“تغيير حياة مليارات البشر”
أمير العمري
ها نحن أمام فيلم وثائقي لا يتناول المآسي والحروب والكوارث الطبيعية وانتهاكات الشرطة وتجارة المخدرات، بل يُبشرّنا بإمكانية التوصُّل إلى حلول لعدد من أكثر المشاكل إلحاحا في عالمنا.

في هذا الوثائقي البديع الذي لا يتجاوز 43 دقيقة، نحن هذه المرة، أمام نظرة أكثر تفاؤلا، تسعى إلى تحقيق الخير لمليارات البشر في عالمنا الذي يسكنه أكثر من سبعة مليارات إنسان، نصفهم تقريبا يعيش تحت خط الفقر، يعاني من الأمراض، يفتقر لمياه الشرب النقية، يعاني نحو مليار ونصف منهم بسبب غياب الطاقة الكهربائية تماما، وما يترتب غياب فرص العمل.
هذا ما يقوله لنا بشكل مباشر بطل فيلمنا هذا وهو الأمريكي من أصل هندي، “مانوج باهراغافا” الذي يظهر للمرة الأولى بنفسه أمام الكاميرات، يتحدث إلينا مباشرة، يصحبنا من مكان إلى آخر، عبر تلك الرحلة المدهشة من خلال فيلم “مليارات يتغيرون” Billions in Change الذي ربما تكون الترجمة الأفضل لعنوانه “تغيير حياة مليارات البشر”.
اشترك في إخراج وتصوير هذا الفيلم فريق من المحترفين العاملين. أما صاحب الفكرة فهو مانوج الذي عرفه العالم منذ عام 2003 باعتباره ابتكر وأنتج المشروب الشهير الذي أطلق عليه “مشروب الساعات الخمس، وحقّق نجاحا هائلا، وهو عبارة عن خليط من الفيتامينات والمعادن يمنح المرء طاقة تساعده على الصمود ليوم عمل شاق وطويل. مع النجاح التجاري الكبير الذي حقّقه هذا المشروب وجد مانوج نفسه فجأة، وقد أصبح مليارديرا بالصدفة، وقد بلغت ثروته أربعة مليارات دولار. لكنه – كما يقول لنا في بداية الفيلم – سأل نفسه: ماذا سأفعل بكل هذا المال؟ فقرر رصد 99 في المائة مما يملكه ومن أي أرباح مستقبلية، للعمل الخيري الإنساني أي لإنجاز مشاريع وتمويل ابتكارات واختراعات حديثة تعتمد على الإرادة البشرية أكثر من اعتمادها على الأموال والاحتكارات الصناعية الضخمة، ويكمنها أن تساهم في انتشال مليارات من البشر من وهدة الفقر والمرض.
أقام الرجل مؤسسة خيرية خاصة، توظف طاقات ومواهب وقدرات فريق من المبتكرين والمهندسين والمخترعين والعلماء أصحاب الأفكار غير التقليدية، وتركز نشاط هذه المؤسسة على البحث عن طرق فعالة وبسيطة للتغلب على المشاكل الرئيسية الثلاثة في العالم حسب رؤية مانوج نفسه، وهي: المياه والطاقة والصحة.
يعتمد الفيلم على التصوير المباشر لنشاطات الرجل وجولاته داخل وخارج الولايات المتحدة، وقيامه بنفسه باختبار الأجهزة التي يخترعها فريقه، مع مقاطع متعددة مما بثته قنوات التليفزيون الأمريكية حول نشاط الرجل وشركته، وعدد من المقابلات المصورة معه، والتي وُزّعت على مدار الفيلم بحيث تم الاستغناء تماما عن أي تعليق من خارج الصورة، وأصبحت الشروح المباشرة من جانب مانوج لأفكاره ثم اختراعات مؤسسته الخيرية، تغني عن أي تعليق، وهو يصحبنا أيضا إلى بلدان مختلف مثل سنغافورة والهند، وإلى المناطق التي ضربها الجفاف في كاليفورنيا في صيف 2015، كما يتضمّن الفيلم مشاهد للطبيعة المهددة، للتلوث الذي ينتج عما تبثّه مداخن المصانع، والآثار المدمرة التي تركها إعصار كاترينا.

يتميز الفيلم بدقة ما يعرضه من نماذج، واختراعات يطلعنا عليها مانوج بل ويجرّبها أمام الكاميرا، وهو يتحدّث ببساطته وتواضعه وحرصه على الظهور بمظهر يخالف تماما المظهر المألوف لكبار الأثرياء في المجتمع الأمريكي، يبدو مدفوعا بطاقة روحية هائلة، ويقين يجعله مسترخيا، واضحا في تعبيره عن أفكاره، يتعامل مع فريقه من المخترعين تعامله مع رفاق يشاركونه حماسه وصدقه وأفكاره الإنسانية.
يتوقف مانوج أمام مشكلة المياه في العالم ويشرح على خلفية لقطات سريعة لأماكن الجفاف في آسيا وأفريقيا، ولقطات أخرى للبحار والمحيطات الشاسعة التي تمتليء بالمياه ولكن دون أدنى استفادة حقيقية منها. لا يتحدث مانوج عن المياه الجوفية، بل يشرح لنا ببساطة ذلك الاختراع البسيط الذي أمكن لفريقه التوصل إليه وكيف يمكنه تنقية مياه البحر بمعدل مرتفع يجعلها تصل إلى درجة نقاء المياه المقطرة.
