“يلّا أندرجراوند” .. موسيقى التمرُّد

محمد موسى

اختار المخرج فريد إسلام لفيلمه التسجيلي “يلا أندرجراوند” (Yallah Underground)، مجموعة من الموسيقيين العرب المُهمّشين من دول: مصر، الأردن، لبنان وفلسطين، ليُمثلّوا مشهد موسيقى “الأندرجراوند” العربية من أعوام 2009 إلى 2013. هذا المشهد الذي وجد في “الربيع العربي”، الفرصة للخروج من العوالم الضيقة التي ولد ونشأ فيها، إلى الضوء والجمهور الواسع، حتى اقتربت الموسيقى الثورية المُحرضّة لهؤلاء الشباب لأن تكون في زمن الثورات العربية الأخيرة، الخلفية الموسيقية لحراك الشارع وغضبه. صَوّرَ المخرج الذي يعيش في جمهورية التشيك فيلمه على مدار خمس سنوات، وتنقّل بين عدة دول عربية وأوروبية، في محاولة جديدة للتعريف بهؤلاء الموسيقيين المجهولين، وتسليط الانتباه على تجاربهم، وهواجس الفن المختلف والحرية والوضع العربي العام التي تشغلهم.

يُمكن فهم الأسباب التي جعلت المخرج يوسِّع أُفق بحثه عن الموسيقى البديلة (إحدى أوصاف موسيقى الأندرجراوند) ليشمل بلدان عربية عدّة ولا يكتفي بالتركيز على دولة واحدة، إذ يتبين سريعاً أن الموسيقيين العرب الذين تحدّثوا للفيلم وإن اختلفت دولهم والخلفيات الاجتماعية الآتين منها، إلا أنهم يتشاركون في الظروف والانشغالات والهموم ذاتها. مع تمايز الشخصيات الفلسطينية، ذلك أن هؤلاء يواجهون، وبالإضافة إلى التحدّيات المعروفة للمجتمعات الشرقية، الاحتلال الإسرائيلي، وما يُشكِّله هذا الأخير من حاجز دائم ضد الحياة السوية والإبداع. كما يُمكن الاستدلال سريعاً في الفيلم على مشتركات اللغة الفنيّة والهموم العامة بين الموسيقيين العرب المهمشين والمتمردِّين، وكيف أن هذه المشتركات قرّبتهم من بعضهم فكريا وفنيّا، فالفيلم يرافق مطربات مصريات شابات في تعاونهم المشترك مع مطربين ومطربات من لبنان.

يُرَكِب المخرج فيلمه على نحو تبدو فيه شهادات الشخصيات فيه وكأنها شهادة واحدة طويلة تلخص علاقة الفن المختلف بالواقع العربي، فالمطرب الأردني الشاب الذي يغني “الهب هوب” في أوساط ضيقة في الأردن، يواجه الصور النمطية ذاتها لزميله المطرب المصري الذي ظهر في الفيلم، وبالخصوص الإتهامات بنشر ثقافات غربية مسيئة، والتي أبقت هؤلاء الفنانين في الهامش تماماً في الحركة الفنيّة الرسمية في تلك البلدان، رغم إشتراك المطرب الأردني قبل أعوام قليلة في أحد برامج إكتشاف المواهب التلفزيونية الشعبية، والتي لم تقد الى تغييرات مُهمة على صعيد دفع إسمه الى الواجهات الإعلامية في بلده.

لا يعود الفيلم إلى بدايات انطلاق الحركات الموسيقية البديلة، فطموحاته وسعة المشهد الذي حاول رصده، جعله يركز على الحاضر وتحدياته، وإن كان أحد الموسيقيين المصريين قدم شهادة مهمة مكثفة عما مرَّ به شخصيا، فهو تنقّل بين عدة أنواع موسيقية في الثمانينات من القرن الماضي، وكاد أن يترك الموسيقى كلها بعد أن ضيقّت السلطات والجهل الاجتماعي العام بموسيقى الروك التي كان يغني بها، قبل أن تلهمه الثورة المصرية للعودة مجدداً إلى الموسيقى والانضمام إلى مجموعة كبيرة من الفرق الموسيقية المصرية، التي وجدت في التغيير السياسي، والفضاء الذي يوفره الإنترنت، الفرصة للنمو والوصول إلى جمهور متنوِّع.

يتغير مناخ الفيلم وأسلوبه عندما يصل إلى المطرب اللبناني زيد حمدان، فينتقل من المقابلات المباشرة التي طبعت أغلب دقائقه إلى ما يشبه فيلم طريق، وهو يرافق المطرب اللبناني في جولته الأوروبية قبل عامين. وكان حمدان قد تحول إلى رمز لموسيقى الأندرجراوند العربية، عندما أُلقيّ القبض عليه في عام 2011 بسبب مضمون إحدى أغنياته والتي تم تفسيرها بأنها نقد لرئيس الحكومة في بلده.

اختلفت مشاهد حمدان عن باقي مشاهد الفيلم الأخرى، فكانت أكثر تحرُّرا، واقتربت من الأفلام الروائية والتسجيلية التي صوّرت أو رافقت فرق موسيقية، حيث استلهمت موسيقى الفنانين الذين تقدمهم في بحثها عن مشاهد مبتكرة تتفاعل مع تلك الموسيقى.

وبسبب سعة المشهد الذي حاول المخرج اختزاله في فيلمه، تراه مرَّ سريعاً على شخصيات مثيرة، تستحق وحدها أفلاما كاملة، كالمطربين والفنانين التشكيلين من فلسطين، وخاصة الذين يعملون في فلسطين 48، ذلك أن التحدّيات هناك تختلف عن مناطق أخرى من فلسطين، فهم وحسب أحد مطربي “الهيب هوب”، حافظوا على الهوية الفنية العربية في ظروف صعبة. كما حضر الجدار العازل في الفيلم التسجيلي، والذي يمثل لمطرب الضفة الغربية الذي ظهر في الفيلم حاجزاً بوجه الأحلام، حيث كانت إحدى أمانيه الذهاب الى البحر خلف الحاجز. كما كان يُمكن للفيلم أن يتوسّع في عرض التحديات الخاصة للفنانات اللواتي ظهرن في الفيلم، والتي كشف بعضها الصعوبات المُركبّة التي يصطدمن بها كل يوم، في مجتمعات تحاكم النساء بشكل عام والفنانات على وجه التحديد.

ورغم قيمة شهادات الموسيقيين في الفيلم الذي منح منصة مهمة لهم لسرد تجاربهم، إلا أن ما غاب عن هذا الأخير هو بحثه في أثر الموسيقى التي تصنعها شخصياته في الجمهور العادي. لا ريب أن المخرج وجد نفسه أمام مادة غنية تجمعت بعد سنوات من المتابعة، وهو الأمر الذي أجبره على خيارات صعبة أحياناً، لم تكن جميعها لمصلحة هذا المشروع الفنيّ الاجتماعي المهم. كما لم تحضر الموسيقى بالقدر الكافي في الفيلم، والتي كان يُمكن لحضورها أن يُحدد مسارات الفيلم ويفتحه على تجريب شكليّ، وكما حصل في الجزء الذي ركز على تجربة المطرب اللبناني زيد حمدان.


إعلان