“لانتوري” .. العصابة الإيرانية
محمد موسى

عُرِض فيلم “لانتوري” (Lantouri) للمخرج الإيراني “رضا درميشيان” في برنامج بانوراما في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي، وهو البرنامج الذي يَجمع تحت مظلّته، أفلاما روائية فنيّة من التي تبحث عن تخوم جديدة، تؤكِّد الهويات المبدعة الخاصة لصانعيها. وأفلام أخرى تسجيلية، تكون موضوعاتها على تماسّ بالغالب مع أحداث العالم الراهنة. يَصِل الفيلم الإيراني الجدليّ بين الاتجاهين الخاصّين للبرنامج السينمائي الألماني، ذلك أنه يعثر على طريق سينمائي مُتخيّل متميز بين الفئات السينمائية التي يجمع بينها، وعلى الناحية الأخرى، يرتبط الفيلم بالراهن الإيراني، ويُعيد تقليب تفاصيله من موقع الالتزام والنقد، ويخرج بخلاصة مُلتبسة عن التسامح في زمن التشويه والعنف.
اختار المخرج الشاب الذي كتب سيناريو الفيلم أيضاً، مُقاربة للأفلام التسجيلية في النصف الأول من الفيلم، والتي ستتضاءل تدريجياً في نصفه الآخر، في انتقاله أسلوبية حادة، لم تكن بداية الفيلم تُنذر بها. فالنصف الأول من الفيلم اقترب من الأعمال الفنيّة التي تعيد أفلمة وقائع حقيقية، إذ تظهر شخصيات الفيلم وهو تتحدث أحياناً مباشرة إلى الكاميرا. كما بدت الشخصيات وهي تدافع عن مواقفها، وكأنها تدفع المشاهد للانضمام إلى النقاش في القضايا الجدليّة التي تتناولها. هذا سيكون واحدا من شراك الفيلم العديدة، وبحثه الإشكاليّ عن تعريفات جديدة للمجرم والضحية، وتحديد الدور الكبير للنظام العام في الفوضى التي تهزّ أركان المجتمع وبُناه الأخلاقية.
بأسلوبية مونتاج اللقطة الفوتوغرافية الواحدة وبإيقاع الصحافة العاجل، يُعرِّف الفيلم بشخصياته العديدة، سواء من أفراد العصابة التي يُقدِّم قصتها، أو الشخصيات الأخرى التي تكمل الخلفية الدرامية والاجتماعية لأفرادها. تناقش الشخصيات تاريخ ودوافع عصابة من أربعة إيرانيين. لم يكن أعضاء العصابة التي عرفت بـ “لانتوري” بالمجرمين العاديين، فالفيلم كان يريد عبرهم أن يحاسب النظام المهيمن بأكمله. من بين أعضاء العصابة، فتاة من عائلة غنية، وجدت نفسها وحيدة بعد هجرة عائلتها، وشابّان مثقفان يعيشان الاغتراب عن واقعهما. حتى الشاب الوحيد من العصابة، والآتي من خلفية إجرامية عنيفة، تمثل سيرة حياتة صورة لانهيار قيم عامة ما.

