“شلة الذئاب” .. غرابة الاكتشاف

أمير العمري

لاشك أن عنصر الجاذبية الأول في الفيلم الوثائقي الأمريكي “شلة الذئاب” (2015) The Wolfpack للمخرجة كريستال موسيلCrystal Moselle  لا يرجع أساسا إلى ابتكار في الأسلوب أو في طريقة السرد، فهو لا يختلف كثيرا عن غيره من الأفلام الوثائقية الحديثة التي تجعل الشخصيات التي نشاهدها هي الموضوع، فهي التي تروي لنا التفاصيل، من وجهة نظرها، دون حاجة إلى شرح أو تعليق صوتي أو تدخّل من جانب المخرجة على غرار ما نرى في “التحقيق التليفزيوني”، بل يمكن القول إن “الموضوع” هو عنصر الجاذبية الأول والأساسي في هذا الفيلم الغريب.
وتنبع غرابة الموضوع من غرابة الشخصيات والحدث نفسه، كونه غير مألوف، ولكن غرابة الحدث في حدّ ذاتها لا تصنع فيلما جيدا، بل لابد أن يملك المخرج القدرة الفنية على صياغة المادة في قالب فني مشوق، يُسلِّط الأضواء على تلك “الحالة الغريبة” التي يعرضها، شريطة أن يضمن عنصري الإثارة والمتعة.

عثرت المخرجة على مادتها مصادفة عندما التقت ذات يوم بستة من الشباب المراهقين، يشبهون بعضهم البعض كثيرا، تنسدل شعورهم الطويلة فوق أكتافهم، تشي نظرات عيونهم بأنهم ينتمون إلى عالم مختلف من الناحية الجينية، وسنعرف لاحقا أن والدهم هو “أوسكار أنجولو” الذي ينتمي إلى السكان الأصليين في بيرو بأمريكا اللاتينية، وكان قد التقى منذ سنوات بعيدة بالأمريكية “سوزان” التي مرّت في الماضي بتجربة حياة الهيبيز التي تتمرّد على التقاليد، وآمنت بالعيش في الطبيعة خاصة وأنها تنتمي إلى منطقة ريفية من الوسط الأمريكي. لكن ما حدث أن جاء الاثنان – أنجولو وسوزان- إلى نيويورك للعمل وادّخار بعض المال تمهيدا للرحيل إلى اسكندنافيا التي يرى “أنجولو” – كما يعبر في الفيلم- أنها مجتمعات ابتكرت أسلوبا مختلفا في الحياة يقوم على تحرير الإنسان. لكن ما حدث هو أنهما ظلّا يقيمان في شقة في الطابق السادس عشر في إحدى البنايات التي تمنحها البلدية للفقراء، في حي مانهاتن بنيويورك. وأنجب الاثنان ستة من الأولاد وفتاة واحدة.

قوانين الأب – السيد
كان أنجولو الذي انضمّ في شبابه إلى حركة “الهاري كريشنا” المتفرِّعة من الديانة الهندوسية، يريد أن يقتدي بمؤسِّس تلك الحركة، أي ينجب عشرة من الأبناء.. لكنه أنجب هؤلاء السبعة وأطلق عليهم جميعا أسماء بيروفيّة، كما حرّم عليهم قصّ شعورهم إيمانا منه بأن الشعر الطويل دلالة قوة واعتزاز بالنفس.

وبسبب نوع من الفزع أقرب إلى “االبارانويا” مع نزعة معادية للحضارة الرأسمالية الحديثة (التي تتجلّى على نحو مثالي في نيويورك) بالإضافة إلى خشيته من انتشار الجريمة والعنف في وتوزيع المخدرات في شوارع المدينة، وميله إلى عدم الاختلاط بالآخرين (ربما كا هذا يرجع لأصول نشأته وسط قبائل الإنكا) فقد حرّم أنجولو على أبنائه مغادرة الشقة التي يقيمون فيها.

