في العلاقة الصعبة والمثيرة بين المخرج والممثل

محمد رُضــا

Brando مارلون براندو في «العراب»

الأمثلة كثيرة جداً ورغم ذلك فإن ملاحظة هذا الواقع ما زالت غير مطروقة جيداً أو على النحو الشامل والمعمّـق الذي تحتاجه.

بعض السبب في أن نقاد السينما والمهتمين عادة ما يهتمون بالممثل في الدور الرئيس إذا ما كان الفيلم مهمّاً على صعيد أو آخر. الحال الراهنة تكمن في فيلم «المنبعث» لأليخاندرو غونزاليس إيناريتو الذي يقود ليوناردو ديكابريو بطولته. حقيقة أن الممثل أم الدور بتجسيد بدني مرهق وفي ظروف جوية وجغرافية شاقة، جعلاه موضع ذكر في مراجعة معظم الذين كتبوا عن الفيلم وتعليق العديد من القراء والمتابعين.

يُـضاف إلى ذلك حقيقة أن الفيلم دخل ترشيحات الجوائز الأخيرة (من البافتا البريطانية إلى الأوسكار مروراً بالغولدن غلوبس وسواها) وأن ديكابريو فاز- خلال الموسم الماضي- بعدة جوائز عن ذلك الفيلم، عزز هذا الحضور للممثل في الواجهة الجادة من الكتابة.

لكن القليل، إن لم النادر، من تلك الإهتمامات انصبّـت على حقيقة أن الممثل يترك إنطباعاً على الشاشة وتأثيراً على الفيلم في معظم الأحوال بصرف النظر عن حديث الجوائز أو حتى قيمة الدور بحد ذاته.

فروقات كبيرة

النماذج كثيرة: هل كان فيلم حسين كمال «البوسطجي» (1968) سيكون هو نفسه لو أن ممثلاً آخر غير العبقري صلاح منصور قام بالدور الأول؟ وذلك المشهد قوي الحضور في فيلم يوسف شاهين «الأرض» (1970) عندما يمسك محمود المليجي تراب الأرض بينما يتم سحله… هل كان سيترك الإنطباع ذاته لو أن فريد شوقي (مثلاً) قام به؟ وماذا عن بطلتي «أحلام هند وكاميليا» (1988) عايدة رياض ونجلاء فتحي؟ كم كان الفيلم سيختلف لو أن ميرفت أمين ونادية لطفي، وهما ممثلتان جيدتان قطعاً، قامتا ببطولته؟

Bab Elhadid  هند رستم في «باب الحديد»

الأمثلة لا تنتهي بل تتمدد وتتوزع في اتجاهات كثيرة وذلك لأن موضع الممثل في الفيلم، حتى في معظم الأفلام الترفيهية البحتة، يحدد النتاج الواصل إلى المتلقي: عادل إمام سيضع أمام الناظر إليه فيلماً يختلف عما لو أن محمد صبحي قام بالدور، وهند رستم ليست تحية كاريوكا رغم أنهما تشاركتا بنوعية معيّـنة من الأفلام بحيث أن هند رستم كانت ستنجح في دور المعلّـمة الهائمة شغفاً بشكري سرحان في «شباب امرأة» (صلاح أبوسيف، 1956)  كما فعلت تحية كاريوكا والغالب أن كاريوكا كانت ستنجح أيضاً في تقديم الشخصية التي لعبتها هند رستم في «باب الحديد» (يوسف شاهين، 1958)

على ذلك، فإن الفروقات كبيرة للغاية حين يتم وضع المنتج السينمائي تحت المجهر وتزداد تلك الفروقات أهمية كلما ارتفع الفيلم في مستواه وفي جدّيته كون الممثل دائماً ما عليه أن يفسّـر الشخصية وسلوكياتها في الوقت الذي هو تجسيد لشخصه هو. لذلك، وكمقدمة لعدة نماذج، لا يمكن تصوّر فيلم إيليا كازان On the Waterfront  «على رصيف الميناء» (1954) من دون أداء مارلون براندو فيه إلا بتغيير يصيب مستوى الدراما ذاتها. الحال ذاته في «العراب» لو أن المخرج فرانسيس فورد كوبولا اختار ممثلاً جيّـداً آخر (لنقل أنطوني كوين) في الدور الذي أداه مارلون براندو.

