ما لا تعرفه عن “زلاتان” و”رونالدو”
قيس قاسم

تزامناً مع العروض الجديدة لـ”زلاتان شاباً” و”رونالدو” يخطر على البال سؤال حول طبيعة وخصوصية المراجعات النقدية لهذا النوع من الوثائقيات التي تتناول جوانب من حياة لاعبي كرة قدم كبار، في ظل استنكاف بعض النقاد الكتابة عنها؟ وما دمنا بصدد تناولها، تساوقاً مع الحرص على متابعة جديد السينما وإحاطة المتلقي بتفرداتها، لا بد من بسط “فرشة” تمهيدية، قد تساعدنا على الاقتراب من الإجابة على جزء من السؤال/المدخل، تؤكد خصوصية هذا النوع من الاشتغال البصري المهتم بعالم الكرة والمنتمي للفن السابع، وكلاهما شعبيان!.
فالكرة هي اللعبة الجماهيرية الأكبر في العالم والسينما هي الفن الأوسع شعبية، نقول “الفن” حتى نميزه عن التلفزيون وبقية وسائل التواصل الاجتماعي المنتمية إلى عالم “الميديا” والاعلام، وبالتالي فحضورهما القوي في حياتنا يفرض علينا موضوعياً، بغض النظر عن طبيعة وحجم شعبية كل واحد منها، الاهتمام بتفاصيلهما وجديدهما، ومن هنا أيضاً يمكن تفسير اهتمام السينما المبكر بعالم الكرة واستمرار البحث عن المثير فيها وللوثائقي دور مهم في الإحاطة بعوالمها وله ربما الفضل الكبير في تعريف العالم بجوانب كثيرة منها وإتاحة الفرصة للجمهور الواسع للتعرف عن قرب على “نجومهم” وفهمهم بشكل أفضل خارج الملاعب. لكن ثمة اشتراطات ليكون “البورتريه الرياضي” مقبولاً منها؛ أن يضيف شيئاً جديداً لم نعرفه عن اللاعب/النجم من قبل، بكلام آخر تقديم صورة (حقيقية) له، غير صورته المألوفة عندهم أو الراغبين هم برسمها، فوظيفة السينما الوثائقية ليست نقل العالم فحسب، بل إحداث هزات في ذهن المتلقي تشجعه على طرح الأسئلة!
وأيضاً الإحاطة بالجوانب النفسية والاجتماعية المؤثرة في تكوينه كإنسان قبل أن يكون لاعباً كما فعل البوسني “أمير كوستوريكا” في فيلمه “مارادونا” ويمكن في بعض الأحيان الارتكان على الجانب الفني الإبداعي البحت لتقديم الشخصية الرياضية من خلاله، كما في تجربة المخرجين دوغلاس غوردون وفيليب بارينو مع “زيدان، بورتريه القرن الـ21” لكن المفارقة التاريخية اللافتة تتجلى في قلة الأفلام “الشخصية” الجيدة، فقد جرى التركيز في الأعم على الصورة المبهرة “الإيجابية” والاعتماد على حلاوة اللقطات المأخوذة من أشرطة الفيديو وهذا واضح في جُلّ الأعمال المتناولة عالم كرة القدم (بنسختيها العالمية والأمريكية) ولهذا السبب نجد في تناولنا شريط الأخوين السويديين فردريك وماغنوس جِرتين؛ “زلاتان شاباً” محاولة لتقويم واحد من الأفلام المميزة في هذا الحقل لقوة بحثه في دواخل اللاعب السويدي، والقريب من شريط “رونالدو” لأنطوني وينك لمشتركاتهما.
زلاتان المنفتح.. المغلق

للأخوين “جِرتين” تجربة مع الكرة فقد أنجزا عام 2002 فيلماً عن نادي “مالمو أف أف” بعنوان “المهووسون الزرق” وكان بين من التقوا بهم من لاعبين؛ زلاتان إبراهيموفيتش. كان كما تظهر التسجيلات التي عادا إليها ثانية حين قررا العمل على فيلمهما الجديد: صغيراً منفتحاً ومرحاً. وجدوا بالصدفة كماً جيدا من التسجيلات لم يستخدموها من قبل فأعادوا كتابة نصهم على ضوئها ولكن وحين أرادوا استكمالها بالحديث معه وجدوا صعوبة فالنجم الكروي لا يرغب في الحديث كثيراً عن شبابه ولا يميل إلى إضافة أشياء أخرى غير تلك التي سجلها في سيرته الذاتية.