يُحاكي النصف الأول من الفيلم الأعمال التسجيلية التي تقارب قضايا إشكالية، فيقدم قصص أفراد العصابة مُرفقة بشهادات خبراء نفسانيين وشخصيات أخرى أُريد لها أن تمثل أطياف المجتمع الإيراني المعاصر. يحتوي هذا النصف على الكثير من التفاصيل، التي كان من الصعب تتبعّها جميعا، فالفيلم يتنقل بسرعة بين شهادات شخصياته المتخيلة، ومشاهد تَشَّكل العصابة، ومن ثم مشاهد لها وهي تسرق وتنهب. ضمن التركيبة المعقدة لهذه المشاهد، يفصح الفيلم عن إشارات بليغة تخصّ الحال الإيراني، جاءت جزءاً من البنية المتخيلة للفيلم، فالمرأة في العصابة، هي ضحية مثلاً لقمع سياسي تعرض له أهلها، دفعهم لمغادرة البلد، ليتركوها وحيدة لأقدارها، وهذا أمر لم يتم الإفصاح عنه بالكامل، بل اكتفت إحدى الشخصيات بالتنويه عنه، ثم عادت لتصمت وبعد أن انتبهت أنها تكلمت أكثر من اللازم.
لا يُريد المخرج لمتفرج فيلمه أن يهنأ بمشاهدة هادئة، فيقذف بهم في متاهة من الصور والانتقالات التوليفية السريعة، ويُشيِّد عالما خياليا من القصص، ويقدم وجهات نظر متضاربة عنيفة، وينتظر من مشاهديه أن يشاركوا بدورهم في الجدال الدائر، والبحث المعمّق عن الجناة الحقيقيين، بدل القراءات المبسطة لحكاية العصابة وما اقترفته من جرائم. يُغيِر المخرج باستمرار زاوية النظر إلى الأحداث والشخصيات فيه، ويضع المتفرج أمام أسئلة جديدة، فالعصابة تقترف أحياناً جرائم بشعة بحق أبرياء، لكنها تستهدف أيضاً أبناء أثرياء الفساد الاقتصادي في إيران في فعل يقترب من الانتقام الوجّه للسلطات. يُبقي الفيلم أسئلته المضمرة مشتعلة تحت طبقة الحكاية الواضحة التي يقدمها، وينجح في جعل بعض الشخصيات ترمز لفئات وطبقات واسعة.
يأخذ الفيلم منعطفاً حاداً في نصفه الثاني، وتتبدل مناخاته ولغته الفنيّة. يركز هذا الجزء من الفيلم على قصة هوس أحد أفراد العصابة بصحفية تعمل في جريدة إيرانية جادة، وتنشغل منذ سنوات في قضية عقوبات القضاء الإيراني وفرص العفو فيه. تتغير بنية الفيلم، فيتضاءل الأسلوب التسجيلي، والذي تخاطب فيه الشخصيات الكاميرات مباشرة، ليقترب الفيلم عندها من الأفلام الروائية ذات الخط الدرامي المتصاعد. كما ستتبدّل روح الفيلم، من التحقيقية، إلى فيلم رعب مخيف عن الهوس المرضيّ وما يقود إليه، وفي عنوان فرعي، عن المرأة وهشاشة موقعها في المجتمعات الشرقية.
يُطارد البطل الصحفية في كل مكان، وينتظرها على كل ناصية شارع. هي ستمثل ما يشبه الخلاص والنقاء الذي يبحث عنه، وبعد أن تورط قبل التعرف بها في أول جريمة قتل في حياته. هي ستكون أيضاً في مركز عالم الخيالات والهلوسات، والذي يهرب إليه العشاق الشرقيون من إحباطات عوالهم الواقعية. هذا الهوس سيتطور إلى الخاتمة المفجعة في الفيلم، والتي يتقدم إليها هذا الأخير بثقة وتمكُّن كبيرين، وينقلها برعب بدا في أحيان كثيرة أكبر من قدرة الشاشة السينمائية على تحملّه. يستلهم المخرج حادثة شهيرة لصحفية في إيران وقعت في السنوات الأخيرة، ويوظفها في مشاهده الوحشية الأخيرة.

تختلف طبيعة المشاهد السينمائية في النصف الثاني من الفيلم، فتتقلّص المشاهد الخارجية التي صُوّرت بكاميرات على الكتف وبسريّة أحياناً ودون علم قاطعي الطرقات، لصالح مشاهد طويلة تم الاعتناء مليّا بتركيبتها الشكليّة، وتغوص في العوالم النفسية لشخصيتيّ الجزء الثاني الرئيسيتين من الفيلم. تهتم بعض المشاهد بإظهار الوحدة والانقطاع عن المحيط العام، كالمشهد التعبيري الرائع الذي يصوِّر الصحفية في صالة غاليري، تجلس وحيدة وسط عمل فنيّ. كما يجرب المخرج مع الجرافيك، فيقدم مشاهد للبطل مع ضميره أو شيطانه الشخصي والذي يلعبه الممثل ذاته، وهما يخوضان حوارات طويلة عن الحياة وما اقترفه البطل من آثام.
يُصنف المخرج رضا درميشيان (مواليد 1981) ضمن مجموعة المخرجين المغضوب عليهم من السلطات الرسمية في بلده. ففيلمه الروائي السابق “أنا لست غاضباً” (2014)، والذي يقدم قصة حب انطلقت في زمن الاحتجاجات التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الإيرانية في عام 2009، تم منع عرضه في الصالات في إيران. كما واجه المخرج مشاكل مع السلطات أثناء تصويره لفيلمه “لانتوري”.
يعزز المخرج الشاب من المشهد السينمائي الإيراني المتنوع. وعلى الرغم من أن فيلمه يقوم بانتقالات أسلوبية غير مفهومة أحياناً ويستطرد كثيراً في مواضع عديدة من فيلمه، الا أنه يحافظ على لغة سينمائية حيوية وعنيفة للغاية، كما يصل بفيلمه الأخير إلى حدود لم تعرفها السينما الإيرانية من قبل، إذ إنه يحول المأساة الشخصية للصحفية إلى أمثولة سينمائية مرعبة، تتخطى – برأيي – الكثير من أفلام الرعب الأمريكية المتخصصة.