“جاي الزمان”.. بقاء الماضي

لقطة من فيلم "جاي الزمان"

رشا حسني

“أي دمعة حزن لا ..” تلك الأغنية الشهيرة التي غناها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ من كلمات الشاعر محمد حمزة وألحان بليغ حمدي، والتي استقت منها المخرجة دينا كريمة الشاعر الكبير محمد حمزة جملة “جاي الزمان” عنواناً لفيلمها الوثائقي.

الفيلم رحلة بحث ذاتية للمخرجة، رحلة بحث عن إجابة للتساؤل الذي أرّقها بعد وفاة والدتها ثم والدها وهو ما جدوى الحياة بعد رحيل من نحب؟ وبالرغم من أن التساؤل ذاتي والموقف أكثر ذاتية إلا أن الفيلم ليس فيلماً ذاتياً، فهو ليس فيلماً عن الشاعر محمد حمزة ولا عن عبد الحليم حافظ ولا حتى عن تعاونهما معاً ولكنه فيلم عن مشاعر يختبرها الكثير بعد رحيل أحبائهم،عن زمن لم يعشه  الكثيرون ولكنه شكل الكثير من وجدانهم فمن منا لم يتأثر لسماع أغنيات عبد الحليم حافظ، نجاة، شادية، وردة وصباح، فيلمعن مدي تأثير الفن بمختلف أشكاله وخاصة الأغنية في التعبير عن هموم الناس الإنسانية والنفسية أو حتى لرصد تغير مجتمعي ما مثل هجرة الكثير من المصريين خارج البلاد بعد هزيمة عام 1967، الفيلم عن رحيل زمن بتفاصيله مثل الإذاعة وتأثيرها ثقافيا، فنياً، معرفياً وترفيهياً علي الناس حتى ظهور التلفزيون، زمن قدم فيه شاعر بحجم وقيمة صلاح عبد الصبور يد المساعدة والتوجيه لصحفي وشاعر شاب يخطو أولي خطواته في عالم الشعر.

استهلت دينا محمد حمزة فيلمها بمشهد تمثيلي لفتاة تنتحر حزناً علي رحيل عبد الحليم حافظ مع تساؤل تطرحه المخرجة “ما الذي يدفع إنسانا لإنهاء حياته بنفسه؟” وعبر أحداث الفيلم سنعرف أن المخرجة نفسها قد راودتها فكرة الانتحار ولو من خلال أحلامها وذلك بعد وفاة والدها ظناً منها بأن الحياة لا تستحق أن تُعاش بعد رحيل الأحبة ولكنها آثرت أن تتخذ منحى آخر للبحث عن إجابة لسؤالها وهو أن تصنع فيلماً وثائقياً تكتشف من خلاله علاقة من أحبت – والدها – بالحياة بالوطن، والزمن، أرادت أن تقترب من شخصيات عاشت نفس التجربة وعانتنفس المعاناة فتوجهت لميرفت صديقة العائلة التي حاولت الانتحار بعد وفاة عبد الحليم حافظ، ثم انخرطت دينا في جلسات علاج نفسي مع أشخاص مرّوا بتجارب مشابهة في محاولة دؤوبة للبحث عن معنى وقيمة للحياة.

واحدمن تعريفات الفيلم الوثائقي بأنه “تجسيد فني للواقع ” وهو النهج الذي نهجته دينا حمزة في  فيلمها لمحاولة تجسيد أفكارها ومشاعرها بطريقة فنية، فتخيرّت أنسب الوسائل الفنية لتحقيق ذلك التجسيد، ففي بداية الفيلم تعتمد المخرجة على الراديو أو الإذاعة كأداة هامة من أدوات السرد الفيلمي، فبالرغم من كون دينا هي المعلق الصوتي علي الفيلم إلا أنها آثرت أن تعطي الإذاعة أولوية التعريف بالشاعر محمد حمزة من خلال بث حلقة قدّمتها إذاعة الأغاني بمناسبة ذكرى رحيل الشاعر محمد حمزة والتي يتم فيها استعراض بعض المعلومات عنه وعن أغنياته دون أن تتدخل دينا، فقد تخيرت أكثر الوسائط ارتباطاً بوالدها وبزمانه لتعريف المشاهدين به وتقديمه لأول مرة في أحداث الفيلم، بالإضافة لتعاملها مع شريط الصوت الذي احتلّ مكانة مميزة علي مدار أحداث الفيلم حيث جعلته المخرجة أداة أخري من أدوات السرد الفيلمي، وتخيرت من بين 1200 أغنية كتبها والدها عدة مقاطع تتناسب مع طرحها لأفكارها والتعبير عنها، فنجدها تستعين بمقطع لنجاة تقول فيه “وبعتنا مع الطير المسافر” ثم تتغنى شادية بمقطع مؤثر من “خلاص مسافر” حينما كانت تستعرض تأثُّر والدها بموجة هجرة المصريين بعد هزيمة 1967، كما استعانت كثيراً “بالمزج” كوسيلة انتقال مونتاجية بين لقطات ومشاهد الفيلم في أكثر من موضع لإحداثها نوعا من أنواع التداخل ما بين الماضي والحاضر، فالماضي قد مضى زمنياً ولكنه باقٍ بتأثيره.

