“دالاس”.. تجلّيات رومانية
محمد موسى

روى الممثل الأمريكي الرحل لاري هاغمان، والذي لعب الشخصية الأيقونية “جي. آر” في المسلسل الأمريكي الشهير “دالاس”، في لقاء تلفزيوني مع “بي.بي.سي”، أنه قابل رجلاً من رومانيا، نقل له وبتأثر كبير، الدور المهم الذي لعبه المسلسل في حياة سكان هذا البلد الشيوعي في ثمانينيات القرن الماضي، إذ كان المسلسل الإطلالة الوحيدة للرومانيين وقتها على ما يجري في العالم “الرأسمالي”، ذلك أن دولة نيكولاي تشاوشيسكو كانت تمنع وقتها عرض الأعمال الفنيّة المصنوعة في الدول الغربية.
بيد أن السحر انقلب على الساحر، فالذهنية الرسمية التي اختارت هذا المسلسل بالتحديد، لما يُظهره من “الانهيار الأخلاقي” الفادح للمجتمع الأمريكي، حرّرت دون قصد أحلام مشاهديه في رومانيا، وجعلتهم يتمسكون أكثر بحياة أخرى بعيداً عن السجن الكبير الذي كانوا يعيشون به. لينطبع المسلسل في ذكريات أجيال منهم، ويصبح مرتبطاً على أكثر من مستوى بحقبة ما قبل التغيير الكبير الذي أطاح بالحكم الشيوعي في عام 1989.
ينطلق فيلم “فندق دالاس” (Hotel Dallas) للمخرجين الزوجين: ليفا أينغور و شييرن لي هوانغ، والذي عُرض في برنامج “بانوراما” في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي، من علاقة الوعي الجمعيّ الروماني بالمسلسل الأمريكي، كتمهيد لمساءلة الذاكرة والتنقيب فيها عن هوية وطنية واضحة، في محاولة سينمائية جديدة لتحديد ملامح وعناصر هذه الهوية، وهو الأمر الذي طالما شغل الأعمال السينمائية الرومانية الروائية اللافتة بجودتها في العقدين الأخيرين.
لا يختار الفيلم مقاربة تقليدية، ويُجرّب عدة أساليب فنيّة، كأن يجعل أطفالاً رومانيين يمثلون مشاهد مهمة من المسلس�� التلفزيوني الأمريكي، وكما تتذكّره شخصيات الفيلم التسجيلي هذا. كما يطلق حواراً شعرياً بين بارتيك دوفي، الممثل الرئيسي الآخر في مسلسل “دالاس”، والمخرجة، يبدأ من الولايات المتحدة، ويتواصل في رومانيا.