يروي أحدهم في الفيلم كيف أنهم كانوا يقضون عاما بأكمله دون الخروج إلى العالم الخارجي ربما باستثناء مرة واحدة أو في أفضل الأحوال 9 مرات. ودائما بصحبة الوالدين. وكان والدهم يخرج بالطبع لشراء الطعام والشراب. وقد ظلّوا على هذا النحو الى أن بلغ أكبرهم الخامسة عشرة من عمره.. وتولّت أمهم تعليمهم داخل البيت، بعد أن حُرموا من الذهاب للمدرسة (لكي لا يختلطوا بالأولاد المنحرفين حسب تصورات والدهم).

ولم يتجرأ أحد على مخالفة تعليمات الأب إلا بعد ان أعلن كبيرهم التمرد في عام 2010 وكان أحد أيام السبت، بعد بلوغه الخامسة عشرة، وقد قرر في ذلك اليوم الخروج بمفرده وحرص على ارتداء قناع حتى لا يتعرف عليه والده إذا ما قابله مصادفة، ودخل أماكن عدة منها أحد بنوك المدينة مما دفع حارسا إلى إبلاغ الشرطة التي قبضت عليه ووضعته في مستشفى للأمراض النفسية لبعض الوقت. ثم بدأت الحلقة الحديدية تتفكك تدريجيا. فتشجّع أشقاؤه على الاقتداء به والخروج للعالم. واستسلم الأب للوضع الجديد.

الخيال والإبداع

ولكن كيف كان الأولاد يقضون وقتهم داخل ذلك السجن الإجباري؟ هذا ما تحاول المخرجة من أول لقطات الفيلم استكشافه. في المشهد الأول نشاهد الأولاد الستة بشعورهم الطويلة يرتدون بذلات سوداء وربطات عنق على غرار أبطال الفيلم الشهير “كلاب المستودع” Reservoir Dogs للمخرج تارانتينو، ونراهم يؤدّون مشهدا من هذا الفيلم، بإجادة تامة، فهم يحفظون الحوار عن ظهر قلب بعد أن قام أحدهم بنقله حرفيا من الفيلم وتسجيله على الورق، ثم يؤدون مشاهد أخرى من فيلم “الخيال الرخيص” Pulp Fiction، و”الأب الروحي”، و”ذهب مع الريح”.
لقد خلقوا ببساطة عالما موازيا بديلا للعالم الخارجي، من داخل الخيال السينمائي، عالم يجدونه ساحرا.. إنه سحر السينما. وقد ورثوا عن أبيهم حب الموسيقى وأغرموا بالعزف، وكان والدهم يعزف ويكتب بعض المقطوعات ويبيعها أحيانا دون أن يرى في ذلك تعارضا مع رفضه الاستسلام للقيم الاستهلاكية، فقد كانت الموسيقى عشقه الأول ولم يكن يعتبرها مهنة.

الهرب إلى السينما

يقول الأولاد أن لديهم مكتبة من الأفلام تحتوي على أكثر من خمسة آلاف فيلم، وأنهم شاهدوا أكثر من عشرة آلاف فيلم، وكانوا يشاهدون الأفلام باستمرار، أحيانا خمسة أفلام في اليوم الواحد. والواضح أن الأب كان يسمح لهم باقتناء تلك الأفلام. ولكنهم كانون محرومين بالطبع من الأصدقاء، يكتفون بعلاقتهم الحميمية مع أمهم التي ظلت قريبة منهم، يرفضون والدهم ويعاقبونه بعدم التحدُّث إليه منذ أن بدأوا التمرد العام على قوانينه. وهم يبرعون في صنع الأقنعة المخيفة، يشعلون الشموع ويدورون حولها في مشهد شبيه بما شاهدناه في أفلام “الهالوين”، كما صنعوا الكثير من الرشاشات والمسدسات من الكرتون وعلب الصفيح.. وكذلك الملابس الغريبة التي يرتدونها وهم يؤدون مشاهد من الأفلام الخيالية.

