“جسر الجواسيس”.. ملحمة كلاسيكية حديثة
إسراء إمام

ثمّة مهابة لأفلام الإنتاج القديم، دسامة لا تقوى على مجاراتها السينما الحديثة، مهما بلغت ذروة جودتها، ورنة ألقاب صانعيها. أجواء بعينها تستدعى حنينا خاصا، وشغفا يدفعك ليلة ما إلى إعادة مشاهدة فيلم منزوع الألوان، مُعنوّن بتاريخ عتيق.
فيلم “جسر الجواسيس” The Bridge Of Spies 2015 يملك هذا السحر، ما إن تبدأ مشاهدته حتى تنجر إلى هذا العالم الذى كان، مأخوذا بنكهة كلاسيكية خفية ومُحرِّضة. والحقيقة أن الأمر لا يرجع سببه إلى نوع الحقبة التي يخوض الفيلم أحداثها، وإنما يرجع إلى جودته المُلهِمة بحق.
قضية مسيسّة إنسانيا
أثناء الحرب الباردة، تم القبض على جاسوس روسى في الولايات المتحدة الأمريكية يدعى Rudolf Abel – والذي حاز “مارك ريلانس” على جائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد عن دوره فيه – ولأن الحكومة الأمريكية، لم تشأ إثارة الأقاويل حول محاكمتها له، فاستدعت أحد المحامين الكبار James B.Donovan “Tom Hanks” للدفاع عنه، كستار شكلي لا يحول بينه وبين الإعدام، وإنما يضفي مزيدا من المشروعية على كافة الخطوات القانونية التي اتخذتها حياله.
إذن نحن أمام قضية سياسية بحتة، تنطوى على تكثيف دسم لفترة ملتبسة من تاريخ هذه الحرب، لها مصطلحاتها، تشعباتها، وأبعادها التي قد تتعلق بملفات أخرى مثل “ألمانيا الشرقية” مثلا. وبالرغم من هذا، لن يشعر المتفرج ولو لحظة أن سيناريو الفيلم يتحدث في منطقة بعيدة عن اهتماماته الشعورية والفكرية الحياتية، فالأخوان “Ethan Coen” و”Joel Coen” ومعهما “Matt Charman” أعّدوا سيناريو ذكيا، لم يبتعد أبدا عن الصلب السياسي للحبكة، وإنما ربطها بتفاصيل إنسانية ملفتة للانتباه.
كتابة ثرية
إن أمعنّا النظر في تكنيك القطع المتوازى، ما بين سرد وقائعAbel بداية من القبض عليه وحتى مراحل محاكمته، وبين الملابسات التي قادت الطيار الأمريكى Powers إلى الوقوع بين يدي الروس. سنجد أن السيناريو استحدث الكثير من الأساليب التي تخصّه في التعامل مع هذا الشكل من السرد. فنراه يبدأ حدوتة Powers بدون سابق إنذار، مقحما إياها في السرد بلا أى تمهيد، ليحياها المتفرِّج بدقة ومعايشة تجعله يطلِّع على ما فيها من اتهامات خفيّة للحكومات عموما، فيضعنا السيناريو في الموقف من وجهة نظر هذا الطيار، الذى يجد نفسه فجأة قد أصبح عميلا سريا، مبعوثا في مهمة جوية لا يجب فيها أن يحرص على حياته، وإنما ينذر نفسه كالكفيف للموت إن شعر باقتراب يد الروس إليه.
الحكي بهذه الطريقة يبدو وكأنه يعوِّض التفاصيل الغائبة في حكاية Abel ،فحتى وإن اختلفت قوانين احتقار ثمن الروح في مقابل إعلاء شأن الوطن، سيظل المبدأ واحدا (أنت لاشيء إن وقعت في يد العدو، والمعلومة التي في رأسك تساوى أضعافك).
