“نار في البحر” .. الحاصل على الدب الذهبي

أمير العمري

 

منذ أن عُرض فيلم “نار في البحر” للمخرج الإيطالي “جيانفرانكو روزي” في الدورة الـ 66 لمهرجان برلين السينمائي، والأنظار كلها تتجّه نحوه وتوقعّات فوزه بإحدى الجوائز الرئيسية مرتفعة. وقد حصل بالفعل على أرفع جائزة يمنحها المهرجان وهي جائزة “الدب الذهبي”. لاشك في تميُّز الفيلم فنيا، وجماله الخاص، وجرأة تصوير الكثير من مشاهده، وقدرة مخرجه على التجسيد الواقعي التلقائي للشخصيات والأحداث التي يرصدها بكاميراه ويصوِّرها. ولاشك كذلك في أن الفيلم يتميز كثيرا على الفيلم السابق لروزي “الطريق المقدّس حول روما” الحاصل على “الأسد الذهبي” في مهرجان فينيسيا قبل عامين، وهي جائزة لم يكن يستحقها.

 

غير أن العنصر الأهم الذي يجعل من فيلم “نار في البحر” Fire at Sea عملا يستقطب كل هذا الاهتمام ويحظى بالتقدير، كونه الفيلم الوثائقي الأوروبي الأول الذي يخصص موضوعه لاكتشاف أو بالأحرى- للكشف- عن واقع “قوارب الموت” أو أولئك اللاجئين الذين يفرون من القارة الإفريقية عبر الساحل الليبي بواسطة تلك القوارب البدائية، يعبرون المتوسط في ظروف قاسية، يقصدون جزيرة لامبيدوزا الإيطالية وهي أقرب نقطة يمكنهم الوصول إليها تمهيدا لدخول أوروبا نفسها.

المعلومات التي تظهر على الشاشة في بداية الفيلم تخبرنا بأن أكثر من 400 ألف مهاجر غير شرعي ركبوا تلك القوارب قاصدين لامبيدوزا خلال العشرين عاما الأخيرة، مات منهم غرقا نحو 15 ألف شخص. وهي معلومات صادمة لأنها لم تُغيِّر من واقع الأمر شيئا، فمازالت لامبيدوزا تستقبل سنويا أكثر من 150 ألف لاجئ، معظمهم فارّين من جحيم الحروب الأهلية والصراعات العرقية والدينية في بلادهم، بينما تغرق أعداد كبيرة أخرى.

لا يعالج جيانفرانكو موضوع الفيلم القاتم، المثير للاضطراب، بأسلوب الجريدة السينمائية أو التحقيق التليفزيوني، بل يلجأ إلى البناء الشعري، الذي يصنع من خلاله مقاربات تدعو للتأمُّل، بين البشر من سكان الجزيرة من جهة، واللاجئين الغرباء الذين ليس من الممكن اعتبارهم مجرد “ضيوف” عابرين من جهة أخرى، أو تجاهل وجودهم.

 

كان المخرج جيانفرانكو قد شرع في إخراج فيلم تسجيلي عن موضوع اللاجئين في عشرة دقائق، ثم وجد نفسه “متورِّطا” في الموضوع فكان أن قضى عاما كاملا في الجزيرة وأنجز هذا الفيلم الذي يقرب من ساعتين. ومن أولى لقطات الفيلم نرى أنه يريد أن يصنع تقابلا بين ما نطلق عليه مسارات وشخوص “الحياة العادية” للسكان ومعظمهم من أسر الصيادين، وبين الحالة المزرية للاجئين من جهة أخرى. الشخصية المحورية في فيلمه طفل في التاسعة من عمره يدعى “صامويل” لا يصبح كما نتوقع دليلا لاكتشاف حالة هؤلاء الغرباء القادمين، بل وسيلة لجرّنا بعيدا معه في مغامراته وعبثه ولهوه، وولعه بالسؤال عن كل ما يخطر وما لا يخطر على البال، باستثناء أمر واحد فقط هو موضوع هؤلاء اللاجئين.

