“أين غزوتنا القادمة؟”.. لماذا فشلت أمريكا ونجح الآخرون؟
يعود المخرج الأمريكي الشهير “مايكل مور” إلى جمهوره في العالم بفيلم “أين غزوتنا القادمة؟” (Where to Invade Next) الذي عُرض بمهرجان برلين السينمائي (2015)، بعد ست سنوات من التوقف عن العمل، أي منذ فيلمه “الرأسمالية.. قصة حب” (2009).
أخرج مايكل مور فيلمه الشهير “دحرجة الكرات في كولومباين” (2002) الذي تناول فيه بأسلوب مبتكر ثقافة العنف في الولايات المتحدة، وكان أول فيلم وثائقي طويل يحصل على السعفة الذهبية في تاريخ مهرجان كان السينمائي.
وعاد مور ليخرج “فهرنهايت.. 11/9” (2004) الذي يوجِّه انتقادات لاذعة لسياسة الرئيس بوش الابن فيما يتعلق بـ”الحرب على الإرهاب”، ويكشف تواطؤ شبكات الإعلام مع إدارة بوش للتضخيم من القدرات العسكرية لنظام صدام حسين في العراق وادعاء امتلاكه أسلحة نووية لتبرير غزو العراق في 2003.
وقد حقق هذا الفيلم أكبر نجاح جماهيري وتجاري حققه فيلم وثائقي في تاريخ السينما حتى وقتنا هذا.
وفي 2007 قدّم مور فيلم “سيكو” الذي يقارن فيه بين نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة الذي تديره احتكارات تهدف لتحقيق الربح، وبين مثيله في كندا وفرنسا وبريطانيا بل وكوبا التي تتيح العلاج بالمجان على أرقى مستوى –حسبما يقول مور في فيلمه– حتى للأجانب.
أما “الرأسمالية.. قصة حب” (2009) ففضح فيه مور دور الاحتكارات المالية في “وال ستريت” وتلاعبها وجشعها الذي أدّى إلى وقوع الانهيار الاقتصادي في 2008 وتسبب بالكساد الذي وقع وما زالت آثاره ملموسة في العالم حتى وقتنا هذا.
مايكل مور مزيج من السينمائي صاحب الأسلوب المميز، والناشط السياسي المعارض الذي يُنقِّب عن السلبيات؛ يكشفها ويقوم ببسطها أمام المشاهدين في أسلوب يجمع بين الفكاهة والمعلومات، بين التحقيق وصحافة الاستقصاء، مما يُعرِّضه في كثير من الأحيان إلى المضايقات والإبعاد بالقوة، كما تتميز أفلامه بالسخرية المحببة من خلال تعليقاته وطريقته الخاصة في إجراء المقابلات أمام الكاميرا.

وهو يظهر بنفسه في كل أفلامه، يلتقي الناس العاديين في الشوارع، ويجلس مع المسؤولين الذين يقبلون التحاور معه، ويعرض البيانات والصور والرسوم التوضيحية، ويستعين بالصور الكاريكاتورية الساخرة، كما يبدو ميّالا إلى المبالغة من أجل تقريب الموضوع للجمهور.
غزوات جديدة.. متوالية حروب لا تحصد سوى الهزائم
يبدأ مور فيلمه الجديد بلقطة ثابتة لاجتماع يضم كبار قيادات الجيش الأمريكي في البرّ والبحر والجو، وهو ما يوحي بأننا قد نشاهد فيلما عن دور القوات الأمريكية في الخارج، خاصة أن التعليق الصوتي بصوت مور نفسه يشرح لنا كيف أن الولايات المتحدة ظلّت تخوض حربا وراء أخرى منذ الحرب في كوريا، ثم في فيتنام ولبنان والعراق وأفغانستان وسوريا واليمن، ولكن دون أن تحصد سوى الهزائم، وهو ما دعا كبار قيادات الجيش الأمريكي لدعوة مور كي يستمعوا إلى نصيحته بشأن ما يتعين عليهم القيام به.

