أغنيات الشيشان الحزينة
قيس قاسم

يقارب الفيلمان، السويسري الإنتاج “أحزان جروزني” Blues Grozny والدنماركي “بيت في العالم” الموضوع الشيشاني من زاويتين؛ محلية وخارجية. فالأول يسعى لرصد تفاصيل الحياة اليومية في البلاد بعيون أربعة نساء يقاومن سلمياً السلطة السياسية المواليّة لحكومة بوتين، فيما الثاني يلاحق مآلات الحرب التي اندلعت هناك قبل أكثر من عشرين عاماً ودفعت الآلاف إلى الهجرة والبحث عن أماكن أكثر أمناً.
يلازم المخرج الإيطالي الأصل “نيكولا بيلوتشي” مجموعة استثنائية من النساء الشيشانيات، اللواتي قمن بتسجيل مشاهد حية من الحرب التي اندلعت في تسعينيات القرن الماضي بكاميراتهن الفيديو الشخصية ومواظبتهن فيما بعد على التحرُّك وتوثيق عمليات تعذيب وملاحقة المعارضين لحكم الرئيس الموالي لبوتين “رمضان قديروف” بأشكال مختلفة، حاول الانطلاق منها والتأسيس عليها لعرض “لقطة مقربّة” عن الشيشان اليوم.
وصفهن للطريقة التي صوّرن فيها وأخفين الكاميرات عن أنظار رجال السلطة تحيلنا للتفكير بالوعي المتزايد وفي كل مكان بأهمية وقوة الصورة كوسيلة تعبيرية قادرة على كشف الحقائق وإدانة الجناة، وبوجود نساء يتحلَّين بشجاعة نادرة، وهذا ما اشتغل عليه الوثائقي في الربع ساعة الأولى منه حين راجع سوية مع النساء صور القتل والدمار التي سبّبتها الطائرات الروسية المغيرة دون رحمة فوق رؤوس العباد لحظة تجرأ الشيشان ورئيسهم المنتخب جوهر دوداييف على إعلان استقلال دولتهم، وما ألحق بالمعارضين للوجود الروسي من عسف على أيدي الموالين لموسكو، كما يظهر في أشرطة الفيديو الشديدة القساوة، والتي تغطي مراحل زمنية طويلة.
فالتسجيلات المصورة في النهاية تظلّ شخصية، أخذتها النساء في ظروف معقدّة وحسب ما توفّر لهن من إمكانات، لكن في مجموعها النهائي يمكنها أن تقدم لنا تصوراً دقيقاً عن حقيقة ما جرى خلال ثلاثة عقود تقريباً.
ميزة “جروزني بلوز” أنه لا يُضيّع وقته في سرد تفاصيل التطورات السياسية، بل يكتفى بتسريبها من خلال أحاديث النساء والناس الذين اكتوّا بنار الحرب وبقمع الدولة “الوطنية”، لأنه أراد أن يكون شخصياً، أبطاله يتحدّثون عن تجاربهم الخاصة بلغتهم وبالصور التي في حوزتهم، لهذا أبقى على روح السخرية والدعابة التي ميزّت النساء الشيشانيات، وحافظن عليها في أصعب الظروف ومع كل الإحساس العميق الذي يلفّ أرواحهن بالمرارة لفقدان أعزاء على قلوبهن، وربما من هنا جاء اسمه “جروزني بلوز” ليعبر عن الحزن الكامن في أغنيات “البلوز”؛ كلون موسيقي، أصوله أفريقية، نشأ في ولاية المسيسيبي الأمريكية وطورّه الزنوج لاحقاً للتعبير عن رفضهم التمييز العرقي وتوقهم للانعتاق منه، ومن جهة أخرى لعلاقته بالمكان الذي تجري فيه بعض أحداث الشريط، حيث يقع مقرّ الجمعية النسائية ويجاورها نادي موسيقي كان يقدم هذا النوع من الفن، لم يتركه “بيللوتشي” دون أن يشرك صاحبه في فيلمه الذي أخذت الموسيقى حيزاً كبيراً منه لا لكونها وسيلة فنية لها حلاوتها الخاصة في الموروث الثقافي الشيشاني فحسب، بل لشدّة صلتها بالتحولات الاجتماعية الجارية في جمهورية الشيشان وموقف السلطة من الموسيقى والرقص وبقية الفنون.