 

والد صامويل غائب في البحر معظم الوقت، والفتى يعيش مع جدته التي تطهو الطعام باستمرار في المطبخ دون أن تأبه كثيرا لما يبثّه  التليفزيون من أخبار عن غرق قارب أو أكثر من قوارب اللاجئين قرب الجزيرة، والطفل مشغول تارة بتقطيع النباتات الشوكية أو تصويب النبال إليها وقصفها بالأحجار الصغيرة، أو ركوب دراجة نارية مع صديق له والسير بصعوبة بالغة فوق الصخور الناتئة، أو تسلق الأشجار والعيش في أوهام البطولة في حين أنه يشعر بالغثيان من مياه البحر التي يخشاها لأنه لا يعرف السباحة رغم أن مصيره الذي لا مفر منه عندما يكبر، سيكون غالبا “ركوب البحر” أي الاتحاق بمهنة أجداده!

صامويل إذن يعيش في عالمه الخاص. وفي مشهد من المشاهد المحورية في الفيلم يجلس الفتى على مائدة الطعام مع أبيه وجدته، يتناول الإسباغيتي الذي طهته له جدته بشراهة وبصوت مسموع ولكن دون أن يكفّ عن توجيه الأسئلة إلى أبيه.. بينما الأب والجدة أقرب إلى الصمت.. مع إجابات قصيرة مقتضبة أحيانا. هذه الرغبة المشتعلة دائما بحُبّ الاستطلاع تتناقض بالطبع مع مقاومة الفتى تعلُّم الإنجليزية في المدرسة، كما تتناقض مع جهله التام بما يحدث بالقرب منه على نفس بقعة الأرض المحدودة.

صامويل ليس وحده الذي يستأثر باهتمام المخرج، فلدينا أيضا مذيع الراديو الذي يستجيب لما يطلبه المستمعون من أغنيات منها تلك الأغنية الشهيرة “نار في البحر” التي يستمّد الفيلم عنوانه منها، ويجعلها رمزا لما سنراه في الثلث الأخير من الفيلم بشكل صادم. وهناك أيضا الغطاس الذي يبدي صامويل إعجابا كبيرا به ويطرح عليه عشرات الأسئلة عن طبيعة عمله وعلاقته بالبحر، ونراه بالفعل في لقطات يوزّعها المخرج على مدار الفيلم، أثناء قيامه بالغطس تحت الماء.

وهناك الطبيب الذي يروي للمخرج الكثير مما مرّ به خلال عمله، وما يفرضه عليه واجبه من تقديم العون للاجئين الذين يصلون في حالة سيئة للغاية. وفي مشهد طويل يخرج قليلا بالفيلم عن إيقاعه، يقوم الطبيب باستخدام جهاز “السونار” لفحص امرأة حامل في توأم من بين نساء اللاجئين الأفارقة، ويحاول جاهدا أن يجعلها تشاهد الطفلين داخل الرحم، ولكن دون أن يفلح ويظل يعتذر بأن الجنينين ملتصقين ببعضهما البعض. وسنعود لهذا الطبيب فيما بعد عندما تشتد الأزمة لكي نتعرف على علاقته المباشرة بالقادمين إلى الجزيرة، حيث تستعين به السلطات لتقديم الإسعافات الضرورية والتعامل مع حالات الجفاف الحادة التي تتسبب كما نرى أمام الكاميرا مباشرة، في وفاة الكثير من الأبرياء.

