التيه الأرمني

محمد موسى

 

ينشغل فيلم “جغرافيات” (Geographies) للمخرجة اللبنانية شاغيك أرزومانيان، والذي عُرض أخيراً في مهرجان سينما الحقيقة في فرنسا، بالهموم والتاريخ نفسه لفيلم “منازل بلا أبواب” للمخرج السوري أواديس كابرئيليان، والذي كان أحد أفلام برنامج “فورم” في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي، ذلك أن الفيلمين يعاينان تاريخ أرمنيّين عبر عدسات معاصرة عكرتها الأحداث الآنية الداميّة في الشرق الأوسط.

 

إذ يربط المخرج السوري في فيلمه “منازل بلا أبواب” بين الحرب السورية الشرسة المتواصلة، وتاريخ الأرمن في مدينة حلب السورية، عبر يوميات عائلة من هناك، تعيش في حيّ كان تاريخيا المكان الذي تجمّع فيه الأرمن الهاربون من الملاحقات التركية في القرن الماضي. في حين يشكل الوضع اللبناني المعقد والقريب دوما من الانفجار، أحد الأسباب للمخرجة أرزومانيان، لسرد تاريخ العائلة الأرمنية في فيلمها، والتي ستبدأ من تركيا في بدايات القرن الماضي، ووصولها بعد ذلك إلى لبنان، الذي ستكون حربه الأهلية ما يشبه النفق الطويل الذي دخلته شخصيات الحكاية ولم تفارقه لليوم.

هناك حكاية طويلة تمتد على طول قرن كامل يرويها الفيلم بصوت نسائي وباللغة الأرمنية، وشكَّلت مع الموسيقى الخافتة المرادفة الخلفية الصوتية للفيلم. فيما سعت الصور المتدفقة أن ترسم عالماً موازياً خاصاً، كان أحياناً أميناً لمواقع أحداث الحكاية الجغرافية التي نقل مشاهد منها، وأحياناً اخرى كان يجرب في مشهديات جريئة بلغتها السينمائية المبتكرة والتي صورتها المخرجة بنفسها.

اختارت المخرجة أسلوباً قريباً مما يقوم به الحكواتي الشرقي، لكنها لم تركن لمحافظة الحكاية الشرقية، بل كشفت دون تردد جروح أبطال قصتها، وتمعنت في نقل الوحشية التي مرَّت عليهم، ولم تتركهم يهنؤون بخواتيم سعيدة، إذ إن التيه هو قدر أبطالها، ورحلاتهم السابقة التي أجبرتهم على ترك موطنهم الأول، لم تنته بعد، بل زادتها أحداث المنطقة الجسام من الأعوام الأخيرة تمزقاً وضياعاً.

 

ليس من المعروف علاقة المخرجة بشخصيات الحكاية التي يرويها فيلمها، وما إذا كانت هي نفسها حفيدة لتلك المرأة التي هربت يوما ما من قريتها التركية بعد مقتل الزوج، أو أن الحكاية هي تجميع لقصص صغيرة مما يتوارثه الأرمن من تاريخهم في المنطقة.

 

هناك تفاصيل بدت شائعة تخص الجزء الذي وصلت اليه الحكاية في سبعينيات القرن الماضي في لبنان، يشي بقرب المخرجة من الشخصيات التي ترد في الحكاية. لكن الجزء اللبناني نفسه، وبالتحديد ما فعلته الحرب باللبنانيين ومنهم اللبنانيون الأرمن، هو أيضاَ في جزء منه رصد بانورامي لمحطة صعبة في تاريخ شخصيات الحكاية، وعلى خلفية الزمن المفصليّ الذي كان يمرّ به البلد بأكمله.
تسجل حكاية الفيلم رحلة بدت أبدية لأمراة أرمنيّة في تركيا في عشرينيات القرن الماضي، وكيف تنقلت هذه المرأة بين عدة أماكن حتى وصلت مع عائلتها الصغيرة إلى لبنان، ولتعيش هناك مثل آلاف الأرمن وقتها، لاجئة على أطراف مدينة بيروت والتي ستتحول لاحقاً إلى أحياء الأرمن المعروفة اليوم.

في ثنايا القصة الكبيرة للفيلم، هناك العديد من التفاصيل الصغيرة التي توفِّر نافذة مهمة على ما حدث للأرمن في القرون الماضية، وهو أمر بدا أن الفيلم مهموم به ويسعى لإبرازه، كجزء من المحاولات الفنيّة التي تستذكر الذكرى المئوية لمجازر الأرمن على يد الإمبراطورية العثمانية الذي صادف العام الماضي.
وإذا كان التعليق الصوتي في الأفلام التسجيلية يأتي في الغالب لتفسير تفاصيل معينة، أو يربط بين انتقالات توليفية تحتاج إلى شروحات خارجية، أو لنقل يوميات مكتوبة للشخصيات، فهو هنا في فيلم “جغرافيات” يشكل الطريق الوحيد لسرد حكاية، لم يكن ممكنا نقلها تسجيليا من دون هذه المقاربة المبتكرة. تتغير نبرة صوت الراوية وتزداد شاعرية السرد مع تدفق أحداث القصة. لتقترب بطلة القصة من التحوُّل إلى أمثولة لعذاب الشرق كله، في ماضيه وحاضره.

 

 

يشبه الجنون الديني والعرقي الذي عاشت تحته البطلة قبل قرن ما يحدث اليوم في مناطق عديدة من العالم. تُقرّب تفاصيل معينة الوقائع التي عمرها قرن كامل من زمننا الحالي، وهذا سيزيد من عاطفية القصة التي يقدمها الفيلم.

فالبطلة مثلاً تعثر على رأس زوجها الأول مرمياً في القرية، وستهرب من هناك مع أولادها الصبيان، والذين سينجون من موت محقق في المدينة التركية التي وصلوا إليها.

يضيف الفيلم إلى التجارب التسجيلية القليلة التي تستعيد أحداثاً تاريخية معينة لم تُحفظ صورياً. كما يؤسس لعلاقة مثيرة ناجحة بين السرد الصوتي والمشهديات المقدمة، التي لا ترتبط بالحكاية التي يقدمها الفيلم.

عثرت المخرجة على تناغم رائع بين الصوت الخلفي في الفيلم وماقدمته من مشاهد. فالأخيرة كان لها بنيتها الشكليّة المبتكرة. خاصة أن على بعضها أن يحمل ثقل أوجاع الحكاية التي لا توصف.

بدت بعض المشاهد وكأنها تغرق في القنوط الذي يتفجر من فتح جراح الماضي الذي لا يمكن تغيير دفته أو إصلاحه، وحاولت المخرجة بمشاهد غير مألوفة للبحر وللسماء، أن تحول فيلمها أحياناً إلى تجربة تأملية، تدفع إلى مراجعات عن أحوال العالم ومظالمه.


إعلان