يُركِّز بشكل خاص على دور القوات الكندية في تعقب طالبان في أفغانسنتان، وتقديم تضحيات كبيرة من أجل تحقيق “السلام” هناك. ولاشك في وجود تشابه من زوايا عدة، بين “طريق الضبع” و”القناّص الأمريكي” منقوصا منه عنصريته بالطبع.

فبطل الفيلم “ريان” قناص ماهر يجيد القنص، وهو يقود مجموعة من القناصة الذين ينطلقون من القاعدة العسكرية الضخمة في قندهار، يواجهون المخاطر ويعيشون حياة جافة يفتقدون خلالها أحبائهم في الوطن. ولكن “ريان” لا يتمتّع بما كان يتمتع به بطل “القنص الأمريكي” من برود وتحكم في الأعصاب. إنه أولا واقع في غرام زميلته “جنيفر” التي تعمل في التوجيه الإرشادي للمقاتلين عبر أجهزة الاتصال الحديثة، ومراقبة ما يحدث في أرض الواقع عبر شاشات الكومبيوتر. لقد أقام معها علاقة حميمية خلال عطلة قضاها الاثنان منذ فترة قصيرة في قبرص، والآن هو يعبر لها صراحة عن حبه، يريد أن يستأنف علاقته بها في حين تصدّه هي بلطف رغم رغبتها في اتصال العلاقة خشية من انكشاف الأمر وهو ما سيؤدي حتما إلى فقدانها وظيفتها.

في مقابل شخصية “ريان” المتهوِّر، الملتهب المشاعر، هناك شخصية رئيسه الضابط “بيت” الذي يتمتع بقدر كبير من الدهاء والمكر والنظرة الأكثر شمولية للساحة الأفغانية. يُعبِّر “ريان” مباشرة عن مشاعره بما يتجاوز أحيانا مبدأ طاعة الأوامر خاصة عندما يشاهد بعينيه قيام جماعة موالية لطالبان باختطاف طفلتين بريئتين في عمر الزهور، كان بوسعه إنقاذهما، يريد أن يتدخل ورفاقه لإنقاذها،  غير أن الأوامر المشدّدة تصدر من “بيت” بعدم التدخل مما يؤدي إلى وقوع مواجهة بين الرجلين: ريان يستنكر بشدة عدم التدخل لإنقاذ الطفلتين، أما بيت فهو بحكم صلاته الخاصة بالمخابرات، يرى أن التدخل في حالة عدم وجود تهديد مباشر لجنوده، هو نوع من الحماقة التي يمكن أن تؤدِّي إلى تصاعد المواجهات بين القبائل والميلشيات المسلحة المتنازعة في البلاد، وربما يجعل قواته تتعرّض للمخاطر أيضا.

من الجانب الأفغاني لدينا شخصية شاب أفغاني مرح يعمل مساعدا للضابط “بيت”، يتدخل في الوقت المناسب كلما واجه القناصة مأزقا لينقذهم من مواقف شديدة الحرج، كما يملك التدخل لدى السلطات لتسهيل الأمور، ويتمكن من الحصول على المعلومات من مصادره الخاصة، مُدعيّا دائما أنها تأتيه من “عمه”.. لدرجة تجعل “بيت” يعلق في سخرية ذات مرة بقوله” يبدو أن لديك عما في كل مكان” ويشير الفيلم من طرف خفي إلى علاقة ذلك الشاب بالمخابرات الأمريكية.

أما الشخصية الأفغانية التي تقع في بؤرة الفيلم فهي ما يطلقون عليه – الرجل “الشبح” ذلك الشيخ الغامض ذو اللحية المهيبة، أحد كبار رجال قرية من القرى الجبلية الوعرة، الذي يتدخل لإنقاذ فريق “ريان” من الموت المحقّق على أيدي مجموعة مسلحّة من طالبان، بعد أن يؤويهم داخل بيته، وبعد أن كانوا يعتقدون أنه سيقوم بتسليمهم لمهاجميهم، يتمكّن هو بشكل أقرب إلى السحر، من وقف هجوم مقاتلي طالبان وصرفهم بعيدا.

وما يلفت النظر إليه عيناه الملونتّان: أحدهما زرقاء والأخرى بنية. وعندما يصف ريان لرئيسه “بيت” شكل هذا الشيخ المهيب الطلعة، يشك “بيت” في أن يكون هو الرجل هو نفسه “أسد الصحراء” أي ذلك المقاتل الشرس الذي لعب دورا مركزيا في إنزال الهزيمة بالجيش السوفيتي من أفغانستان. ويُخطِّط “بيت” مع ريان من أجل الاتصال بالرجل وإغوائه بالتعاون مع القوة الكندية من أجل دفع هجمات المسلحِّين وضمان استكمال مشروع الطريق الجديد.

