“أيام الصفر”.. حروب الحاسوب السرية تهدد مستقبل العالم

يعتبر المخرج “فيليب ألكسندر غيبني” من أهم وأفضل صناع الأفلام الوثائقية في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، والأكثر غزارة على نحو لافت. ففي رصيد هذا السينمائي البالغ من العمر 71 عاما ما يزيد عن 30 فيلما وثائقيا والكثير من المسلسلات، وفي جعبته عدد من الترشيحات وكثير من الجوائز، أهمها الأوسكار التي فاز بها عام 2008 عن فيلمه “سيارة أجرة إلى الجانب المظلم” (Taxi to the Dark Side).

وكان “غيبني” قدم سنة 2015 فيلمين هما: “ستيف جوبز.. رجل في الآلة” و”سيناترا.. كل شيء أو لا شيء على الإطلاق”، لنجده قد تخطاهما في فيلمه هذا “أيام الصفر” (Zero Days) الذي أخرجه سنة 2016، وأعاد إلى ذاكرتنا تناوله اللافت لعدد من القضايا المهمة مثل قصة ويكيليكس التي عالجها في فيلمه عام 2013 بعنوان “نحن نسرق الأسرار.. قصة ويكيليكس”.

ومع فيلمه أيام الصفر” الذي عُرض في مسابقة مهرجان برلين (2016)، أصبح “غيبني” أول مخرج يتناول هذا الموضوع المهم والخطير، فهو يتعلق بالحرب غير المادية أو التي يُستخدم فيها لأول مرة سلاح الإنترنت لأغراض هجومية على دولة من الدول. وما مدى حدود الحرب الإلكترونية المقبلة؟

“ستكسنت”.. دودة إلكترونية متقنة صنعتها أيادي المخابرات

على امتداد ساعتين تقريبا، يشرح لنا “أليكس” كيف حدث مثل هذا الهجوم عن طريق جرثومة إلكترونية أُطلق عليها “ستكسنت” (Stuxnet)، وهي دودة إلكترونية شديدة الإتقان والتعقيد لم يسبق لها مثيل، ولم تُستخدم من قبل في أي هجمات إلكترونية على مستوى العالم.

بوستر فيلم “أيام الصفر”

وقد استُخدمت وطُورت على مدى عقد كامل في مهاجمة المحطة النووية الإيرانية التي تحمل اسم “ناتانز”، وبالتحديد أجهزة الطرد المركزي الخاصة بها وأنابيب الغاز، وذلك في يونيو/حزيران عام 2010.

وهي مصمّمة من جانب عدة أجهزة استخباراتية بأمريكا وإسرائيل، تنسخ نفسها وتتكاثر، بحيث تعمل على استهداف وتخريب وتدمير أهدافها داخليا، وذلك من دون أن يستطيع أحد الشعور بوجودها أو يفلح في تتبُّع خط سيرها أو المسارات التي سلكتها.

شل البنية التحتية.. مشروع يستهدف برنامج إيران النووي

كانت تلك الدودة مجرد جزء من مشروع كبير يهدف لشلّ البنية التحتية لدولة إيران بالكامل، وقد نجحت في مهمتها، وأخرجت الأجهزة عن نطاق السيطرة وأحدثت تفجيرات، وكان ذلك من أجل إيقاف أو إعاقة البرنامج النووي الطموح لإيران آنذاك، والقضاء على تهديدات أحمدي نجاد بإبادة إسرائيل.

في ذلك الوقت، لم تعلن السلطات الإيرانية عن أي عمل تخريبي متعمَّد وراء الحادث، في حين لم يُصرّح العلماء وغيرهم من الفنيين بأي رأي قاطع فيما يتعلق بأي حادث متعمد وراء ما وقع بالمفاعل، بينما يشير الفيلم إلى إعدام عالمين من رواد البرنامج النووي الإيراني، أحدهما كان من الثقات لدى نجاد.

استهداف المحطات النووية الإيرانية بفيروس “ستكسنت” حدث في عهد الرئيس نجاد

والمثير في الأمر بالفعل، أنه لم يدر بخلد أحد مطلقا أنه استهداف أو عدوان خارجي، أو أنه حادث مُدبّر بفعل فاعل، بل إنه عائد لسبب تكنولوجي مجهول، يُرجح الفيلم أن الإسرائيليين خلفه، نتيجة عبثهم بشيفرة تلك الدودة التي انتشرت أو تفرّعت من تلقاء ذاتها، وشقّت طريقها لعدد لا يحصى من أجهزة الحاسوب عبر العالم، وهي موجودة كامنة في تلك الأجهزة، ولن تنشط إلا تحت ظروف بعينها، ووفقا لمتطلبات محددة، كما أن لها تاريخا تنتهي فيه صلاحيتها وقدرتها على الإتلاف أو التدمير.

