“الأمير الأحمر الأخير”.. سيرة غير مُصرّح بها لزعيم مختلف يلفه الغموض

 

من مدينة بيرن السويسرية، لا من العاصمة بيونغ يانغ كما هو متوقع، يبدأ المخرج الفرنسي “أنتوني دوفور” محاولته كتابة صفحات من سيرة الرئيس الكوري الشمالي “كيم جونغ أون” سينمائيا، وكأنه بهذا المنطلق “المفاجئ” يريد تذكير مُشاهده بغموض حياته وقلة ما نعرف عنها.

وليس بدعا في ذلك، بل شأنه شأن بقية الرؤساء الكوريين الذين طالما أحاطوا حياتهم الشخصية بأقصى درجات السرية، وعتمّوا على كل ما يحدث داخل بلادهم، فبدت كأنها جزيرة معزولة تُنسج حولها الحكايات، وتشاع عن تصرفات وسلوك رؤسائها وطريقة حكمهم أخبار غالباً ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة.

جاء الفيلم تحت عنوان “الأمير الأحمر الأخير” (Le Dernier Prince Rouge)، وقد أراد صانعه أن يكون عملا صادقا رزينا، فراح ينقب عن الزعيم الشاب في أمكنة غير تلك التي يذهب إليها الصحفيون عادة، ليقتنصوا منها خيوط قصص واهية يضيفون لشحتها الكثير من البهارات، كي يدغدغوا بها خيال المتلقي، لكنها لا تعطيه صورة حقيقية عنهم ولا عن بلادهم التي مال الغرب إلى تصويرها كأنها مصدر شر دائم يهدد البشرية بالدمار، وتريد إزالة جارتها الديمقراطية كوريا الجنوبية من الوجود.

أطفال الزعيم.. طلب الحصول على تأشيرة للغرب

كان ذهاب المخرج إلى سويسرا بناء على توفّر معلومات أولية لديه، تفيد بقضاء “كيم جونغ أون” سنوات من طفولته فيها ودراسته المرحلة الابتدائية في مدارسها الحكومية، وللبناء على ذلك أراد الوثائقي التأكد من صحة هذه المعلومة باعتبارها تشكل نقطة مركزية غير عادية، وقد تُغير في حالة توسيع دائرتها كثيرا من الانطباعات الشائعة عنه، وتعطي للفيلم حرية اختيار منطلق مختلف عن الشائع.

يؤكد مدير إحدى مدارس المدينة الهادئة وجود ثلاثة أطفال كوريين شماليين درسوا فيها بداية التسعينيات، مما يشجع الوثائقي على المضي قدما في بحثه عن هوية هؤلاء، وكيف وصولهم إليها، ولسرد حكاية وجوده مع أشقائه في سويسرا فقد لجأ الوثائقي إلى أسلوب السرد الروائي المتخيل.

أعاد الفيلم القصة إلى البداية، حين تقدمت سفارة كوريا الشمالية بطلب الحصول على تأشيرة دخول لثلاثة أطفال، وسيظهر فيما بعد أن أسماءهم تغيرت، لكن تواريخ ميلادهم ظلت كما هي، وهذا سيعطي أملاً قوياً للفيلم للتحقق من حقيقة أن يكون الرئيس الكوري الحالي من بينهم.

المختبر الجنائي.. تقارير تكشف نافذة العلاقات السرية

أظهرت تقارير المختبر الجنائي ومقارنة الصور وتحليل البيانات التخطيطية أن الطفل الأصغر بين أخوته هو نفسه الرئيس الحالي، مما شجع المخرج على الذهاب أبعد وتوجيه أسئلة إلى الجهات السويسرية عن سبب وجودهم على أراضيها، على الرغم من سوء العلاقات الدبلوماسية بينهم وبين كوريا الشمالية.

سيتوصل الوثائقي إلى حقيقة وجود قنوات ظلّت مفتوحة طيلة الوقت بينهما، وأن الحكومة السويسرية رغم كل الدعاية الخارجية التي تنشرها كانت تستقبل المسؤولين الكوريين وعوائلهم، وكانت على علم بوجود أطفال الرئيس الكوري الشمالي في بيرن.

الملصق الخاص بالفيلم والذي يظهر فيه الزعيم الكوري باللون الأحمر

لم يكن الفيلم معنياً بتفاصيل العلاقة بين البلدين ونفاق الحكومة السويسرية بقدر اهتمامه بالطفل الذي سيصبح فيما بعد رئيساً لدولة شيوعية متشددة تُشهر عداءها للغرب جهارًا نهارًا، بينما يتعلم أبناء قادتها منذ نعومة أظافرهم ثقافته. كان يهمه أيضا معرفة سر امرأة كورية كانت تزور الأطفال الثلاثة، وتمكث في منزلهم أشهرا طويلة.

