“هواجس الممثِّل المُنفرد بنفسه”
عبد الكريم قادري
بمجرد الانتهاء من مشاهدة الفيلم الوثائقي الجزائري الطويل “هواجس الممثل المنفرد بنفسه” لمخرجه حميد بن عمره، حتى تُسيطر عليك جملة من هذه الهواجس، سواء تلك التي طرحها العمل في متنه بشكل مباشر، أو المُستخلصة من الدلالات والرموز كمعاني عميقة، من هنا نكتشف بأن المخرج مُغامر ويمتلك شغف الاكتشاف، لأنه أراد أن يخلق لنفسه خطة عمل مميزة، وغير كلاسيكية، سواء على مستوى الشكل، الذي جاء مُراوغا للعادي، يتقدّم ويتأخر برشاقة، هجومي ومُسالم، ظاهر وباطن، غير مستسلم لما تعود عليه المُشاهد، إذ أنه يتحرّك في كل الجهات دون عقدة أو شعور بالحيرة، يتنقّل للماضي بلونيه الأبيض والأسود، والحاضر بمشاكله ورهاناته، والمستقبل بغموضه و”فوبياه”، وكأن الكاميرا تحولت ليدّ ثالثة للمخرج حميد بن عمره، وجزء من جسده، يُسيِّرها ويتلاعب بها كيفما يشاء، خدمة لرسالته وأهدافه.
أما “الثيمة” التي اشتغل عليها، والتي بُنيّ على أساسها الفيلم فهي مُلخصّة بعمق في العنوان، “هواجس الممثِّل المُنفرد بنفسه”، هذا الممثل الذي تم استغلاله جماليا، كي ينقل مشاكل السينما والمسرح والفن على العموم، وهواجس الممثل المسرحي محمد أدار، التي تشظّت وشملت هواجس كل الممثلين العرب، الذين يعيشون ويتعايشون في واقع مزيف ومُرّ، لا يؤمن بالفن كضرورة حياتية روحية، بقدر ما يؤمن به كـ”برستيج”، على الأقل حاليا.
في البدء كانت المشكلة
بكثير من الشاعرية نقل الفيلم، أحلام وكوابيس الممثل المسرحي الجزائري المُخضرم محمد أدار، الذي عايش العديد من الأجيال المسرحية، كممثل، ومخرج، ومواطن عادي، وقد اعتمد المخرج بن عمره في هذا على تصوير مشاهد تمثيلية تجريدية حية لهذا الرجل الفنان، في العديد من المناطق والفضاءات الموحية، وقد كانت غنية بالدلالات السيميولوجية، المعبرة عن لحظات البوح، حيث يمكن للمشاهد أن يرى أدار وهو يناجي واقعا ما في أحد أعماله المسرحية، أو التمثيلية وحتى الاستقصائية، لينتقل بعدها المخرج إلى المشهد التمثيلي الرمزي لهذا البوح، إذ نجد مثلا امرأة ترتدي برنوسا (أدت الدور ستيفاني بن عمره)، تمتطي حصانا على شاطي البحر أو في حديقة ما، أو طفلة صغيرة ترتدي هي الأخرى برنوسا أحمر اللونة (أدّت الدور هناء بن عمره)، هذا المشهد مثلا يجعلنا نرحل إلى التراث الأدبي العالمي، إلى نهاية القرن السابع عشر، حيث انتشرت قصة “ذات القبعة الحمراء”، التي بقت خالدة في وجدان كل من قرأها إلى اليوم.
وتروي قصة الطفلة “ليلى” التي أمرتها أمها بأخذ الغداء لجدتها في الغابة، غير أن الذئب اعترض طريقها، واقترح عليها بأن تلعب معه، وحين رفضت اقترح عليها بأن تقطف بعض الزهور لجدتها، في حين سبقها إلى بيت الجدة والتهمها، وعندما دخلت الطفلة “ليلى” فزعت من المنظر، مع ذلك حاول أن يلتهمها أيضا، غير أن الحطّاب أنقذها، وهي من الأعمال التي تحمل دلالات عميقة حول البراءة والخداع والمكر، نقل المخرج هذه الرمزية عن طريق رداء أحمر، ولم يضطر لقول كل تلك الأشياء السلبية بشكل مباشر، بل على المشاهد أن يُفسرّها وحده، من خلال مرجعيته وثقافته، وهذا جزء بسيط من شحنة الرموز المتنوعة الحاضرة في الفيلم، لتكون رافدا من روافد الجمال والشاعرية.
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
تجارب في المسرح الجزائري
كما اعتمد المخرج على الأرشيف المسرحي المصور، حيث نقل من خلاله مقاطع مهمة، أبرزها تلك التي أخرجها أدار أو مثّل فيها أو كان جزء منها، وهي عبارة عن صيحات خالدة، أثثّت لمسار المسرح الجزائري، أخذ بن عمره جزء منها، وأدار كرجل مسرحي كبير يحيل إلى مسرحيات أخرى، مثل مسرحية “الخبزة” رفقة الممثل المغتال عبد القادر علولة، أو دوره في مسرحية “القراب والصالحين” لعبد الرحمان كاكي، ناهيك عن مشاركته البارزة مع المخرج كاتب ياسين في نص مسرحي أُخذ عن محمد ذيب بعنوان “الرجل ذو النعل المطاطي”، أما تجارب الإخراج فقد برزت بشكل كبير في مسرحية “حمى الكوردوني” بمعنى “الإسكافي”، وقد تجلّت مقاربات هذه المسرحية في فيلم “هواجس الممثل المنفرد بنفسه” ككل، كمضامين وإشكالات وأسئلة وجودية، وقد كتب النص الوزير الحالي للثقافة الجزائرية عز الدين ميهوبي، الذي ظهر أيضا في الفيلم وهو يتحدث ويدافع عن خيارات المؤسسات الجزائرية من خلال دعمها إنتاج الأفلام الثورية والحربية التي تساعد على حفظ الذاكرة.
