“العاصفة العربية” .. نهاية الربيع

 
محمد موسى

 

بموازاة التغطيات الهولندية الإخبارية المتواصلة لأحداث الشرق الأوسط، والتي تأتي دائماً قاتمة ومتشائمة، عُرضت في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، حلقات البرنامج التسجيلي الهولندي “العاصفة العربية” على شاشة القناة الحكومية الثانية للبلد الأوروبي. الأمر الذي يبدو أنه لم يُشجِّع هولنديين كُثِّر على المتابعة، وكما بينّت إحصاءات أرقام المشاهدة، إذ إن الخلاصات التي وصل إليها البرنامج الضخم الإنتاج والذي يُحقِّق في مآلات “الربيع العربي”، لم تعد غافلة على أحد في البلد الأوروبي الصغير أو في القارة كلها، فأزمة اللاجئين المتواصلة هي إحدى التداعيات المأساوية لما بدا قبل خمس سنوات، بأنه فاتحة لتغييرات عاصفة ستقوِّض النظم القائمة في الشرق الأوسط في مقدمة لبناء عالم جديد مختلف.

 

يطلق البرنامج الهولندي على ما يحصل في المنطقة العربية اليوم “العاصفة”، ويحاول أن يُحلِّل الوقائع في سياقاتها التاريخية والاجتماعية، ويسأل بجزع أحياناً عن الظروف التي حولّت “الحماس” و”البشارات” التي هيمنت على المنطقة وقتها إلى كوارث، دمرّت بلدانا وحواضر عربية كبيرة، وشردّت سكانها في بقاع الأرض المُختلفة.
يقود الرحلة التسجيلية صحفي هولندي من أصول تركية مسلمة اسمه “سنان كان”، والذي برز العام الفائت عندما قام مع زميل آخر له برحلة تسجيلية تلفزيونية مُماثلة للتحقيق بموضوع المذابح الأرمنية في تركيا وبمناسبة قرن على وقوعها. وكحال البرنامج السابق، يكاد “العاصفة العربية” أن يكون فيلماً تسجيلياً طويلاً قُسِمَّ على ثلاث حلقات، ذلك أنه يلتزم بسردية ومسار واضحين دون انتقالات أسلوبية وشكلية كبيرة، تهز الصياغة الخاصة التي ابتكرها، وكما يحدث أحياناً في البرامج التلفزيونية التسجيلية. يسير المقدم في الحلقات الثلاث على خط يقتفي أثر الثورات العربية، فينطلق من تونس إلى ليبيا فمصر، ثم يتجّه بعدها إلى سوريا والعراق، مارّاً بلبنان وتركيا، الدولتين اللتين تستضيفان اليوم ملايين اللاجئين السوريين.

يصل البرنامج إلى المنطقة العربية وهي غارقة باليأس والدماء، فالرحلة التي بدأت في تونس، تكشف عن هموم الكثير من الشباب التونسي، وكيف أن الهجرة إلى أوروبا أو الالتحاق بداعش أو غيرها من المنظمات المتطرّفة، هما خياران يكادان يكونان وحيدين في واقع مُعتم تماماً. يجلس المقدم الهولندي مع شباب تونسيين عاطلين عن العمل في أحد المقاهي على الطريق. يَحلُّم كل من كان في الجلسة بالسفر، ويبدو الجميع وكأنه فقد الأمل تماماً في حياة سويّة في بلده. يعثر الفيلم التسجيلي الهولندي الذي ضايقته السلطات الأمنية التونسية، على خط ينقله إلى المحطة التالية في الرحلة، فإحدى العوائل التونسية التي قابلها فقدت ابنا لها في القتال في ليبيا التي يتوجّه إليها اليوم توانسة كثر، عندها يقرر الفيلم تتبّع الطريق البري الذي أخذه على الأرجح الشاب التونسي ذاك في رحلته إلى ليبيا.

لا تختلف ليبيا التي تظهر في الفيلم عن صورتها التي نراها على الشاشات التلفزيونية منذ سنوات: فوضى عارمة وعنف يتصاعد حدّته. يبقى الفيلم في المساحات التي تسيطر عليها أمنياً السلطات الحكومية، ويعرض ظروف احتجاز مئات من المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين إلى البلد. لكنه لن يجد بينهم جهاديين توانسة أو مسلمين. عندها يُقرّر المقدم التقدم باتجاه الجنوب الليبي وحتى الحدود الأخيرة مع مناطق تنظيم داعش. ليعود بعدها ويعرض مشاهد من العاصمة الليبية طرابلس، لقصر القذافي، ومن وقفته الأخيرة وهو يخاطب “الشعب”. والتي لم تحمل الجديد المهم، عدا مجموعة المشاهد التي صورّت اللقاء العام للقوى الأمنية الليبية، والحراك المتواصل هناك لوضع البلد على سكة الأمن والاستقرار.