يقول مور إنه قرر أن يقوم بنفسه بغزوات عدة لكي يكتشف لماذا فشلت أمريكا فيما نجح فيه غيرها من البلدان، وما هي أسباب تراجع دور الولايات المتحدة في العالم؟ ألم يكن من الأفضل استثمار الأموال الباهظة التي أُنفقت على الحروب الخارجية الفاشلة في أشياء أخرى نافعة للإنسان الأمريكي وأفضل للعالم كله؟
هذا هو مدخل الفيلم إلى موضوعه الذي يبحث في جوانب متعددة مثل التعليم والصحة والعمل والبنوك والسجون، ومشكلة المخدرات والعنف ومعاملة الشرطة للمشتبه بهم، ودور المرأة في المجتمع.. وغير ذلك.
ويستند مور إلى فكرة مشابهة كثيرا لفكرة وبناء فيلمه “سيكو” (Sicko) الذي كان يناقش قسوة النظام الصحي الأمريكي المكرّس لخدمة الأثرياء على حساب الفقراء، لكنه يبدو هنا أكثر طموحا لسبر أغوار مواضيع وقضايا متعددة.

ورغم أسلوبه “التعليمي” المباشر وفقدانه التركيز، أي غياب وحدة الموضوع على العكس من أفلامه السابقة، فإن الفيلم يتمتع بالجاذبية والقدرة على الإمتاع بسبب سلاسة السرد، وجاذبية الطريقة التي يعرض بها مور موضوعه.
غزوة إيطاليا.. حقوق للعمال تفتقدها أمريكا وغينيا
ففي غزوته الأولى يذهب مور إلى إيطاليا حيث يُصوِّر من خلال حواراته مع رجل وزوجته من العاملين بإحدى الشركات؛ كيف يستمتع العاملون بالحياة خارج أوقات العمل، وكيف يحصل العمال في إيطاليا على 30 إلى 35 يوم عطلة سنوية مدفوعة الأجر، ويحصل من يتزوج على عطلة “شهر عسل” مدفوعة تبلغ 15 يوما، كما تصل عطلة الحمل المدفوعة للمرأة إلى خمسة أشهر، وهو ما يجده مور -بالمقارنة مع أمريكا- أمرا يشبه الأحلام. ويعلق بأن أمريكا ربما تكون الدولة الوحيدة التي لا يتمتّع العاملون فيها بمزايا من هذا النوع على الإطلاق، لا يوازيها في هذا سوى غينيا الجديدة.

كما يُجري مور مقابلة مع أصحاب الشركة الذين يؤكدون مساندتهم للنقابات، وأن من الأفضل لهم التعامل مع ممثلين للعمال للتوصل دائما إلى صيغ مشتركة ترضي الطرفين، ويؤكدون أنه رغم ما يحصل عليه العمال من مزايا تكلفهم الكثير من الأموال، فإن الشركة بفضل هذه السياسة تُحقِّق هامشا جيدا من الأرباح.
غزوة فرنسا وفنلندا وسولوفينيا.. طعام وتعليم يحلم بهما الطفل الأمريكي
ينتقل مور إلى فرنسا ليقضي بعض الوقت مع عدد من التلاميذ في مدرسة عامة ابتدائية فرنسية في إحدى القرى البعيدة عن العاصمة تضم أطفالا من أصول عرقية مختلفة، فيقارن مور بين ما يتناولونه من طعام وما يتناوله أقرانهم في أمريكا، ويتوقف طويلا أمام قائمة الطعام الذي يُعدّه واحد من أمهر الطباخين الفرنسيين بأنواع شهية من الأطعمة، مقارنة بالأطعمة التي يتناولها الأطفال الأمريكيون.