وهو يطلق على هذا الجهاز “صانع المطر”، ويعمل عن طريق سحب كميات من مياه البحر وتسخينها ثم تجميع البخار الناتج عنها وإعادة تكثيفه وتحويله إلى ماء، وهي الآلية التي يقول إنها استمدّت من الآلية الطبيعية التي خلقها الله في الشمس التي تساهم في تبخُّر الماء ثم تكوين السُحب وإعادة إسقاط الماء على هيئة أمطار، ومن هنا جاءت تسمية الجهاز “صانع المطر”. يقول المهندس المسؤول عن اختراع الجهاز وتشغيله، إنه يستطيع تنقية ألف جالون من المياه المالحة كل ساعة. ويقول مانوج إنه تمكّن من وضع أساس لإنتاج آلاف من هذه الأجهزة شهريا، فهي لا تحتاج إلى إنشاء مصانع ضخمة وتشغيل آلاف العمال.
والتجربة ملهمة بلا شك لبلدان العالم الثالث التي تواجه مشكلة حادة فيما يتعلق بالمياه ومياه الشرب تحديدا بل وربما الأهم أيضا، أن “صانع المطر” على العكس من أجهزة تنقية مياه البحر التقليدية، يوفِّر أيضا مياه تصلح للزراعة، وبالتالي يمكن استصلاح الأراضي وإنتاج المحاصيل وتوفير المواد الغذائية، والقضاء على مشكلة الغذاء في العالم.
يُعلِّق مانوج بأسلوبه الساخر المحبب بالقول إن بعض المسؤولين في بعض البلاد، ربما لا يرحبّون بهذا الجهاز، في إشارة إلى فساد هؤلاء المسؤولين وتواطئهم مع الشركات الاحتكارية العملاقة المتخصصة.
من “صانع المطر” ننتقل إلى توليد الكهرباء. فنرى جهازا آخر يشبه الدراجة يكفي أن يجلس المرء فوقه ويدير البدّال بقدميه لكي تنتج الطاقة الكهربائية سواء داخل منزل أو منشأة أو مؤسسة، حتى في أشدّ الظروف قسوة عند وقوع الأعاصير التي تؤدي إلى انقطاع الكابلات وبالتالي غياب الطاقة.
إن نموذج “البدال” الذي ينتج الطاقة من القوة العضلية البشرية الخالصة، يمكن أن نطلق عليه بدون أدنى مبالغة “قنبلة الفقراء” فهو كفيل بتغيير مجرى حياة مليارات من البشر، إذا عرفنا أن نصف سكان الكرة الأرضية محرومون من الطاقة الكهربائية. والمهم كيف ستستجيب الحكومات إزاء اختراع كهذا يلزم الاستثمار بالطبع في إنتاجه وتوزيعه على الأماكن الأكثر حاجة للطاقة.
ينتقل مانوج في رحلته مع المشاهد عبر الفيلم، إلى جهاز آخر يعمل بالكهرباء، يشبه سرير الطبيب، حيث يتمدد الشخص فوقه ويتم توصيل ساقيه وذراعيه ببعض الأنابيب، ويقوم الجهاز بعمل نوع من التدليك لكل عضلات الجسم بحيث يتم تنشيط الدورة الدموية التي أثبتت الدراسات أن أي اضطراب فيها بسبب ضعف في عضلة القلب أو أي عيب في أحد الشرايين، قد يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة. ويطلق مانوج على الجهاز الطبي اسم “التجديد” أي تجديد النشاط واستعادة الطاقة الجسدية.
يظهر في الفيلم أحد كبار علماء الطب البريطانيين هو الدكتور ديفيد لاين الحاصل على تكريم خاص من ملكة بريطانيا، يشهد أمام الكاميرا بكفاءة الجهاز وقيامه على أساس علمي سليم. ولكن هذه هي الحالة الوحيدة التي نستمع خلالها لشهادة محايدة.
يقول مانوج إن هذه الاختراعات لا تزال في بدايتها ومن الممكن أن تتطور كثيرا مع تطور التكنولوجيا خاصة المتعلقة بمادة الجرافيت الموجودة في الطبقات العميقة تحت الأرض. فقد وجد فريق المخترعين بالمؤسسة أن هذه المادة متوفرّة في باطن الأرض ويمكن الوصول إليها بواسطة كابلات عملاقة وحفار بسيط، ثم استخراجها والتحكم في توجيهها إلى مناطق معينة دون أن ينتج عن ذلك أي تلويث للبيئة.
غير أن البعض يشكك في تجارب مانوج بسبب بساطتها الظاهرية، ويقول هؤلاء إن الفقراء لن يستطيعوا- على سبيل المثال- شراء أجهزة مثل جهاز تنشيط الدورة الدموية، أو أن الحصول على الجرافيت من باطن الأرض الذي يقتضي توفر طاقة كهربائية عالية التكلفة. وهذا الجانب النقدي هو تحديدا ما يغيب عن الفيلم، الذي يتبنى وجهة نظر مانوج وحده، ولاشك أنها وجهة نظر قوية يدلل عليها بالأرقام وبالدلالات العملية، لكن المشاهد كان في حاجة لمعرفة ردود الفعل، سواء من جانب العلماء أو المستهلكين أو المسؤولين. وهو ما يقتضي العمل لإنتاج فيلم وثائقي آخر يستكمل البحث في هذه الحلول التي تبدو أقرب إلى المعجزات العلمية!