ويروي أحدهم كيف أن والدهم كان قد حرّم عليهم دخول غرفتين في المنزل، بسبب التصاق جدرانهما بشقق الجيران لكي يتفادى إثارة الانتباه إلى ما يحدث داخل الشقة. وقد قبلت الأم (الأمريكية) هذا الوضع وتعايشت معه، وهي تواجه الكاميرا وتروي كيف كانت على قناعة في البداية، مثل زوجها، برفض العالم الاستهلاكي، وكان الاثنان يقضيان الوقت يتأملان في معنى الحياة وقيمة الإنسان ومغزى ما يفعله، وكانت هذه الفلسفة  تشدّها كثيرا.
ولكن بعد أن بدأ أولادها يكبرون، بدأت تشعر بسخف الموقف لكنها كانت أسيرة القواعد التي خضعت لها طويلا، لدرجة أنها قطعت علاقتها بأسرتها تماما. وفي مشهد من المشاهد المعبرّة في الفيلم تجري للمرة الأولى منذ عشرين عاما، اتصالا تليفونيا بوالدتها في ميتشجان، وتنهمر الدموع من عينيها وهي تبلغ أولادها بأن جدتهم ستحضر لزيارتهم للمرة الأولى.

أغار رجال الشرطة ذات يوم على شقتهم ظنّا أنهم يخفون بعض الأسلحة، لكنهم لم يعثروا سوى على مجموعة من المسدسات المصنوعة من الكارتون. ولكن “مايكل” الكبير يتذكر أنهم قيدّوا يدي أمهم، وأرغموهم على الوقوف مرفوعي الأيدي بمواجهة أحد الجدران.. وبعد أن فشلوا في العثور على شيء اعتذروا وغادروا!

مصداقية الفيلم

مايكل أيضا أكثرهم انشغالا بالإبداع، لقد خرج للعمل، وكذلك شقيقه التالي له الذي استقل واستأجر مكانا مستقلا، ثم انشغل مايكل بتحضير فيلم يستخدم فيه بالتمثيل الصامت (البانتوميم) والأقنعة والموسيقى، وهو يصور مشاهد من الفيلم هي التي سنشاهدها في نهاية فيلمنا هذا.
ولعل مما يضفي المصداقية على “شلة الذئاب” استخدام المخرجة الكثير من أفلام الفيديو المنزلية التي كانوا يصورونها للمناسبات المختلفة، ومزجها بالأحاديث واللقطات الحديثة التي صورتها داخل الشقة، أو في الخارج بعد أن اصطحبت الأولاد في أكثر من جولة، حول النهر وإلى إحدى دور السينما (للمرة الأولى) وفي أرجاء الطبيعة وسط الجبال المزهرة في منطقة ريفية.

وهم يظهرون في أفلام الفيديو القديمة وهم أطفال صغار مع والديهم، يلهون ويمرحون ويضعون المساحيق التي تصنع نوعا من الأقنعة على وجوههم. ولاشك أن فكرة الأقنعة أتت من ثقافة قبائل الإنكا في بيرو التي ينتمي إليها الأب. كما نشاهدهم في لقطات صوّرتها المخرجة وهم يقومون بالتمثيل والعزف على الآلات الموسيقية والرقص وتناول الطعام بشكل جماعي وهم يفترشون الأرض، ولكن لاشك أيضا أن الفيلم لم يستكمل الكثير خصوصا علاقة الأولاد بالسينما، وبأفلام العنف تحديدا، وكيف يمكن أن تكون قد أثرّت عليهم نفسيا.

ومن أكثر ما يشدّ المشاهد إلى الفيلم أنه رغم العزلة الطويلة، والعلاقة المتوترة مع الأب، إلا أن الأولاد جميعا (لا تظهر الإبنة سوى مرتين فقط على نحو عابر) يتحدثون بوعي ولباقة كبيرتين وقدرة مدهشة على التأمّل والفهم والتحليل، والفضل في ذلك يعود، دون شك، إلى دور الأم في تعليمهم واطلاعهم على الكثير من المعارف.
إن فيلم “شلة الذئاب” ليس عن “ذئاب” بل عن مجموعة من الأبناء سيئي الحظ، يعيشون في قلب إحدى أهم المدن في العالم، ولكنهم ظلّوا طويلا يتطلّعون إليها من  نافذة صغيرة في شقة بالطابق السادس عشر. وربما يكون الفيلم في حاجة لاستكمال البحث فيما ستمتد إليه لاحقا تلك “الحالة” الاجتماعية – الذهنية لدى هذه “الشلة”.


إعلان