أما وقد أسسنا، كما سبق، لنوع البحث المطروح فإن الأساس الآن هو تطوير هذا المعطى وتحديد أسبابه بدءاً من الإجابة على السبب الذي من أجله ينضوي الفيلم تحت بصمة الممثل حتى ولو كانت بصمة المخرج هي الطاغية وهي التي تقف وراء إجادة الممثل في الدور كما في معظم الأمثلة الواردة أعلاه.

أسئلة

في حالات كثيرة هي لعبة موازين خفية أضعها أمام القارئ على النحو التالي:

في ميدان صنع الفيلم هناك المخرج مديراً ومنفّذاً ومسؤولاً أولاً لكل شيء. في الملعب ذاته ينتشر مدير الكاتب والتصوير ومصمم المناظر والإنتاج ومسؤول الإنتاج نفسه. كل يوفر جانباً معيّـناً من العمل مرتبطاً بعلاقتين. علاقة مع المخرج وعلاقة مع الممثل. بالإضافة إلى ذلك هناك الرابط المباشر بين المخرج والممثل سواء أكانت إيجابية وفي أفضل حالاتها، أو أسوئها. في النهاية هناك الممثل نفسه. الأمور كلها من الكتابة (دراما وحوار) إلى التصوير (زوايا وأحجام لقطات وإضاءة) إلى تصاميم إنتاجية (التي توفر الواقع الدائر داخل الفيلم تبعاً لنوعه والمطلوب منه) هذه وغيرها مرصوفة للعناية بالممثل طالما هو في الصورة. في المشاهد التي لا علاقة للممثل أو مجموعة الممثلين بها، كمشاهد من طائرة عالية أو كمشاهد جموع في فيلم تاريخي أو كمشهد شوارع مكتظة، تختفي تلك العناية الفردية ولو أنها تستبدل بعناية تقنية في معظم مكوّناتها.

الند الأقوى للممثل في العمل هو المخرج وهو أول من يفهم مسألتين أو ثلاثا قد لا يدركها الممثل نفسه: 

•  لماذا هذا الممثل بالتحديد؟

•  ما الذي سيضفيه على الفيلم؟

•  كيف يمكن استخدامه؟

بالنسبة لألفريد هيتشكوك فإن عبارته التي تردد أنه قالها (وهناك قدر من الشك حول ذلك) بأن الممثلين هم قطعان ماشية، فإن هذه الأسئلة مهمّـة جداً كما عند مخرج يقدّس الممثلين مثل الفرنسي فرانسوا تروفو أو الأميركي إيليا كازان. فرانسوا من زاوية رغبته في إيصال النسبة الصحيحة من العاطفة إلى مشاهديه، وكازان من زاوية تعامله المسبق مع الممثل كبطل مسرحي (والدخول في الفرق بين التمثيل للمسرح والتمثيل للسينما أكبر من أن يتم استيعابه هنا ولو أن أورسون ويلز رد على سؤال وجه إليه ذات مرّة حول ذلك الفرق بكلمتين: لا فرق).

لكن هيتشكوك، حتى وإن قال إن الممثلين هم قطعان ماشية، فإن ذلك ليس إلا بالتلاؤم مع الكيفية التي يحقق فيها أفلامه، فهو أيضاً قال: “لا شيء يجب أن يتدخل خلال عرض الفيلم بين المشاهد والفيلم نفسه”. بذلك استبعد، وعلى عكس الكثير من المخرجين خصوصاً في سينما هذه الأيام، أي ظهور فوق الحاجة لمدير التصوير أو للموسيقى أو للممثل. على كل هؤلاء، وعلى المخرج نفسه، أن يغزل واجبه ودوره حيال الفيلم على نحو يتلاءم مع العمل السينمائي تماماً كما على لاعب بيانو أو ساكسفون التمازج والإنضواء ضمن مجموعة العازفين من دون نشاز. 

