“بين الأسلاك الشائكة”

أمير العمري

 

المخرج الإسرائيلي “آفي مغربي”  Avi Mograbi مخرج مثير للجدل، أو بالأحرى، ملعون داخل إسرائيل، فهو معروف بمواقفه وأفلامه التسجيلية المعارضة للسياسات الرسمية الإسرائيلية، ومثل عدد قليل من السينمائيين والمثقفين الإسرائيليين، يؤمن مغربي بحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على أساس قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة، وهو يوجِّه الكثير من النقد اللاذع في أفلامه ذات الطابع الوثائقي، للأساطير المؤسِّسة للصهيونية، كما يوجِّه نقدا شديدا لممارسات الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، فهو مخرج “مستقل” تماما يعمل بمعزل عن الإطار الرسمي في إسرائيل، وعادة ما يحصل على تمويل لأفلامه من فرنسا. 

 

في فيلمه “انتقم .. لكن لعين واحدة فقط” Avenge But One of My Two Eyes   الذي عرض عام 2006، كان “مغربي” ينطلق من فرضية أن المأزق الفلسطيني مرتبط بالمأزق الإسرائيلي، وأن دائرة الأحداث، في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو داخل ما يسمى بالخط الأخضر، هي دائرة مغلقة، تدور حول أساطير ومسلمّات ومعتقدات عتيقة بالية تستند إلى الأساطير، وتُكرِّس العنصرية الإسرائيلية. 

ويعتمد أسلوب الفيلم على التوثيق السينمائي المباشر، والمقاربة بين الوقائع والأفكار والأحداث من خلال المونتاج، والتعليق غير المباشر على الحدث عبر محادثات هاتفية بين مغربي نفسه، (الذي يظهر في الصورة)، وصديقه المثقف الفلسطيني الذي نسمع صوته على الطرف الآخر، لكننا لا نراه أبدا فهو الطرف الغائب كونه محاصرا داخل بيته لا يستطيع الخروج بسبب حظر التجوُّل الذي يفرضه الجيش الإسرائيلي على بلدته.
محاور الفيلم تدور حول ثنائيات مثل: ترسيخ الأسطورة وتعميق “ثقافة الانتحار”، المقاربة بين الماضي والحاضر في ضوء الأحداث المستمرة عبر التاريخ: الانتقام والانتقام المضاد، تغذية عقول الأطفال بمفاهيم معينة عن “البطولة”، وإنكار نفس المفهوم عن الآخر.

هذه هي المحاور التي يلمسها الفيلم من خلال خلق التصادم بين اللقطات، والجمع بين الصدمة التي تتولّد عن الصورة، والفلسفة الناتجة عما يتيحه الفيلم من مسافة ذهنية بين المتفرج والصورة لكي يمكنه التأمل والتفكير والتوصُّل بنفسه إلى الاستنتاج الأخير.
“انتقم ولكن لعين واحدة فقط”، عنوان له دلالة تتعلّق بفلسفة الانتقام وما تؤدي إليه من دائرة مغلقة. والمقصود “أنني لن يكفيني ما أنزله بكم.. فما سيأتي سيكون أشدّ هولا”. والعنوان مستمد من مقولة لشمشون – كما يرد في سياق الفيلم- ذات علاقة بالمبدأ التوراتي “العين بالعين والسن بالسن”.

 

يصور الفيلم كيف يقوم المدرسون بتدريس الأطفال في المدارس، أسطورة “الماساداه” وأسطورة شمشون اللتين يتم تناقلهما عبر العصور من خلال الحكيّ الشفوي والخيال المصور والمكتوب، ويكشف كيف أن كلا منهما يعمل على ترسيخ فكرة الشعور المستمر بالحصار، وبالتالي يصبح من المبرر التسلُّح بالقوة الغاشمة من أجل قهر الآخر الفلسطيني، وتفضيل الموت على الاستسلام أو الهزيمة، كذلك فكرة أن الصغير حجما وقوة مثل شمشمون، يمكنه بالتحايل واستخدام الذكاء أن يتصدّى لقوى تفوقه كثيرا في العدد، وإنزال الهزيمة بها.

 

 في فيلمه التالي “زد 32” (2008) يستند مغربي إلى ما عثر عليه من معلومات مصنفة في ملفات لدى منظمة “شوفريم شتيكا” التي قامت باستحواب عددا من الجنود الإسرائيليين الذين سبق أن خدموا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وسجلت قصصهم وتجاربهم، ووضعت على كل ملف حرفا ورقما. هذه الملفات هي ملفات “عمليات الانتقام” التي تشنّها قوات الجيش الإسرائيلي ضد مدنيين فلسطينيين تستهدفهم بالقتل.