يمكننا إضافة إلى ذلك، أن نتتبّع مواضع النقل بين خطي السرد، لأنها مثيرة للإعجاب وبشدة. فمثلا، أول مشهد تطل فيه حكاية power سنجده بعد جملة يقولهاAbel لـ Donovan حينما صارح الأخير الأول بأنه لن يستطيع أن يجلب له أدوات لممارسة الرسم، فيقول Abel: “سيد دونوفان، بالطبع يوجد الكثير من الأسرى الأمريكان الذين في مثل موقفي بين يديّ الروس الآن، ولابد أنك تتمنّى لهم معاملة لا تسيء إليهم”.

وكما كان التناغم في عملية القطع الموازي بين الخط الدرامى الذى يخصّ Abel ونظيره الذى ينتمى لـ Powers ، جاءت نقلات وسطية ذكية، لا علاقة لها بالخطين، فمثلا في قاعة محاكمة Abel يطلب القاضي من الجميع النهوض، فتنتقل اللقطة بشكل مباغت على مجموعة من الأطفال الذين ينهضون لتحية العلم الأمريكي في مدرستهم، ومن ثم تتوالى اللقطات التي تُبيِّن السياسة الإرهابية التي كان يبثّها نظام التعليم الأمريكي داخل نفوس النشأ في هذا التوقيت، مُحدثِّين إياهم عن تأثير القنبلة النووية، وتربُّص العدو الروسي بأرضهم الطيبة. فحتى هوامش السيناريو، لم تتورّع عن ربط كل هذه السلوكيات ببعضها البعض، لأنها في الحقيقة تؤدى جميعها إلى حلقة واحدة، بغض النظر عن أى جنسية أو حكومة أو هوية.
ثمة حالة أنيقة من التشابك في هذا السيناريو، عادة ما نراها في صورة أخفّ وطأة من التي تقابلنا هنا، ففي هذا الفيلم، نادرا ما يمكننا أن نتجاوز شيئا قد قيل أو فُعِل دون العودة إليه. فمثلا في مشاهد البداية نجد Donovan يدخل إلى المكتب مع شركائه لتغلق خلفهم السكرتيرة الباب بإيحاء مُلفت، وفي اللاحق حينما يُصمِّم Donovan على موقفه في الدفاع عن Abel بشرف، ومن دون مواربة في الحق، ومع نظرة الجميع له بالدونية، يأتى مشهد يقف فيه Donovan قرب باب الاجتماعات، لتأتي السكرتيرة وتغلقه بنفس طريقتها التي كانت، ولكن في وجهه هذه المرة.
في موقف آخر، نرى سيدة تبعث بنظرات احتقار إلى Donovan في عربة القطار باعتباره المحامى الخائن الذى يدافع باستماتة عن الجاسوس الروسى، ولكن في نهاية الفيلم نراها تعود لتُحيِّيه بعينيها لأنه البطل الذى أتمّ عملية تبادل الأسرى في ألمانيا الشرقية.
نفس التكنيك يتكرر، حينما تنطفئ ابتسامة من فوق وجه Donovan، في أول يوم عمل بعد عودته من صفقة تبادل الأسرى، لمجرد أنه شاهد من عربة القطار مجموعة أطفال يعبرون جدار حديقة جيرانهم، لأنه استعاد رغما عنه حادثة مقتل الشباب أمام الجدار العازل في ألمانيا. فمعظم الأشياء في هذا السيناريو سُردَت لكى نتذكرها.
امتدّ هذا الأمر للحوار، فنجد كثير من جُمل الحوار، قد أُعيد استخدامها، مثلا لقب counselor الذى نادى به القاضى Donovan ومن ثم عاد رجل الـ CIA ليناديه به من جديد، وكأن جميعهم يرونه بعين واحدة لا تلائمه، ليأتي هو بعدها ويعبر عن بغضه لهذا اللقب.