على ذلك، لا خطأ مطلقاً في اعتبار أن أداء بعض الممثلين الذين وقفوا تحت إدارته علا على أدائهم تحت إدارة أي مخرج آخر أو، في أفضل الحالات، ساواه: هذا ينطبق على جيمس ستيوارت في «الحبل» (1948) و«نافذة خلفية» (1956) و«الرجل الذي عرف أكثر من اللازم» (1956) و«فرتيغو» (1958) كما على كاري غرانت في «شمال شمالي غرب» (1959) وراي ميلاند في «در قرص م للجرمية» (1954) كما رود تايلور في «الطيور» (1963).

Vertigo جيمس ستيوارت معلقاً في «فرتيغو»

من مخرج لآخر

ما يربط هؤلاء طبعاً أنهم عملوا تحت إدارة خبير مثل هيتشكوك، لكن لهذا العمل جانب آخر مهم وهو أنهم أدّوا، تبعاً لتلك العلاقة، بعض أفضل أدوارهم على الشاشة. هذا الناتج هو مزيج من الشخصية الخاصّة بكل منهم وبالإدارة التنفيذية للمخرج نفسه. وهذا النوع من النتاج ماثل أكثر من سواه في «فرتيغو» حيث جيمس ستيوارت (في سن الخمسين من العمر آنذاك) في التجسيد الصحيح لشخصية رجل تخطى منتصف العمر بلا قرار. يحمل شخصية ضعيفة إزاء عاصفة عاطفية كونه لم يكن (ومن دون لقطة فلاشباك واحدة) قد غمر تجارب مهمّـة عاطفية أو من أي نوع آخر. إنه رجل معلّـق طيلة حياته كما في مطلع الفيلم عندما تعلق بحافة السقف خوف السقوط. لم يسقط لكن دواعي سقوطه لاحقاً تكررت عندما داهمت عالمه الهش امرأة جذبته.

ما يمكن أن يُـقال عن هؤلاء الممثلين يُـقال أيضاً عن تلك السلسلة من الأفلام التي لعبها روبرت دينيرو تحت إدارة مارتن سكورسيزي وتلك التي لعبها ليوناردو دي كابريو تحت إدارة المخرج ذاته.  كلاهما ارتبط بفنان سينمائي يغرف من تجارب وتاريخ السينما ما يكتنزه من معرفة. 

على الرغم من التعامل المستطرد سابقاً بين دينيرو وسكورسيزي وبين التعامل الماثل بين ديكابريو وسكورسيزي إلا أن الناتج ليس بالمستوى نفسه حين مقارنته بالعلاقة الفنية التي قامت بين براندو وكازان أو براندو وكوبولا أو جون واين وجون فورد. وهي في مظاهرها التامة تختلف عن تلك التي من خلالها تعامل هيتشكوك مع معظم ممثليه. 

الفاصل هو أن لبعض المخرجين فكرة أخرى غير مكتوبة في السيناريو ولا ينص عليها أي عقد عمل يودعها من خلال قيامه بإسناد الدور لممثل معين. كل مخرج يتوخّـى من الممثل الذي يعتمد عليه، أحياناً أو دائماً، رغبة ما غالباً ما هي مشروطة بالإندماج بالدور على نحو مناسب مع النص والحكاية المسرودة. لكن فقط المخرج النافذ والمتمكن (كصلاح أبوسيف أو كمحمد خان حالياً أو مثل  إنغمار برغمان أو ألفريد هيتشكوك أو فديريكو فيلليني في أزمنتهم) هو الذي يتوسم دوراً إضافياً من الممثل لا يستطيع أحد أن يوفره هو نفسه. كأحمد زكي في «مستر كاراتيه» أو محمود حميدة في «فارس المدينة».

المخرج الذي يستغني عن كل هذا المعين مما توفره العلاقة الفنية المنسوجة بينه وبين الممثل هو على مستويين: مخرج يكترث لسرد حكاية بصرف النظر عمن يمثلها رغم أن من يمثلها سيملك بصمة ما عليها أو مخرج لديه أسلوب عمل مختلف تماماً عن السائد لدرجة إن أي ممثل في سن معين يمكن أن يؤدي الدور لأن التأكيد على التمثيل هو في أدنى متطلبات واهتمامات المخرج كما الحال مع الفرنسيين إريك رومير و-خصوصاً- روبير بريسون.


إعلان