يعكس الفيلم خلفيات المخرجين اللذين يقفان خلفه، فالأمريكي لي هوانغ، والذي عُرف بنشاطه الكوميدي على موقع “يوتيوب”، سيضيف الروح الهزلية إلى الاستعادة التاريخية للفيلم، كما يَقلِب أسلوب المقابلات المباشرة الشائع في الأفلام التسجيلية على رأسه، ويصوغ شهادات الشخصيات بكوميدية ناجحة. أما زوجته الرومانية الأصل والتي تدرس الفن التشكيليّ الحديث في مدينة نيويورك، فهي تحاول أن تأخذ الفيلم إلى وجهة فنيّة حديثة، وتوظِّف تجربتها الخاصة في قراءتها لتاريخ بلدها. فكان الفيلم في أحيان كثيرة منه، رواية لتجربة المخرجة الذاتية، وكيف طبعتها الأحداث الكبيرة التي كانت شاهدة عليها وهي طفلة، وبالخصوص الإعدام العلني لتشاوشيسكو وزوجته، والذي نقله التلفزيون الروماني الرسمي على الهواء، وليتحول بعدها إلى حدث مفصلي مازال البلد يحاول أن يجد مكانا له في التاريخ الجمعيّ، في مقدمة للتعاطي مع آثاره.
يوفِّر المسلسل الأمريكي “دالاس”، والذي يُنظر إليه اليوم كعمل فنيّ ترفيهي بحت بلا أدنى قيمة وارتكز على تضخيم الشخصيات الطيبة والشريرة فيه إلى حدود الكاريكاتير، فسحة خصبة للكوميديا، وهو بالضبط ما يفعله الفيلم التسجيلي الروماني، خاصة في المشاهد الكوميدية التي جعل فيها أطفالأً يعيدون تمثيل مشاهد من المسلسل. والأطفال أنفسهم سيروون شهادات الكبار عما عناه المسلسل للرومانيين وقتها، وكيف كانت الشوارع تخلو من المارة في زمن عرض المسلسل على الشاشات التلفزيونية. وعندما كان يُظهر بالغين في الفيلم ليتحدثوا عن ذكرياتهم الخاصة مع المسلسل، ستتجه تلك الشهادات لتحليل تركيبة العمل الدرامي الأمريكي، بالعلاقة مع ما كان يشغل المواطن الروماني العادي حينها.
يستفيد الفيلم من غرابة قصة رجل أعمال روماني، بنى بعد انهيار الحكم الشيوعي منتجعاً باسم دالاس (استعار الفيلم التسجيلي عنوانه من اسم ذلك المنتجع). لم يكتفِ رجل الأعمال بإقامة فندق على النمط المعماري لبيوت شخصيات مسلسل “دالاس”، بل وضع في وسط منتجعه السياحي نسخة أقل حجماً وجودة من برج إيفل في باريس. يوافق رجل الأعمال على الظهور في الفيلم والرقص على أنغام أغنية رومانية، فيما يبدو منتجعه السياحي المهمل والمهجور حالياً، ككناية عن حال البلد الأوروبي كله، والذي مازال متحيراً بشأن مستقبله والطرق التي يجب أن يسلكها، وبعد أن ودّع الحكم الطويل للشيوعية. تضيف مشاهد رجل الأعمال الروماني ذاك، إلى الغرائبية الكبيرة للفيلم، والتي لم تكن وبشكل عام منفرة أو مغلقة على ذاتها، ولم تبعد الانتباه عن القضايا الملحّة التي تصدى لها.

يَصِل مخرجا الفيلم بين دراما المسلسل الأمريكي الخيالية وحادثة إعدام تشاوشيسكو وزوجته. فيقوم الأطفال أنفسهم في الفيلم، والذين مثلّوا مشاهد من المسلسل الأمريكي، بإعادة تمثيل اللحظات الأخيرة من الإعدام العلني الشهير. لا يستخف أو يتشفى الفيلم من موت الديكتاتور، لكنه يضعه في سياقات فنيّة جديدة، تطرح بدورها أسئلة عن الذاكرة والخيالي والحقيقي، وعلاقة الإنسان بما مرَّ به من أحداث عامة. تستعيد أُمّ المخرجة التي تعيش في رومانيا في سلسلة من المشاهد، تفاصيل يوم الإعدام الطويل، لكنها تتوقف أكثر عند الضيوف الذين جمعتهم غرف جلوسها وقتها، والطعام الذي تناولوه، وانسحبت حادثة الإعدام المجلجلة وقتها، إلى خلفية الذاكرة.
بموازاة الاتجاه الغالب في السينما التسجيلية، والتي تُحقِّق وتعاين مواضيعها ضمن أساليب ومناهج ترتكز بالأساس على قيمة الحوارات والشهادات المباشرة التي تبرزها وتتشكل من حولها، تسعى أعمال تسجيلية أخرى لكي تهزّ الفئة السينمائية التي تنطوي تحتها، وتتعامل بابتكار مع المادة التاريخية نفسها التي تتعاطى معها أفلام الاتجاه الآخر. يندرج فيلم “فندق دالاس” ضمن الاتجاه الفنيّ الذي لا يركن إلى السائد. و يتجنب كل مقاربة تقليدية، ويجرب ويسخر، ويخلف مشاهديه مع مشهديات وأسئلة مُحرضّة، رغم أنه بدا أحياناً أن المخرجيْن فقدا السيطرة على بوصلة الفيلم، وأغرقاه بأفكار تجريدية، لم تترجم دائماً بنجاح إلى لغة سينمائية مُتجددة.