كذلك، سؤال Donovan المتكرر لـ Abel أثناء تعقيدات محاكمته غير المطمئنة، “ألا تقلق أبدا؟!” ليجاوبه Abel “وهل هذا سيساعد في شيء”، لدرجة قد جعلت من السؤال ذاته إفيهّا في بعض الأوقات، وفي أوقات أخرى ساهم في بناء تفصيلة تراكمية قوية فيما يخص العلاقة بين Donovan وAbel . مصطلح “استويكى موجيك” الذى حكى Abel عنه لـ Donovan، حينما تذكّر الرجل الضيف الذى كان يأتي لبيتهم وهو طفل، ذاك الرجل الذى صمد أمام ضربات جنود قد تهجمّوا يوما عليهم، حتى زهدوا التعدِّي عليه وهم ينعتوه بجملة من لغتهم لم يفهمها في صغره، ولكنها ظلّت عالقة في ذهنه “استويكى موجيك” فيما معناه الرجل الذى لا يُهزم، وفي مشهد النهاية، وحينما وقف Donovan عازما ألا يتحرك نصف سنتيمتر ليُتمِّم الصفقة من دون الحصول على الأسير الطالب، نطق Abel في حماس ليدعمه “استويكى موجيك”.
سبيلبرج اليقِظ

أسهب المخرج “ستيفن سبيلبرج” Steven Spielberg في تضمين الصورة بعضا من الرمزية الخفية، التي تواكب المعنى الذى يسعى إليه السيناريو في أكثر من مرة. ففي مشهد ذهاب Donovan إلى بيت القاضى، محاولا إقناعه بالاستغناء عن عقوبة إعدام Abel، نرى القاضى يقف لينصت وهو يربط ربطة عنقه في البداية أمام مرآه غائمة وَسِخة، لا تتضِّح فيها الرؤية أبدا، وحينما يُبدى بعض اهتمام لما يقوله Donovan يتحرك ليقف أمام مرآه أخرى، أصغر ولكنها أنقى قليلا مما مضت، ومع نهاية كلمات Donovan و الشعور بالأثر المحسوس لها على حسابات القاضى، نجده ينتقل ليقف قبالة مرآة كبيرة لامعة تظهر فيها الصورة بدقة. وفي مشهد آخر، كان كلٍ من Donovan وAbel يتحدثّان حول خطاب مريب، تم إرساله باسم زوجة Abel ، قبيل سفر Donovan لإجراء المفاوضات، يلتقط Spielberg الاثنين في كادر بعيد للغاية، والفراغ يحيط بكل منهما، موحيِّا بوحدتهما في جبهة منافية تماما لأغراض حكوماتهما.
كادر آخر في غاية الخباثة، يُجسّد فيه Spielperg مدى تباعد كل من Donovan ووكالة الاستخبارات الأمريكية، رغم أن الظاهر يحكم بأنهما يسعيان لنفس الغرض، فيبدو Donovan في أحد الاجتماعات، جالسا في آخر يسار الكادر، والمسئول الذى يتحدث معه جالسا في آخر يمين الكادر، وفي المنتصف يظهر الرجل مُساعد المسئول، تأتى الصورة من خلف ظهره، الذى يشقّ الصورة لنصفين متنافرين تماما، ليظهر Donovan في ضفة، والمسئول في ضفة أخرى.
دلالة مرئية قاسية أخرى، تجتهد لرسم صورة البؤس الذى كانت تمرّ به ألمانيا الشرقية، ظهرت في تتبّع كاميرا Spielberg كلبا جائعا، يتشمّم في الأرض، في أول المشهد الذى يتعرض به Donovan للسطو، بينما كان في طريقه ليُعقِّد المفاوضات، ليقول له مبعوث المفاوضات بعدها بمشهد “معطفك لابد وأن يُسرق يا سيد دونوفان، طالما كان ثمينا”.
آخر كلمتين:
– Mark Rylance ممثل نابغ استحقّ الأوسكار عن جدارة.