ويناقش مور الطباخ ويعرض عليه ما يتناوله أطفال المدارس الأمريكية، فيقول له الرجل إن هذا ليس طعاما. وعندما يعرض صورة لنوع الأطعمة التي يتناولها تلاميذ المدارس في أمريكا على الأطفال الفرنسيين، يبدون تقززهم منها. وعندما يعرض عليهم واحدا بعد واحد علبة من علب الكوكاكولا، يرفضون بتأفف قائلين إنهم لا يشربون مع الطعام سوى الماء فقط.
وفي فنلندا يتوقف مور أمام نظام التعليم الذي ألغى أو قلص إلى حد التهميش ما يعرف بـ”الواجبات المنزلية”، متيحا وقتا أطول أمام الطلاب لممارسة ما يحبونه في الحياة؛ هواياتهم وألعابهم وقراءاتهم الحرة. ويكتشف أنه لا توجد في فنلندا مدارس خاصة، وأن الأثرياء يحرصون على الإبقاء على المستوى المرتفع للمدارس العامة عن طريق دعمها ماليا.

وفي سلوفينيا يلتقي مور بطالبة أمريكية تدرس في الجامعة تخبره أنها جاءت إلى هذا البلد لأن التعليم الجامعي فيها متقدم جدا ومُتاح بالمجان حتى للأجانب.
غزوة ألمانيا والنرويج والبرتغال.. اعتراف بالماضي وسجون حضارية
وفي الغزوة التالية يتوجه إلى ألمانيا حيث يتوقف أمام العمال في مصنع لأقلام الرصاص وما يحصلون عليه من منافع؛ منها راتب شهر يسمونه الشهر الثالث عشر، كما يمكن إرسالهم على نفقة المصنع إلى منتجعات للاسترخاء عند شعورهم بضغوط العمل، فالمهم ضمان الراحة الجسدية والنفسية للعمال حتى يتمكنوا من مواصلة الإنتاج.

في ألمانيا ينحرف مور عن مسار فيلمه، ويتجه إلى موضوع “الهولوكوست” أو ما وقع لليهود على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، فيعرض لقطات تسجيلية من الأرشيف لهتلر والدعاية النازية ومعاملة اليهود ومعسكرات الاعتقال بعد الحرب، ويكرر اللقطات الشهيرة التي سبق أن شاهدناها في عشرات الأفلام عن الموضوع لأكوام كبيرة من الشعر والأحذية والحقائب التي يفترض أنها لليهود الذين هلكوا في المعسكرات.
ويقول لنا مور إن الألمان لا يخجلون من الاعتراف بماضيهم، بل وتدريسه على الطلاب في المدارس كما نشاهد في الفيلم، على العكس من الأمريكيين الذين يتجاهلون تاريخهم في التفرقة العنصرية، وإساءة معاملة الأفارقة الأمريكيين. ويعرض هنا لقطات أرشيفية بالأبيض والأسود لرجال الشرطة الأمريكيين وهم يعتدون بالضرب المبرح بقسوة شديدة على المشتبه بهم والمقبوض عليهم والسجناء داخل السجون، ومعظمهم من السود.
وفي البرتغال يكتشف مور أن السلطات ألغت تجريم تعاطي المخدرات باعتباره شأنا خاصا، وهو ما قلّل كثيرا من العنف والجريمة والتكاليف الباهظة التي تنفقها الدولة في الحرب على المخدرات التي يرى أنها فشلت في كبح جماح العصابات الدولية، كما أدّت إلى وقوع الكثير من الضحايا على الجانبين من الشرطة والمتعاطين والموزّعين.