يجوب المخرج بالكاميرا البحر مع قوارب حراس السواحل وفرق الإنقاذ، يرصد ويسجل نداءات الاستغاثة الصادرة من رُكّاب القوارب الذين يصفون في رسائل صوتية مرعبة ما يحدث لهم وقت التصوير الفعلي، وكيف يواجهون مصيرهم غرقا في مياه البحر في تلك القوارب المكتظّة بأعداد تفوق قدرتها على الاستيعاب والتحمل.
وفي أحد المشاهد يستمع حارس السواحل لاستغاثة متكررة من ركاب القوارب، فيطلب منه تحديد موقع القارب، لكن صوت الرجل المصاب الهلع يُكرر فقط أنهم يغرقون، إلى أن يصمت في النهاية، فالنجدة لا تتوفر بالسرعة المطلوبة، وتبدو الجزيرة نفسها غير مؤهلّة لاستقبال تدفُّق اللاجئين، والمستشفى الوحيد هناك لا يحتوي على ما يلزم من أجهزة طبية وطاقات بشرية مؤهلة ومدربة يمكنها التعامل مع كل هذه الأعداد. ورغم ذلك يحاولون.

في مشهد مرعب يصوِّر المخرج وصول أجدد تلك القوارب المكتظة ويهبط فوقها بكاميرته لنرى جثثا متناثرة في القاع لمن فارقوا الحياة، ثم أشلاء بشر، وبقايا أشخاص يتمدّدون على الأرض بعد أن أصابهم الجفاف في مقتل، كما تسبب وجود الكثيرين منهم في الطابق الأسفل من القارب بالقرب من المحركات والزيوت الساخنة في احتراق جلودهم.
ونعرف أن هناك ثلاث طبقات للركاب حسب المبلغ الذين يدفعه كل منهم، من يُسمح لهم بالتواجد في أعلى القارب، ومن يجلسون في الطابق التالي، وأخيرا من يرغمونهم على الهبوط إلى القاع داخل غرفة المحركات في درجة حرارة مرتفعة وفي حالة خانقة.

 

يحتفل من نجوا منهم من الموت بالحياة، ينشدون الأغاني التي تُعبِّر عن التفاؤل والأمل، لكنهم يبدون أيضا رغبتهم في الانتقال من لامبيدوزا، ومغادرة المعسكر الذي تضعهم فيه السلطات.. ونراهم وهم يلعبون الكرة، يلهون بالسهر والحلم بالحرية في أوروبا.
ثم نراهم أثناء استجوابهم من جانب مسؤولي الإنقاذ، وإجاباتهم على عشرات الأسئلة حتى يمكن تصنيفهم وفرزهم والتعرُّف على دوافعهم للهجرة، ومعظمهم لا يعرفون كلمة واحدة من الإنجليزية أو من لغة البلد الذي أصبح موطنهم الجديد الآن.

 

كاميرا متمهلّة، موسيقى حذرة، لقطات متقاطعة ما بين الليل والنهار، وانتقالات في المكان. أحيانا تتوقف الكاميرا الساكنة طويلا أمام صامويل، ترصد كل ما يقوله وطريقته الخاصة في التعبير عن نفسه ولو بنوع من العدوانية الطبيعية لمن هم في مثل عمره، وأحيانا أخرى يركز المخرج على ما يمكن اعتباره نوعا من الاستطرادات، كما في حالة تصوير مشكلة إحدى عيني صامويل التي يُخبره الطبيب بأنها تعاني من “الكسل”، وينصحه بتغطية العين السليمة، لكي يدفع العين الكسولة إلى العمل وبالتالي تسترجع قدرتها على الإبصار بشكل طبيعي تدريجيا. ولكن لعل جيانفرانكو أراد ان يجعل “العين الكسولة” هنا مجازا للتعبير عن ضعف رؤية سكان لامبيدوزا لما يحدث على جزيرتهم.

لاشك أن “نار في البحر” ساهم في لفت الأنظار إلى المشكلة الأهم التي تواجه القارة الأوروبية والعالم في الوقت الحالي، رغم كل ما يشوب الفيلم من جوانب قصور أو عيوب. ولعل حصوله على الجائزة كان طبيعيا أيضا مع غياب “التحفة” السينمائية التي يتفق حولها الجميع.


إعلان