أولت المخرجة دينا حمزة اهتماماً بالغاً بتكوين اللقطات وهو أمر غير معتاد في كثير من الأفلام الوثائقية، ولكنه في نفس الوقت ناسب الأسلوب الذي اختارته المخرجة منذ البداية لتقديم فيلمها، فقد بدأت فيلمها الوثائقي بمشهد تمثيلي في محاولة صريحة للتقريب ما بين الروائي والتسجيلي وتضمين التسجيلي كثيراً من العناصر المُميزة للعمل الروائي أهمها التمثيل، كما اعتمدت في سرد الفيلم علي مجموعة من الشخصيات (دعاء محمد حمزة- أحمد محمد حمزة – ميرفت صديقة العائلة) التي تحكي حكاياتها الشخصية التي تتماسّ من قريب أو من بعيد مع مضمون العمل وهو كيف يتعامل الإنسان مع الزمن، مع الفقد، مع الوحدة والألم.

كثّفت المخرجة استخدام اللقطات القريبة للتركيز علي التفاصيل الدقيقة المكوِّنة للصورة العامة مثل تركيزها علي متعلقات والدها كالراديو الخاص به، نظاراته الطبية، مكتبه الخاص وما يحتويه من اسطوانات أو شرائط كاسيت ومجلات قديمة، كما اعتمدت نفس الأسلوب عند تصوير البشر أيضاً حتى أثناء تواجدهم في أماكن مفتوحة فأثناء سيرها مع أختها دعاء في حديقة مفتوحة نجد معظم لقطاتها قريبة ومتوسطة للتركيز فقط علي عينيها وتعبيرات وجهها خصوصاً أثناء حديثها عن والدها وتجربتها مع فقده، نفس الأمر مع أخيها أحمد بالرغم من وجوده داخل ملعب كرة قدم إلا أنها تركز فقط علي عينيه وما تنطقان به أكثر ما ينطق به لسانه.

قد يظن البعض أن الفيلم هو مجرد حالة شجية لاستدعاء زمن مضى برجاله وفنه وأحداثه ما يضفي كثيراً من الحزن الذي يتلاءم مع حالة الشجن، وبالرغم من محاولة دينا تعميق إحساسها بفقد والدتها ووالدها من خلال تكرارها لعرض حفلات أعياد ميلادها وأخواتها وذلك الزخم الاجتماعي، الفني والثقافي الذي ملأ مسكنها حياةً وبريقاً، ثم عرضها لنفس الأماكن الخاوية المُظلمة الكئيبة، إلا أنها وكنتيجة لرحلة البحث وجدت أن الحاضر ليس كله قبيح مع التركيز علي بعض نقاط الأمل مثل قيام ثورة “25 يناير” وما حملته من أحلام وآمال طموحة في الغد حتى وإن لم تتحقق، بالإضافة لوجود “فاطمة “ابنة دعاء محمد حمزة والتي ولدت بعد الذكري الأول لرحيل الشاعر محمد حمزة في تعبير قدري قوي عن أن الحياة لابد وأن تستمر وما الموت إلا حلقة من حلقات مسلسل الحياة.

بدأت المخرجة فيلمها بتساؤل ثم مضت في عرض أحداث لها علاقة بتجربتها الشخصية وتجارب شخصية مُشابهة، ثم خرجت بنا من الخاص إلي العام حينما ربطت تلك التجارب بزمن مضى ولكنه باقٍ بتأثيره حيث خلُصنا إلى نتيجة في نهاية الفيلم بأن ما يبقى من أحبائنا بعد رحيلهم هو تأثيرهم علينا من خلال بصماتهم علي الزمن الذي عايشوه، فلقد ذكر الكاتب الصحفي رشاد كامل في معرض حديثه عن حمزة وزمانه بأنه “أعاد صياغة الوجدان المصري بكلماته”، وأننا من الممكن أن نظل معهم من خلال اقتفاء آثارهم ومن خلال وضع بصماتنا الخاصة علي الزمن الذي نحياه، فمن يترك أثر لا يموت.

أكثر ما يُميز فيلم جاي الزمان للمخرجة دينا حمزة هو أنه محاولة جادة لتجسيد كيفية تعامل الإنسان مع واقعه ومحاولة الوصول لسبل تعايش سوية مع ذلك الواقع حتى وإن كان يرفضه من خلال رحلة بحث واكتشاف للذات والآخرين والزمن.


إعلان