تنشط الجمعية النسوية في مجال التوعية بحقوق الإنسان ودعم الديمقراطية فتنظم لنشرها محاضرات وتعدّ دروساً لطلاب متطوعين من الجيل الجديد، ملازمة الوثائقي لحركة النساء داخل الجمعية وخارجها وفّر لصانعه فرصة نادرة لتقديم صورة عن المدينة وتحولاتها.
فعلى جانب منها نرى آثار الدمار الذي سبّبته الحرب ما زال شاخصاً؛ بيوت مهدمة وعمارات سُويّت بالأرض وفي جانب ثانٍ هناك “ناطحات سحاب” ناشزة وسط مناخ رمادي كئيب، وكأنها بُنيت كعربون ولاء دفعته موسكو للمتعاونين معها.

انقسام المدينة يُعبِّر عن شرخ اجتماعي واقتصادي متسِّع في الشيشان، فبينما يحصل الموالون للرئيس قديروف، المرفوعة صورته إلى جانب بوتين على طول شوارع المدينة وفوق واجهات بناياتها الحديثة، على فرص عمل جيدة ومراكز مهمة مقابل تصفيقهم المستمر له ولنظامه شديد القسوة، يجني معارضيه في المقابل مزيداً من العسف والقمع، وهو يسعى أيضاً وبمنهجية لإحداث هوة بين الموروث الشيشاني المتسامح والمنفتح وبين تشدّد ديني شكلي، لرصده استعان الوثائقي بكم كبير من الأرشيف التلفزيوني وبخاصة ذاك المتعلق بالجانب الفولكلوري منه، حيث يظهر اعتزار الشيشان برقصاتهم الشعبية وأغنانيهم الوطنية إلى جانب انفتاحهم على الفنون الأجنبية وعلى العالم الخارجي دون خوف.
فيما تحاول السلطة التابعة مركزة الصراع اليوم حول شكلانيات يراد بها إلهاء الناس عن حقيقة ما يجري في بلادهم وجرّهم إلى عزلة تستطيع موسكو التدخل عبرها بكل سهولة متى ما أرادت بحجج من بينها؛ “الإرهاب” والخوف من انتشار الفكر والحركات الدينية المتشددة، فيما تكشف طريقة تفكير النساء، المشتركات في بناء معمار الوثائقي الرائع التصوير وسلوكهن العملي عن مستوى حضاري والتزام أخلاقي متسِّق مع قيم مجتمعن الاسلامي دون ادعاء وبعفوية لافتة.
على المستوى الشخصي يعرض الوثائقي مراراتهن من خلال تجاربهن الحياتية والتي تعكس إلى حد كبير واقع المرأة وسط بلد متنازع الاتجاهات ومجتمع متناقض القيّم والانتماءات. حياة كل واحدة منهن، والتي تبلورت عبر مرافقة صبورة، تصلح أن تكون فيلماً تراجيدياً ولهذا حرص “بيللوتشي” على ترك مساحة جيدة لكل حكاية من حكايتهن التي لا تُملّ والمليئة بالعبر والخسارات ومع كل هذا بقيت الشيشانيات متماسكات يقاومن العسف بالعمل السلمي ويجتمعن فيما بينهن على قواسم وحدة الموقف المشترك، وبفضل شجاعتهن وتسجيلاتهن الطامحة للحفاظ على الذاكرة البصرية لشعب يتعرض لانتهاك مزدوج داخلي وخارجي، تمكنّا من رؤية جمهورية الشيشان من الداخل والتعرُّف على حقيقة ما يجري فيها، ولماذا يتركها كثر من سكانها إلى جهات الأرض يواجهون ذل الغربة وقساوة الهجرة كما رصد جانباً منها الدنماركي “أندرياس كوفويد” في وثائقية الرائع At Home in the world عندما لاحق فيه مجموعة من أطفال اللاجئين، بينهم شيشانيين، جاؤوا مع عوائلهم إلى الدنمارك أملاً في الأمان والتخلُّص من عسف الدولة.