ستدور بالطبع الكثير من المعارك، وتقع بعض المفارقات المثيرة، التي صورّها بول جروس ببراعة كبيرة ودقة سواء في المسرح العام للأحداث، أي عبر المشاهد الخارجية، أو داخل القاعدة العسكرية أو خلال ذلك التصوير الواقعي المقنع تماما لحياة الجنود، لنمط حياتهم اليومية، للاشتباكات العنيفة التي تقع بينهم وجماعات المسلحين من حين إلى آخر. ولاشك أن الفضل في تلك الصورة الواقعية التي يتمتّع بها الفيلم يعود إلى الدور البارز لمصمم المناظر “أفغندر جروال”، الذي ينجح في إعادة خلق البيئة الأفغانية في المناطق التي دار فيها التصوير في الأردن، ومدير التصوير كريم حسين الذي يستخدم الكاميرا في المشاهد الصعبة بحيث يجعلها تبدو كما لو كانت مربوطة بأقدام الجنود حينا، أو تؤدِّي معهم دورا قتاليا مباشرا في ساحة المعارك.
يُقدِّم الفيلم شخصية الشيخ الأفغاني “أسد الصحراء” بتقدير واحترام، ويصوِّره كرجل يتمتع بالكاريزما، كما يتمسّك بالكرامة، فهو رغم تعاونه الظاهري مع الكنديين، يخدم أساسا أهدافه الشخصية. وهو أيضا يخفي غير ما يظهر، ويعبر عن قوة شكيمة الشخصية الأفغانية.

وتدور في الفيلم أحاديث حول “البدال”، وهو ما يوازي “الثأر” في الثقافة العربية، واعتباره أمرا يتعلّق بالكرامة. وهناك تأكيد على ضرورة احترام التقاليد الأفغانية من جانب الجنود، وأهمّها عدم التطلّع إلى النساء، لأنه قد يؤذِّي مشاعر الأفغان الرجال مما يجعلهم غير راغبين في التعاون مع القوة الكندية ضد طالبان.

على فترات متقطعة، نتابع أحداث الفيلم من خلال ما يرويه القائد “بيت” كما يُعلِّق بصوته أمام بعض المشاهد للجبال الوعرة، مشيرا إلى تجربة الإسكندر الأكبر الذي غزا  مع جيشه أفغانستان عام 330 قبل الميلاد، ويروي ما دوّنه الإسكندر نفسه عن تلك التجربة الشاقة، وكيف كان يوجِّه لأمّه خطابا كل يوم، يشكو لها من شراسة ما يواجهه هناك من مقاومة، وكيف أن “كل شيء يقاتل بعضه البعض في أفغانستان”، ويصل إلى الاستنتاج أن الإسكندر بعد أن واجه أكثر من هزيمة في عدد من المناطق، اضطّر للعودة إلى بلاده حيث مات بعد خمس سنوات!

يتمتّع الفيلم بإيقاع سريع بفضل لقطاته قصيرة خاطفة، وبالحوار الذي يحاكي طريقة العسكريين في الحديث، وبالدقّة الشديدة في تصوير كيفية إدارة العمليات من غرفة القيادة في معسكر قندهار، والانتقال عبر المونتاج المتوازي بين ما يواجهه الجنود في أرض المعركة، وما يحدث من اضطراب أحيانا داخل غرفة العمليات. غير أن مما يُقلِّل كثيرا من قوة وانسابية الفيلم، تركيزه بدرجة زائدة، على العلاقة العاطفية بين “ريان” و”جنيفر”، وكيف ستكتشف الأخيرة أنها حامل من علاقتها بريان في قبرص، ثم تخبره ليعبر عن ابتهاجه الشديد ثم يعرض عليها أن يتزوجا، ثم يحلم الاثنان بالمولود القادم.. وكلها استطرادات مقصودة تُمهِّد للنهاية الميلودرامية التي سينتهي إليها الفيلم عندما يجعل ريان يتورّط بسبب انسياقه وراء مشاعره، في قتال غير متكافيء، من أجل إنقاذ حياة “الشبح”، مخالفا تعليمات قائده، مما يؤدِّي إلى أن يوجِّه ريان مصيره المأساوي في حين تتابع “جنيفر” من موقعها نهايته عبر الاتصال اللاسلكي.

فيلم “طريق الضبع” من الأفلام الحربية سريعة الإيقاع على غرار أفلام هوليوود الأمريكية، وهو يسعى لاكتشاف ملامح الصراع في تلك المنطقة الوعرة التي تستعصي على الغزاة، وهو معنى يتكرّر في الفيلم، لكن هذه الخشونة التي تحيط بالموضوع بالضرورة، لم يكن فيها مكان لعلاقة عاطفية ناعمة مثيرة بين ضابط وزميلته داخل قاعدة عسكرية في الصحراء.
 لكنها فيما يبدو، الرغبة في صنع “توليفة” هوليوودية، دفعت بول جراس إلى ذلك الاختيار الذي لم يسقط فيه “القناص الأمريكي” على أي حال!  


إعلان