وإذا كان الخوف من الحركات المتطرفة شَكَّل أحد هواجس فريق الفيلم، فان إغضاب السلطات الرسمية في الدول التي زارها كان الهاجس الآخر. هذا الأمر يتضّح جلياً في مصر، البلد الذي يضيق اليوم كثيراً على الصحافة الأجنبية، فتعثر الفيلم في محاولاته إيجاد شخص من المتعاطفين مع الإخوان المسلمين، في مسعاه لتسليط الضوء على القمع الذي تعيشه الحركة وموالوها في مصر في العامين الأخيرين. في النهاية، يعثر الفيلم على شاب يوافق على الحديث، لكن اضطّر الفيلم للانتقال إلى شوارع فرعية والتصوير في الخفاء. على خلاف المشاهد التي صور الفيلم فيها حوارات مع متعاطفين مع الرئيس السيسي، والتي أُنجزت بدون مضايقات. وفي محاولاته لفهم التطرف الذي يغلف التأويلات العصرية للإسلام، يزور الفيلم الجامع الأزهر ويلتقي بأحد شيوخه، لكن المقابلة اختنقت بالخطاب الرسمي للضيف، والعيون العديدة التي كانت تراقب الفريق الفنيّ الهولندي.

رؤوس مقطوعة على هواتف المراهقين..!

يدور الفيلم جغرافيا حول سوريا قبل أن يدخلها، فيزور تركيا التي يصل إليها يومياً هاربون من العنف هناك، ويقابل عائلة يعرض ابنها المراهق صورا التقطها بهاتفه لرأس فتاة من جيرانه لم تتعدّ العاشرة قتلتها “داعش” بسبب موقف أهلها من التنظيم. لم يعرض الفيلم الهولندي تلك الصور، لكن وجه الصحافي الهولندي الغاضب وهو يتصفحها، كان يشير لطبيعتها الوحشية المقززة. من تركيا سيدخل الفيلم إلى مدينة الحسكة السورية، ويصل إلى خطوط القتال الأمامية للحركة الكردية مع “داعش”. ومن هناك سيذهب الفيلم إلى لبنان ليُسجِّل شهادات لاجئين سوريين عن العنف في بلدهم، ليدخل بعدها في خطوة مفاجئة إلى دمشق، المدينة التي لا تفتح أبوابها بيسر للصحافة الأجنبية.

 

في دمشق، يقابل البرنامج معلمة سورية هربت من الغوطة الشرقية بعد أن أصدرت جبهة النصرة أمراً بجلدها، لكنها، وبعد وصولها إلى العاصمة الدمشقية ستفقد ابناً لها في انفجار سببه قذيفة هاون، من التي تتساقط كل يوم على دمشق. يصف مقدم البرنامج العاصمة السورية المحاصرة تقريبا من جميع الجهات بأنها مدينة مختنقة. ويتمكن الفيلم من الوصول إلى واحدة من جبهات المدينة العديدة التي انحسرت عنها المعارك،ويتجول الصحافي الهولندي وسط حي من البنايات المهدمة بالكامل، في مشهد مؤثر، لا يختلف عن الصور الشهيرة للمدن الأوروبية إبّان الحرب العالمية الثانية.

 

تهيمن “داعش” على الجزء الخاص بالعراق، التي ستكون المحطة الأخيرة للبرنامج، إذ يُسمح للصحافي الهولندي أن يكون موجوداً أثناء التحقيق مع مجموعة من العراقيين المنضوين تحت التنظيم في المناطق الشمالية من البلد. يمنح العراقيون هؤلاء وجهاً لتنظيم يحيطه الغموض والألغاز. لكن التحقيق لن يقود إلى مفاجآت كبيرة، فالاعترافات جاءت متوقعة، إذ بدا أن كُثُر وجدوا في التنظيم فرصة للهروب من البطالة. في المقابل توفر شهادة القائد الكردي العراقي في مدينة كركوك نافذة مهمة على الحرب الدموية التي تجري اليوم بين “داعش” وأعدائه، فالقائد المحنك يعترف بأن قتال التنظيم أو هزيمته أمراً ليس بالهين أبداً، إذ إن من الصعوبة بمكان إيقاف مقاتلين تحت تأثير المخدرات الخطرة يتطلعون إلى الموت حسب قوله.

خواء وجزع

عانى البرنامج كثيراً من مناخ الخواء واليأس الذي بدا أنه يطبق على الناس في الدول العربية التي زارها. ولم ينجح فريق البرنامج في التفاعل السريع وتغيير الخطط لتقديم معالجات وصياغات جديدة مبدعة تخترق هذا الخواء واليأس. كما صَعَبَت السلطات في مصر وتونس، من مهمة البرنامج في البلدين، ولم يكن ممكنا لفريق البرنامج تخطي حدود جغرافية معينة في العراق وسوريا. لكن البرنامج لا يخلو من اللحظات المؤثرة التي جاءت بدون تخطيط أحياناً، فأثناء بحث البرنامج عن بيت مفجر “الربيع العربي” التونسي محمد البوعزيزي،  اكتشف أن أُمّه وأخته قد هاجرتا إلى كندا التي منحتهما اللجوء الإنساني. لكن العائلة التي تسكن اليوم في البيت مازالت تحتفظ بأغراض محمد في واحدة من غرفه. سيجلس الصحافي الهولندي في مشهد بليغ بين أغراض البوعزيزي متأملاً بحزن من حوله. إذ إن ما آل إليه حال عائلة شهيد “الربيع العربي” الأول، هو بدوره مثال بليغ لما وصلت إليه الثورات العربية.


إعلان