ويركز الفيلم على حالة جندي شاب شارك في عملية خاصة قتل خلالها اثنين من رجال الشرطة الفلسطينية. هذا الجندي السابق يظهر في الفيلم وهو يخفي وجهه خوفا من أن يتعرف عليه الفلسطينيون، يتحدث تفصيلا عن دوره في تلك العمليات القذرة، وكأنه في جلسة من جلسات التحليل النفسي من أجل تحقيق نوع من الهدوء عن طريق البوح والاعتراف بالذنب.

يصور مغربي كيف يتعرض الجنود الإسرائيليون له أثناء تصويره المشاهد الخارجية، التي تدور بالقرب من قرية فلسطينية منع الجنود أطفالها من الذهاب للمدارس ويحاولون منعه من التصوير بدعوى أنه لا يحمل تصريحا أو بحجة أنه يصوِّر في منطقة عسكرية مغلقة، لكنه يصرّ على مواصلة التصوير، مما يُعرّضه للاعتداء من جانبهم، وينتهي الفيلم والمدرس الإسرائيلي يشرح للتلاميذ وهو يشير إلى العلم الإسرائيلي فوق قمة الجبل متسائلا: أين ذهب الرومان؟ ابحثوا عنهم في كتب التاريخ، لقد اندثروا وبقيت أمة إسرائيل!

يعتمد مغربي في أفلامه على أسلوب قريب من أسلوب مدرسة “سينما الحقيقة” التي ظهرت في فرنسا في الستينات، أي السينما المباشرة التي تعتمد على التقاط الحدث وقت وقوعه، وتقوم بتسجيله باستخدام كاميرات صغيرة محمولة، دون الاستعانة بممثلين ودون التدخل في ضبط الزوايا ووضع الشخصيات بطريقة فنية داخل الكادر، وكما تعتمد أيضا على جعل الكاميرا مثل الشاهد الصامت المتحرك الذي لا يهدأ ولا يتوقف، وعدم التلاعب في الصور واللقطات عن طريق المونتاج، وجعل المشهد الطويل أساسا لبناء الفيلم وليست اللقطة القصيرة.

وفي فيلمه الجديد “بين الأسلاك الشائكة” Between fences الذي عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي (10- 21 فبراير)، ينتقل مغربي لكي يكشف النقاب عن موضوع شديد الحساسية يتعلق بطريقة تعامل السلطات الإسرائيلية مع اللاجئين الذين يلجأون إليها بأعداد كبيرة سنويا، من بلدان مثل جنوب السودان وإريتريا وغيرهما، هربا من جحيم الحرب الأهلية والصراعات العرقية والدينية. 
يبدأ الفيلم باستعراض مشكلة اللاجئين الأفارقة، والاستماع إلى مقتطفات من قصص بعضهم، وكيف أن إسرائيل لا تعترف بهم، وتقبض عليهم السلطات دون أن يتم تقديمهم للمحاكمة بل يقال لهم إنه لا يوجد شيء في إسرائيل يدعى لاجئين وأنهم مجرد “متسلِّلين”، وبالتالي فليست لهم أي حقوق في دولة تدعّي أنها قامت أصلا على أساس الهجرة بسبب الضغوط العنصرية التي دفعت اليهود إلى مغادرة بلادهم الأصلية.

نعرف من خلال ما يرويه اللاجئون أن السلطات العسكرية الإسرائيلية فرضت عليهم الإقامة، لا في سجن من السجون التي تخضع لنظام محدد، بل في منطقة صحراوية في النقب تدعى “هولوت”، هي عبارة عن سجن مفتوح، حيث يحتمون بأطلال مخزن مهجور من مخازن الجيش الإسرائيلي، عبارة عن بناء متداعي لا نوافذ له، وتحظر السلطات عليهم مغادرة تلك المنطقة، كما تفرض عليهم ضرورة التوقيع مرتين يوميا في دفاتر إثبات الحضور.
يتسلل هؤلاء عبر الحدود المصرية – الإسرائيلية، يصبحون عرضة للقتل أو الاعتقال، وغالبا ما يحول حراس الحدود الإسرائيليون بينهم ودخول إسرائيل. ومن ينجح منهم في الدخول يلجأ غالبا إلى حديقة “ليفنسكي” في جنوب تل أبيب حيث يتعرضون هناك للكثير من المضايقات من جانب سكان المنطقة الذين يرفضون وجودهم، ويحملون عليهم، أساسا بسبب لون بشرتهم. أما سيئو الحظ منهم فيتم القبض عليهم ويتم ترحيلهم إلى ذلك المنفى الصحراوي الكئيب في “هولوت”، والمقصود من وراء ذلك دفعهم دفعا إلى طلب المغادرة، أو الموت.