حرب القرصنة.. صدفة تكشف سر الدودة الخبيثة

الأكثر تشويقا في الأمر أن تلك الدودة كانت قد اكتشفت عن طريق الصدفة البحتة من جانب أحد المبرمجين العاملين في مجال مكافحة الفيروسات بإحدى شركات الفيروسات في روسيا البيضاء، وذلك على أحد أجهزة الحاسوب الإيرانية.

الفيروس يتسبب بتعطيل عدد كبير من أنظمة التحكم ويتسبب بحوادث حول العالم

وبعد هذا بوقت قليل انتشر الأمر وذاع بعدما وصل إلى الصحف التي راحت تنشر عنه، وكانت أولاها “نيويورك تايمز”. وفي تلك الأثناء قامت إيران بواسطة فريق سري من المخترقين، بمهاجمة “بنك أمريكا” وغيره من البنوك والمؤسسات الأخرى الحيوية بأمريكا وخارجها مثل شركة أرامكو البترولية. لكن إذا ما قورن الأمر بالضرر الذي تعرضت له إيران، فإن ما قام به ذلك الفريق لم يكن في النهاية سوى مجرد اختراق أو نوع من القرصنة أو الشلل الممكن تدارك تبعاته.

وبالرغم من تواطؤ الجميع والصمت التام أو الإنكار الشديد من جانب الغالبية العظمى حتى اللحظة، فإن “غيبني” تمكن في النهاية بعد جهد شاق من فضح ما حدث، بل وشرحه على نحو شديد الدقة والوضوح وبقدر كبير من التبسيط المستطاع، من أجل إيصال المعلومات المرادة إلى جميع مستويات التلقِّي.

“يمكنك أن تسألني ما تشاء ولن أجيب”

قد استعان “ألكس غيبني” بعدد من كبار العلماء العاملين في مختبرات البحوث بشركة “سيمانتك” وغيرها، فقاموا بشرح آلية تصميم تلك الدودة وبنيتها والكيفية التي تعمل وتتحرك بها.

أما معظم الضيوف الذين استضافهم “غيبني” في البداية من وكالة الاستخبارات الأمريكية أو الإسرائيلية، فقد اتسم حديثهم بالتحفظ الشديد والدفاعية أو الصمت، والغالبية العظمى من ردودهم كانت “لا تعليق” أو “اطرح سؤالك التالي” أو “لست مخولا بالتحدث في هذا الأمر” أو “يمكنك أن تسألني ما تشاء ولن أجيب”.

تم استهداف المنشآت النووية الإيراني في عهد باراك أوباما ونتنياهو

ولذا لم يستطع الفيلم التوصل إلى قول فصل فيمن هو صاحب تلك الحرب التي شنت، هل هو الجانب الأمريكي أم الإسرائيلي؟ فكثير من الشهادات كانت تتنصل من ضلوع أمريكا في الأمر أو تفيد بأنه قرار اتخذ من الجانب الإسرائيلي على نحو فردي، بناء على خلفية العلاقات المتوترة بسبب البرنامج النووي الإيراني. وحتى هذه اللحظة لم يعترف أي مسؤول أمريكي أو إسرائيلي باستخدام أي شكل من أشكال الحروب الإلكترونية في أي مكان في العالم، ولا بدودة الستكسنت.

إنه عمل “فائق السرية”، وقد لفت الفيلم النظر أيضا إلى أنه ليس مسموحا لأي فرد بمجرد التعرض له، وأن أي شخص يتحدث عنه مباشرة لأي وسيلة من وسائل الإعلام يضع نفسه تحت طائلة القانون، وأن هذا يسري منذ عهد الرئيس “بوش” وحتى “باراك أوباما”. ويأتي “غيبني” في سياق الفيلم بأحد التصريحات لـ”هيلاري كلينتون” عن أن الولايات المتحدة لا دخل لها بالستكسنت، وهو ما يدحضه “غيبني” على مدار الفيلم.