هذا التعقيد فرض عليهما تحدياً فقررا المضي في مشروعهما الذي أراداه أن يأتي وفق ذائقتهم السينمائية وعلى مستوى أعمالهم السابقة وآخرها شريط فردريك “الدراجات الهوائية ضد السيارات”. للعودة إلى سنوات انتقاله الأول من مالمو إلى نادي أياكس أمستردام احتاج الشريط شهادات من عاشوا معه تلك الفترة ومن بينهم؛ ماركو فان باستن، رولاند كومان، فابيو كابيلو، ميدو وغيرهم. يكشف انتقاله المبكر عن رغبته المضي في طريق صعوده وحيداً.
قساوة تجربة الاحتراف بعيداً عن نادي حيه الأليف نقلها بعض المقربين منه. كشفوا خلالها شعوره العالي بالعزلة والغضب وهذا ما انعكس في الملاعب فقد كان دوماً على حافة الانفجار وحتى يضبط انفعالاته احتاج إلى طاقة غير عادية. شروط الانتقال إلى ناد كبير مقابل مبالغ كبيرة دُفعت إلى شاب فقير مهاجر جاءت عائلته من يوغسلافيا بحثاً عن أمان في السويد لم تكن سهلة. الضغط الخارجي فوق التوتر الداخلي كان يشتت تركيزه وكاد أن يخسر حماسة المراهنين عليه لولا قوة كامنة فيه وصفها أحدهم “بقوة محارب عنيد يشق طريقه بين العدو دون خوف”.
ظلّ زلاتان وحتى اللحظة هكذا “منفرداً” يقاتل داخل الملاعب من أجل إثبات قدرته كفارس جسور يصنع انتصاره بنفسه وهذا ما خلق له عداوات كثيرة من بين أشدها ظهوراً علاقته باللاعب المصري أحمد حسام “ميدو” الذي ستضفي أوصافه له وكلماته عنه جزءاً من نظرة الآخرين “لذلك الشرس بوسني الأصل” وفي جانب ثانٍ منها ستعزز المنحى الذي أراد الوثائقي أن ينحوه، أي رسم بورتريه عنه من خلال الآخرين ومن خلال ما توفر من تسجيلات في شبابه لهذا جاء عملهما مختلفاً ذا نَفَس اسكندنافي يميل إلى كشف جوانيات بطله والغور في أعماقه، كم المشاهد المأخوذة من الملاعب قليلة فيه وأغلبيتها تعود إلى بداياته وهو مازال صغيراً يلعب للمتعة محاط بالأصدقاء على عكس التجربة الهولندية ثم الايطالية مع “يوفنتوس” التي وجد نفسه فيها أمام تحدٍ لتجاوزه كان عليه التركيز فقط على الكرة ونسيان كل شيء حوله.
ربما ساعدته نشأته كمهاجر من أب مسلم ووالدة كرواتية، عاش غريباً في بيئة منعزلة، على فعل ذلك، ولهذا طالما واجهه زملاءه بأسئلة؛ عن صديقته التي تركته وعادت إلى السويد وأهله الذين نادرا ما يتصلون به؟ سيكشف الفيلم عن دور والده في حياته وتشجيعه على المضي في مشروعه الاحترافي ولكنه بالمقابل سيظهر جانباً طالما تجنب زلاتان الحديث عنه: إدمانه الكحولي. وبهذه العلة سيتشابه النجمان “زلاتان” و”رونالدو” فالاثنان عانيا من عقدة الأب. الأول كان حاضراً ومشجعاً وقاسياً فيما الثاني انطوائياً ولا مبالياً بمستقبل ابنه الذي غادر البيت للّعب في نادي “سبورتنغ لشبونة” البرتغالي وعمره يقارب الثانية عشرة.