يقول الفيلم إن إسرائيل من الدول التي وقعّت على الاتفاقية الدولية المتعلقة باللاجئين الفارّين من الأماكن الخطرة، لكنها عمليا لا تعترف باللاجئين ولا تمنحهم حق اللجوء السياسي ولا توفِّر لهم المأوى، أي أنها تخالف تعهداتها الدولية. ويصور هذا الفيلم في جزئه الأول الظروف المتدنية التي يعيش فيها هؤلاء الأشخاص، ونعرف أن هناك عددا منهم يبقى محصورا بين الأسلاك الشائكة في منطقة الحدود بين مصر وإسرائيل، فالسلطات المصرية تهددهم بالاعتقال أو بالقتل، والسلطات الإسرائيلية ترفض دخولهم. وكانت الحادثة الشهيرة التي وقعت في 2012 حينما حوصر 21 لاجئا من إريتريا في المنطقة الحدودية بين الأسلاك الشائكة لمدة ثمانية أيام، بينهم طفل في الرابعة عشرة من عمره وامرأتان، دون طعام أو شراب، هو ما دفع المخرج آفي مغربي إلى تصوير هذا الفيلم في 2015.

 

غير أن القسم الأساسي من الفيلم يستند إلى فكرة “مسرح المقهورين” الذي ابتكره البرازيلي أوجستو بول في الستينات، وهو يقوم على دفع المقهورين والمهمشِّين إلى المشاركة في عرض مسرحي لمشكلتهم، والتعرُّف خلال التدريبات على طبيعة المشكلة والتعبير عنها بشكل درامي. ولهذا الغرض فقد تعاون المخرج آفي مغربي مع المخرج المسرحي الإسرائيلي شين ألون، المتخصص في “مسرح المقهورين” وسبق له أن قام بتطبيقه على عدد من الفلسطينيين والسجناء والمهمشين وطالبي اللجوء السياسي.

 

تعتمد تقنية “مسرح المقهورين” على جعل الضحية تواجه الجلاد، على أن يتبادل الاثنان الأدوار في مرحلة لاحقة وهو ما نراه بشكل مباشر في الفيلم خلال التدريبات التي يصورها مغربي، ويظهر في مشاهد فيلمه يمسك بالميكروفون ويقوم بتسجيل الحوارات، ولا يتدخل سوى قليلا وبحذر شديد، لتوجيه الشباب الأفارقة الستة الذين اختيروا لتتمثيل المسرحية. وخلال التدريبات ونتيجة لإعلان نشره مغربي في الصحف، يتطوع أربعة من الشباب الإسرائيليين للمشاركة في المسرحية. والطريف أن مغربي يجعل الإسرائيليين يقومون بدور اللاجئين، بينما يقوم الأفارقة بدور الجنود الإسرائيليين، ويستدعون من ذاكرتهم العبارات التي سمعوها مرارا وما يسوقه الإسرائيليون عادة من تبريرات لدفعهم دفعا إلى العودة من حيث أتوا.

التجربة ممتعة من الناحية البصرية والدرامية. ورسالة الفيلم واضحة في توجيه صفعة لنظام العدالة الإسرائيلي، كما يفضح التعصب الصهيوني والعنصرية الإسرائيلية ضد الأفارقة السود. ويبلغ الفيلم ذروته في المشهد الذي يصوره مغربي بشكل مباشر وبكاميرا محمولة، للتظاهرة الغاضبة التي قام بها الأفارقة قرب الحدود المصرية، احتجاجا على المعاملة السيئة التي يلقونها، وما وقع من اشتباكات بينهم وبين الجنود الإسرائيليين، وكيف يعبر كثير من المتظاهرين في النهاية عن رغبتهم في مغادرة “معسكر الموت” والرحيل بعيدا عن إسرائيل، ولو  عادوا إلى بلادهم الأصلية!


إعلان