العديد من الهواجس طرحها محمد أدار، نجده يتساءل عن السبب الذي جعل الجزائر تتأخر في إنجاز فيلم يليق بمقام الأمير عبد القادر، وهو الرجل الديني والعسكري والسياسي والمُصلح الاجتماعي، في حين نجد مثلا بأن فرنسا أنتجت أكثر من 30 فيلما عن شخصية “نابيلون بونابرت”، وفي موضع آخر نجد محمد أدار يتساءل بسخرية لاذعة عن النظام الاشتراكي الذي لا يُفرِّق بين من يعطي قليلا ويعطي أكثر، إذ يساويهم جميعا، وهذا ظلم، ويسرد في ذلك قصة حدثت له في الماضي أيام تبنِّي النظام الجزائري “الاشتراكية”، حيث يقول بأنه كُلف بإنجاز عمل مسرحي، ومن ضمن العمل تم وضع بعض الممثلين الثانويين الذين كان ظهورهم لبعض الوقت، وعندما تم تسلم الأجرة أخذوا مثلهم مثل الذي لعب الدور كاملا، طبعا هذا لم يمكن منطقيا بالنسبة لأدار وتعجب منه.
حركة دائمة ودهشة مستمرة
لاحظنا بأن حركة “المونتاج” في الفيلم جاءت نشطة ومستمرة، اعتمدت في مجملها على تقطيع المشهد الواحد للعديد من اللقطات، الموزعّة على مختلف الفترات الزمنية في الفيلم، لأنها تحمل مضامين فكرية غير آنية، من هنا جاء الفيلم عامرا بالتنوع، يخلق دهشة مستمرة، يُكسر في الكثير من الأحيان أفق التوقع للمشاهد، الذي نشطته هذه العملية التقنية، وجعلته يقظا ومتشوقا طوال الوقت، كما أن محمد أدار الممثل الرئيسي كان في عملية حركة دائمة، خصوصا في المشاهد الخارجية، حيث نجده يجري، يترصّد، يداعب الرمال، حتى أن اللحظات التي نجده ثابت فيها نرى حركية من نوع آخر، في القطار مثلا، على السلم الآلي، وغيرها من المشاهد الأخرى المُتسارعة، كما أن أحداث مسرحية “حمّى الكوردوني” تجلّت بشكل واسع على مستوى الفيلم، لتنوع رسائلها السياسية، حيث نرى بأن بن عمره حوّل المسامير التي عادة ما يتم دقّها في الأحذية لتصليح ما تمزّق، أعاد تشكيلها لتصبح رمزا قويا في الفيلم، فمرة نرها على حائط، ومرة في كف الفنان، وأخرى معوجة لم تعد تصلح، بالإضافة إلى المسامير السندان، التي تم زرعها في البحر وفي الحديقة، من هنا نتساءل رمزيا عن الشيء الذي سيكون بين المطرقة والسندان، هل هو الفنان؟ هل تحول الأخير في هذا الزمن إلى مسمار…؟!
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
من ناحية أخرى كانت الموسيقى المُرافقة متنوعة ومنفتحة على جميع الثقافات والشعوب، من ” صحراوي، شعبي، تونسي، هندي، …”، كل هذا جاء مُطعّم بتعليق أنثوي، من طرف الممثلة “ستيفاني بن عمره”، التي استطاعت أن تصنع في الفيلم مشاهد تفسيرية لبعض الأحداث، خلقت من خلالها إيقاع شاعري، كان بمثابة مِلح الفيلم وروحه، ناهيك عن الوجوه الفكرية والفنية المتنوعة التي ظهرت، تنتصر لقيم الفنان والسينما والمسرح، من بينهم الممثل رشيد بن علال، وصالح أوقوروت، وفاطمة بلحاج، والمخرج فاروق بلوفة، وبرهان علوية، ومحمد ملص، والمفكر غالي شكري، هي صور ملتقطة من هنا وهناك، من ندوات أو مهرجانات، حضورها لم يكن مقحما، بل رافد ومُعين على اتجاه الفيلم وتوجهه.
فيلم “هواجس الممثِّل المُنفرد بنفسه”، فيلم وثائقي طويل من 103 دقيقة، من إخراج وتصوير ومونتاج حميد بن عمره، الذي يملك رصيدا كبيرا من تجارب الإخراج والتصوير، يطرح في هذا الفيلم جملة من الأسئلة الجوهرية حول ماهيّة الفن وجدواه، شارك في التمثيل كل من محمد أدار، ستيفاني بن عمره، هناء بن عمره، حميد بن عمره، رويشد، رشيد بن علال، بالإضافة إلى كوكبة أخرى من الممثلين، صور في كل من الجزائر، تونس وفرنسا، وهو إنتاج ذاتي من مؤسسة نون فيلم.