والأكثر أن البرتغال لا تمارس ما يُمارس في أمريكا مما يطلق عليه “عبودية القرن الحادي والعشرين”؛ أي استخدام سجناء جرائم المخدرات في العمل الإجباري.
وفي النرويج تبرز أكثر فكرة التعامل مع الخارجين على القانون، حيث يودع المحكوم عليهم في سجون شبه مفتوحة، تتيح لهم القدرة على ممارسة الرياضة والمشي والاشتراك معا في طهي الطعام وتعلُّم أشياء جديدة، وهم أحرار في التحرُّك في نطاق المنطقة التي يوجد بها هذا السجن الذي هو أقرب إلى منزل مريح يحتوي على كل وسائل الحضارة الحديثة، ولكن دون أن يغادروا المنطقة.
غزوة تونس وأيسلندا.. حرية المرأة والتعامل مع الأزمة الاقتصادية
يخرج مور عن السياق الأوروبي مرة واحدة عندما يُقرِّر الذهاب إلى تونس، حيث يسلط الأضواء على مجتمع ما بعد ثورة الياسمين، ولكن بنوع من التفاؤل المبالغ فيه، وبتركيز خاص على بروز دور المرأة في المجتمع وقدرتها على مناهضة أي قيود يمكن أن تفرضها حكومة حزب النهضة الإسلامي، بل ويجري حوارا مع راشد الغنوشي الذي يؤكد احترامه للحريات الشخصية بما فيها حرية المرأة في ارتداء ما تشاء دون وصاية.

وفي أيسلندا التي يبلغ عدد سكانها 320 ألف نسمة، يمد هذه الفكرة على استقامتها فيركز على قوة المرأة وبروز دورها القيادي في كل مناحي الحياة، حيث يلتقي رئيسة البلاد، وثلاثا من النساء اللواتي تقلّدن مناصب رفيعة، ويتوقف أمام دور المرأة في البنوك وحركة التجارة وإدارة الشركات وكيف أنها أكثر نجاحا من الرجل، ويعلق مور بقوله إن المرأة ستكون أفضل بالتأكيد في إدارة شؤون العالم، فالرجال أكثر ميلا للعنف بحكم تسلُّط هرمون الذكورة عليهم.
ويتناول مور أيضا نجاح أيسلندا في التغلب على الكارثة الاقتصادية التي أدت إلى إفلاس الدولة في 2008، ويناقش القاضي الذي قدم أكثر من 20 إمبراطورا من أباطرة البنوك الثلاثة التي تسببت بتلاعباتها في وقوع الكارثة للقضاء، ثم الحكم عليهم بالسجن.
يوتوبيا.. غزوات بهدف التعلم من تجارب الآخرين
خلاصة رسالة مور في فيلمه أن أمريكا يجب أن تتعلم من تجارب الآخرين الناجحة، بل وأن تستعيد تقاليدها القديمة وما سبق أن أنجزته وابتكرته ونقلته إلى الشعوب الأخرى، ثم نسيته هناك ولجأت إلى كل ما من شأنه أن يضرّ الناس ويفيد فقط طبقة معينة شرهة للمال والسيطرة ولو من خلال شنّ الحروب.

يبدو الفيلم وكأنه يعرض نوعا من “اليوتوبيا” أو المدينة الفاضلة التي تخلو من المشاكل، كما يميل إلى التبسيط الشديد، وإلى النظرة الأحادية.
فمور لا يسمح للأطراف الأخرى بالحديث ومناقشة الآراء الأخرى الإيجابية، وكان هذا واضحا تماما –على سبيل المثال- في الجزء الخاص بتونس التي عادت لتشهد موجة جديدة من الغضب الجماهيري بسبب فشل السلطة الجديدة التي جاءت بعد الثورة في تحقيق آمال الشعب.
يريد مور أن يجعل الرسالة واضحة مُبسطة أمام الجمهور الأمريكي، وهي أنه يتعين عليهم تغيير نمط حياتهم والتعلُّم من الآخرين. وسلاحه في تقريب مفهومه السخرية وإشاعة روح المرح والفكاهة، وأن يوجد بنفسه داخل معظم مشاهد الفيلم بقبعة البيسبول الشهيرة فوق رأسه، وشعره المنسدل من تحتها، وجسده الذي ترهّل كثيرا لدرجة أنه أصبح يجد صعوبة في السير، رافعا في يده العلم الأمريكي كأنه في بعثة غزو للبلدان التي يزورها.
وبوجه عام، ورغم التبسيط لدرجة الانحياز وغياب الموضوعية، يظل الفيلم عملا مثيرا للتفكير والبحث والمتعة.