“بيت في العالم”
مثل أغنية حزينة يدخل الشريط الدنماركي “بيت في العالم” إلى القلب لعناصر جد مؤثرة فيه من بينها؛ وجود الأطفال وعفوية تحركاتهم أمام الكاميرا وكأنها غير موجودة، إلى جانب حيوية موضوعه المرتبط بظاهرة الهجرة القادمة إلى أوروبا والتي تطرح معها أسئلة حول الدوافع التي تجبر هؤلاء البشر لخوض المجازفة والقبول بترك مصائرهم بيد غيرهم؟
يبحث “بيت في هذا العالم” في فكرة البحث عن مأوى آمن، بيت في هذا العالم يجمع العائلة ويتيح للأطفال عيش طفولتهم فيه بسلام، عبر ملاحقته لمجموعة طلاب أجانب دخلوا مدرسة تابعة للصليب الأحمر الدنماركي أوكلت إليها مهمة إعدادهم خلال عام؛ دراسياً ونفسياً ليتمكنوا من متابعة تعليمهم، في حالة حصول أهلهم على حق الإقامة، في المدارس الرسمية والتأقلم مع المجتمع الجديد. على المستوى الفني لا يتجاوز الشريط أن يكون تسجيلاً عادياً لما يجري داخل المدرسة، وباستثناء تركيزه على حالة الطفل الشيشاني يكاد يكون عملاً تلفزيونياً لكن اشتغاله الدقيق على الجوانب النفسية ورصد العلاقات الداخلية بين المدرسين وطلابهم وبين عوائلهم من جهة أخرى ينقله إلى مصافّ الأفلام الممتازة القادرة وببساطة شديدة على الغوص في تعقيدات الحالات المطروحة للبحث بمنظار سينمائي صرف يعرف حدوده جيداً.
ترك صاحبه الكاميرا تصور الأطفال في كل مكان؛ داخل الصفوف وخارجها، في الملاعب وأثناء أوقات الفراغ وفي بيوتهم. نقلت لنا عدساتها تصرفاتهم وتباين سلوكياتهم وفق حالاتهم النفسية وركزت خاصة على الطفل “ماغومد” الشيشاني الصامت، الهاديء المنعزل رغم تفوقه الدراسي وقدرته على الانتقال إلى مدرسة رسمية تابعة للبلدية.
كان العائق الوحيد للمضي في هذه الخطوة عدم حصول والده على حق اللجوء لأن دائرة الهجرة لم تصدق قصته وما تعرّض له من تعذيب على يد أجهزة مخابرات بلاده، ومن احتمال تعريض حياته للخطر إذا ما عاد إليها ثانية بوصفه معارضاً لها.

لم يتوقف الشريط عنده بالكامل بل انتقل إلى أطفال آخرين من بيئات مختلفة صوّرهم بهدوء وبقلة انفعال نقل حالاتهم النفسية ومقدار تأثرّهم بما يجري حولهم بطريقة لا شعورية، بحيث لا يجد المرء إزاءها سوى التعاطف معهم كما يفعل أساتذتهم الرائعين والمتفهمِّين لأوضاعهم بحكم تجربتهم كمتطوعين في منظمة إنسانية.
حركة الأطفال وكلامهم الصريح يضفيان على مشاهد الفيلم حلاوة ويعطيانه أبعاداً درامية تجعل من نصّه البسيط أكثر عمقاً، فيما مصائرهم داخل المدرسة تُقرِّرها جهات رسمية لا يعرفون عنها شيئاً وهذا ما كان يؤرق الطفل الشيشاني وأخته الصغيرة الملتحقة معه في نفس المدرسة. كلما غادر أحدهم المكان كان يزداد “ماغومد” عزلة وحزناً. نظراته المترقبة وابتسامته المكتومة تدعوان إلى التعاطف معه والأسى على حاله وعلى جميع من يشبهه.
كيف جرّنا إلى هذا المستوى من التعاطف مع أطفال غير عزلتهم وسط الثلوج، يبدون كما لو أنهم يعيشون حياة سوية؟ ما الذي أوصلنا إلى درجة التماهي مع دواخلهم؟ أسئلة لا يستطيع الإجابة عليها سوى “ساحر سينمائي” صنع من مدرسة صغيرة تشبه البيت عالماً كاملاً اجتمعت داخله وتفاعلت حيوات وتحدّدت عبره مصائر أطفال أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم أولاد بشر قدموا من مكان بعيد، طمعاً في حياة آمنة، لكن الأمر أعقد من ذلك بكثير ولا ينتهي بخطوات إدارية، فحالة الطفل الشيشاني ظلت معلقة حتى بعد إعلان دائرة الهجرة موافقتها على منحه حق اللجوء مع أخته وأمه دون والده!
لن تسكت أسئلته، رغم قبوله الذهاب إلى مدرسة رسمية جديدة، ما دام يشعر بعجز والده وحرمانه من العيش على أرض أراد أن يكون له فيها بيت صغير يأويهم جميعاً!