صنّاع القرار.. شهادات من داخل الدولة المظلمة

لا يتوقف الفيلم كثيرا في سويسرا بعد تأكده من صحة المعلومة الكنز، وبعد كشفه هوية المرأة اللغز التي ظهر بعد طول التحري أنها والدة “كيم جونغ” الزوجة المجهولة للرئيس “كيم الثاني”، أما المرحلة الكورية من الفيلم فستجري فصولها على مدى الزمن الباقي للفيلم المثير للمتابعة والفضول المعرفي.

راح المخرج لتغطيتها يجمع أكبر كم ممكن من المعلومات، ومن شخصيات أكثرها من الداخل لم يكشف عن وجوهها خوفاً على حياتهم، ففي النهاية فعمله لم يكن مصرحا به رسمياً، لهذا لجأ إلى مقربين من السلطة أو مَن كانت لهم أدوار في رسم سياساتها، ليقدموا شهاداتهم وفهمهم لطبيعة الدولة التي أزاحتهم من مراكزهم لأسباب مختلفة، ويقابل خارجها شخصيات معنية مباشرة بشؤونها من كل جهات الأرض، ليأخذ منهم ما يريد، ويتأكد من صحة ما سيتوصل إليه من استنتاجات تظل لشحّ المصادر وندرتها بحاجة إلى مراجعة العارفين بالثقافة الكورية وطريقة تفكير قادتها، قبل ضمها إلى متنه الحكائي شديد الدقة والغنى.

كل ذلك إلى جانب حصوله على تسجيلات فيديو مهمة، بعضها إخباري وبعضها وفرّته له زياراته المتكررة إلى كوريا الجنوبية، ليغدو الفيلم بأكمله منبعاً غنياً في معرفة نظام سياسي صارم، شديد التحوط لا يحب الغرباء ولا يريد لهم الدخول إلى حصنه والاطلاع على حقيقة ما يجري فيه من مؤامرات ودسائس وصراع سياسي عنيف على توجهاته النهائية.

ميوعة الكبار وكياسة الأخ الأصغر.. ملامح الزعيم القادم

مع أنه الأصغر فقد استطاع إقناع والده بأحقية تولّيه الحكم بعد موته، بضغط مباشر من والدته صاحبة التأثير القوي عليه، وقد أظهر الشاب كياسة وحكمة حمسّت الزعيم الأب للبدء بتأهيله للولاية من بعده، وقد شجعه على ذلك ضعف شخصية أخيه الأوسط وميوعته، على عكس الأكبر المتهور الذي أُلقي القبض عليه في اليابان بعد دخوله مع عائلته إلى أراضيها بجواز مزور، مما أساء كثيرا إلى سمعته.

مشكلة “كيم جونغ أون” أن والده قد مات قبل إتمام تأهيله، والأسوأ من ذلك توريثه تركة ثقيلة من المشاكل الاقتصادية والسياسية، فإلى جانب المجاعة التي عمّت البلاد وأدت إلى موت آلاف من أبناء الشعب، فقد كانت سيطرة الجيش على مفاصل الدولة بالكامل تمنعه من التحرك بحرية، ومن هنا جاء قرار تصفية عمه الجنرال الأقوى في الدولة بعد والده.

لقد وجهت إليه تهمة الخيانة العظمى، على غير عادة القادة الكوريين عندما يريدون التخلُّص من منافسيهم، فيختلقون أسباباً واهية لموتهم مثل حوادث السير أو المرض، ولم يكتفِ الزعيم بذلك بل راح يُبعد تدريجيا كل طاقم الحرس القديم، ويعزز سلطته بالقوة وباستخدام أساليب الترهيب والتخويف إلى درجة منح نفسه مرتبة جنرال في الجيش، مع أنه لم يدرس يوما في كلية عسكرية، ولم يوكل إليه منصب عسكري من قبل.

رهان الزراعة والتعليم والدمار الشامل.. رؤية باني الدولة الحديثة

لقد أنست “كيم” مغرياتُ السلطة وحب امتلاكها ما تعلمه في المدارس السويسرية، ويتوقف الوثائقي كثيرا عند الازدواجية الظاهرة في سلوكه، وفي طريقة حكمه، وعليها يقدم تفسيراته حول أسباب تشدده حيال الغرب والجنوب ورغبته غير المحدودة في الحصول على أسلحة دمار شامل.

ومن بحثه المعمق في طبيعة تكوينه النفسي والثقافي يقترب الوثائقي من تقديم صورة مختلفة عن الأخرى الشائعة عنه، ليكتسب بذلك صفة الطليعية والغور العميق في موضوع شديد الصعوبة والالتباس.

فمع كل قسوته مع منافسيه وصرامته في إدارته للبلاد، كان ميالاً إلى الظهور كشخص مختلف عن والده الذي أشاع الفقر والقمع في البلاد، وقدم مثالا سيئا للزعيم “كيم” الأول. لقد أراد أن يكون مثل جده محبوبا، صاحب رؤية واضحة لمستقبل بلاده، طموحا ومختلفا عنه في طريقة النظر إلى أعدائه الخارجين وأسلوب التعامل معهم.