إلى جانب الفقر الذي جمعهما وعمل البرتغالي كل شيء من أجل تعويضه بحياة باذخة، ظل “البوسني” متواضعاً ولم يعرف عنه ميله إلى الترف وهذا ما ظهر في الوثائقي. يترك فيلم “زلاتان شاباً” شعوراً عند مشاهدية بالحزن وباكتشاف كائن عرفوه عنيفاً ومثابراً دون كلل في الملاعب لكنهم صاروا وبعد مشاهدته أمامهم بصورة لم يعرفوها من قبل يتعاطفون أكثر معه ويدركون صعوبة وصول المهاجر إلى القمم وبخاصة في عالم كرة القدم حيث الصراع على أشده داخل الملاعب وخارجها، وتجربة “رونالدو” تأكيد إضافي عليها.
الطفل الموهوب.. رونالدو

قبل كل شيء لابد من القول إن الفيلم هوليوودي الهوى وبعد معرفة أن الشركة المنتجة له هي” “يونيفيرسال” سنتفهم طابعه الدرامي التقليدي مع أن فيه وللحق روحاً مغايرة للسائد، حاول صانعه تناول جوانب شخصية تلقي ضوءاً قوياً على مساحات حياتية ظلت في الظل ولم يعرف الناس عنها الشيء الكثير بخاصة علاقته بعائلته وبأمه بشكل خاص.
انحداره من وسط عمالي أجبره بعد تحسن وضعه المالي على تحمل مسؤوليات كثيرة لم يتوانَ عن تنفيذها، وبهذا المعنى فالطفل الذي ترك بيته مبكراً كان يدرك أنه في طريقه ليصبح “عراباً” لعائلة تعاني من تمزقات. علاقة والديه سيئة وأحد أخوته كان مثل والده مدمناً على الكحول فعمل كل ما بوسعه لمساعدته على تجاوز حالته ونجح، فيما فشل مع والده وظل يتمنى لو أنه كان يشبه بقية الآباء، وربما لهذا السبب كرس حياته الشخصية لرعاية طفله المتبنى ولم يضف جديداً حول أصله أو يعلن مَن هي والدته، لكن المؤكد أنه أعطاه كل ما يريد من حب وحنان. شُيّد هيكل الفيلم تقليدياً أي؛ مقدمة، ذروة ونهاية تصاعدية، ومع ذلك كان ممتعاً فيه الكثير من الأهداف الجميلة واللقطات الكروية الرائعة وفيه محاولة لفهم “غموض” الشهرة والسعي دون توقف لتحقيق أقصى درجات النجاح: الفوز بالكرة الذهبية.
يكرس الشريط وقتاً كبيراً لتجسيد الصراع بينه وبين “ميسي” على نيل اللقب الأهم. ويسلط الضوء على المعايير الملتبسة في منح هذا اللقب/الحلم. كانت الغيرة عنصراً محفزاً له كما كانت مدعاة لكراهية لاعبين كثر لـ”زلاتان”. فالغيرة قانون ثابت كما يتضح في الشريطين على اللاعب التوافق معها والعمل على استثمارها لصالحه وتجنب الانجرار إلى فخاخها. أما لوالدته فأعطي الفيلم حيزاً مؤثراً اشتغل عليه بصدق وساعدت شخصيتها على تحقيق ذلك. فهي كانت وظلت قريبة منه تقر بفضله وتشعر بالفخر لما يقدمه لمحبي الكرة وللنادي الإسباني بوجه خاص. تجربته في ريال مدريد أخذت الحيز الأعظم من التسجيلي الأمريكي وعبرها أحاط مشاهده بقدراته الاستثنائية كلاعب موهوب قادر على تحمل الضغوط القوية التي تفرضها المنافسة الدائمة مع “برشلونة”.
مشاهدة “رونالدو” متعة حقيقية فيما تعطي فرصة التعرف على “زلاتان شاباً” حلاوة اكتشاف ذات إنسانية، لخصوصيتها تظل موضع اهتمام السينما وعشاق الكرة في كل مكان من العالم.