“افعل ما يمكن أن تفعله ما دمت ستنجو”.. حروب المستقبل

وصف أحد الضيوف في بداية الفيلم هذه الدودة بأنها مثل هيروشيما وناغازاكي، لكونها مقدمة لنوعية أو فئة جديدة من الأسلحة، تدشن عصرا جديدا من العلاقات الدولية المرتبطة بالحروب ومآسيها، وقد فتحت الباب لطرح أسئلة عدة حول ما يطلق عليه الحروب الصامتة أو بالأحرى غير المعلنة، وهل مثل هذا الهجوم غير السلمي، غير المسلح، وغير المعلن يعتبر عملا من أعمال الحرب الصريحة؟

وإن كان الأمر كذلك، فأي عدد من الحروب تشن -أو هي في طريق الاندلاع قريبا- إلكترونيا بين الدول وبعضها؟ وإن كان أمر الهجوم على إيران في زمن سلم قد مرّ بصورة أو أخرى فهل سيمرّ غيره من الحروب التي لم تظهر للعلن بعد؟ وهل من حق الدول البادئة بالعدوان أن تردّ بنفس الطرق والأساليب عبر الجيوش الإلكترونية أم عسكريا على الأرض؟

لم يتوان “غيبني” عن توجيه اللوم لحكومة بلاده وإسرائيل، وإدانة مثل هذا السلوك الذي قد ينقلب عليهما مستقبلا.

“ألكس غيبني” مخرج الفيلم

ويُلمّح الفيلم بطبيعة الحال إلى معاهدات حظر الأسلحة الكيميائية وانتشار الأسلحة النووية وغيرها من الاتفاقيات والمعاهدات، ويطرح السؤال حول إمكانية إبرام مثل هذه المعاهدات على نطاق إلكتروني معلوماتي، ومدى حاجة المجتمعات الحديثة لمثل هذه الاتفاقيات، وأنه باتت هناك ضرورة مُلحّة لفتح النقاش وإثارة الجدال والوصول لاتفاقات أو معاهدات بشأن الحروب الإلكترونية.

وقد أصبحت القاعدة الآن -وفقا لما ذكره أحد الضيوف- هي: “افعل ما يمكنك أن تفعله ما دمت ستنجو أو ستفلت من الأمر دون مساءلة”، وأنه بناء على تلك القاعدة، بإمكان أي دولة أو جماعة أو منظمة القيام بمثل هذه العمل العدائي، أو شن الحرب ضد أمريكا نفسها، ما دامت ستفلت بفعلتها، وأن الأمر ربما يترتب عليه مستقبلا تدمير أنظمة مصرفية، أو شبكات بنية تحتية، أو إطلاق صواريخ، أو تعطيل طائرات، أو شلّ دول أو قارات بأكملها.

نبش الحقائق الغامضة.. بحث علمي يغيب جماليات الصورة

اجتهد “ألكس” في فيلمه من أجل الوصول للحقيقة التي لا يعرفها إلا قلة قليلة فحسب، وقد بذل جهدا كبيرا للخروج بأكبر قدر ممكن من المعلومات، عن كيفية عمل هذه الدودة أو الجرثومة ونشأتها وتطورها إلى آخره من معلومات، وذلك سبقٌ يحسب له بكل تأكيد. وفي سبيل هذا، لم يلتف أو يُبدِ أي اهتمام بجماليات السينما الوثائقية.. فقط مجموعة من الضيوف الذين يتحدثون أو يشرحون أو يردون على الأسئلة.

الفيلم يستضيف شهودا مع إخفاء شخصياتهم الحقيقية

وقد استعان المخرج ببعض الرسومات التوضيحية والخرائط والغرافيك واللقطات الأرشيفية، إضافة إلى اللجوء كثيرا لتغيير نبرات أصوات الضيوف، والاستعانة بالفلاتر الرقمية المشوهة للصوت وأيضا الصورة، للحفاظ على هوية الضيوف، رغم أنه في أغلب الأحيان لم يكن بحاجة لذلك، نظرا لاستعانته بأقوال تجميعية وردت على ألسنة أكثر من فرد أو مستقاة من مصادر متنوعة، وجعلها تسرد صوتيا عبر الممثلة “جوان تاكر”.

إن قوة فيلم “أيام الصفر” تنبع بالأساس من قوة مادته وخطورتها وفرادتها، بصرف النظر عن أي جوانب أخرى فنية أو سينمائية.