صورة نادرة للزعيم كيم وهو طفل رفقة والدته

ابتعد “كيم” عن الملذّات الحسية، عكس والده ورجال عائلته المتورِّطين على الدوام بعلاقات عاطفية متشعبة سببت لهم مشاكل كثيرة، وأحدثت انقسامات داخل الدائرة الضيقة للحكم.

ولأنه تعلّم في سويسرا فقد راهن على التعليم كثيرا، وشجع الشباب على دراسة العلوم الإلكترونية والمعلوماتية الحديثة، كما اهتم بالتصنيع العسكري وبالزراعة التي خلصت البلاد من مجاعاتها، ووفرّت حياة أفضل للكوري من تلك التي كان يعيشها في ظل حكم والده، ثم راهن على المرأة وشجعها على الخروج من دائرتها الضيقة، متأثرا بدراسته طفلا في سويسرا، وتقرب من الناس وعاملهم بلطف.

في نفس الوقت أدرك جيدا أن الغرب لن يعامله باحترام أبدا، إذا لم يظهر قوة وعزيمة تجبره على التعاطي معه باعتباره طرفا قويا وصعبا في معادلة شبه الجزيرة الكورية التي تتعمد فيها غريمته الجنوبية الظهور للعالم، وكأنها الطرف الوحيد المهدد بالدمار والزوال.

ولإكمال رحلته الكورية كان لا بد له من التوقف في جزئها الجنوبي ونقل رؤية نظامه إلى الشمال الشيوعي.

كوريا الجنوبية.. مواقف متباينة من الجار النووي

يتميز الفيلم عن التقارير التلفزيونية بأسلوبه السينمائي، واعتماده على الصورة بالدرجة الأولى، وأخذ القليل من الكلام للبناء عليه دراميا، وهذا ما ظهر جليا أثناء التصوير في جنوب البلاد، بسبب الحرية المتاحة له في التنقل والتصوير قرب الحدود الفاصلة بينهما.

لم يظهر الجنوبيون موقفا موحدا ضد جيرانهم الشماليين، بل الغريب أن أكثريتهم كانوا مع حل الخلافات بالطرق السلمية، وتشجيع القائد الشاب على المضي في سياسته الإصلاحية، وتطوير البنى التحتية لبلاده التي عانت بسبب الحصار من مجاعات عزّزت الروح العدائية ضدهم، باعتبارهم كانوا وما زالوا المفضلين عند الغرب، والمنعمين باقتصاد حر ونمو صناعي أغلبية الأسواق العالمية مفتوحة لاستقبال بضاعتها.

يقدم المتحدثون في محاججاتهم النموذج الصيني مثالا، فعلى الرغم من اختلاف قيمها الفكرية مع الغرب فإن لها طريقا رأسماليا خاصا. يتلقف صاحب الوثائقي “أنتوني دوفور” هذه الإشارة، فيعود إلى ذخيرته وعدّته التسجيلية، ليتأكد ما إذا كانت إصلاحات القائد الشاب لها علاقة بتوجّه الصين؟

سياسة الانفتاح.. طبخ المستقبل على نار هادئة

يتأكد الفيلم من مقربين للحكم طلبوا عدم الظهور في الفيلم بأن الزعيم “كيم جونغ أون” متأثر حقا بالتجربة الصينية، ويريد تطبيقها في بلاده، وما يمنعه من إعلان ذلك التوجه والتثقيف به هو خوفه من “الحرس القديم”، ومن أجيال تربّت على ثقافة العداء للغرب وقيمه الفكرية، بينما كل المؤشرات تدل على أن سياسة “كيم” الثالث العملية ما هي إلا تمهيد حقيقي لنقل اقتصاد البلاد من الاشتراكي إلى الرأسمالي التدريجي، ويدللون على ذلك بانفتاح سوقه السياحي في الآونة الأخيرة، وسماحه للطلاب الكوريين بالدراسة في الجامعات الأمريكية والأوروبية.

في هذه الحالة، وإذا قبلنا بما توصل إليه الوثائقي الاستقصائي والتحليلي؛ فإن انفراجا محتملا سيظهر في النهاية، وربما سيخف عداء الجارتين مع ازدياد حجم المصالح بينهما مستقبلا، ومع استعداد الغرب البراغماتي للتلاؤم مع الوقائع الجديدة على الأرض.

ولكي يُدعِّم قناعاته ويقوِّي استنتاجاته يرجع الفيلم إلى الوراء إلى مفتتحه في بيرن، حيث أولاد الزعيم الشمالي يلعبون مع أقرانهم السويسريين في مدارسهم، وكأن كل الحروب الكلامية المعلنة تخفي تحتها استعدادا لنسيان خلافاتهما القديمة، والشروع ببناء علاقات ومنافع مشتركة جديدة، كما فعلت الصين من قبل.


إعلان