“القرية المفقودة” .. في مهرجان تطوان

لقطة من فيلم "القرية المفقودة"

أمير العمري

في أواخر 2015 ظهر فيلم تسجيلي قصير من إخراج “ديفيد بيلترانط” و”أنجلو فاسيني”، وهو فيلم لا يتجاوز الخمس دقائق، عن رجل وامرأة. المرأة في التاسعة والسبعين من عمرها وتدعى “سينفوروسا”، والرجل في الثانية والثمانين ويدعى “خوان مارتن”، وهما زوجان، يعيشان بمفردهما منذ 45 عاما في قرية “استريلا” الواقعة على بعد 160 كم من مدينة فالنسيا شرقي إسبانيا.

هذه القرية كانت قبل الحرب الأهلية الإسبانية (1936- 1939) مزدهرة تنبض بالحياة، ولكنها تعرضت لكارثة طبيعية غامضة أدّت إلى مقتل الكثير من سكانها، ومع تدهور الأحوال بسبب الحرب، هجرها باقي سكانها إلى أن أصبحت خالية من السكان، رغم أنها تتمتع بمناظر طبيعية خلابة، تحيطها الجبال الخضراء من كل جانب. وقد التقى الرجل والمرأة في هذه القرية وتزوجّا وأنجبا أيضا ابنة لكنها توفيت وهي في الثالثة عشرة من عمرها. الرجل يقوم بزراعة الأرض المحيطة بالكوخ الخشبي الذي يقطنان به، والمرأة ترعى قطيعا من الماعز والماشية، وتطعم القطط والكلاب.

يقول الرجل في هذا الفيلم القصير إنه لو كان الأمر بيده وحده لهجر القرية منذ سنوات بعيدة، إلى المدينة كما فعل الآخرون، لكن زوجته تشبثت بالبقاء، ولم يكن ممكنا أن يتخلى عنها. في الفيلم قليل من المشاهد الطبيعية، مع حوارات مقتضبة مع الرجل، وصور لزوجته التي لم تشأ أن تتحدث أمام الكاميرا.

القرية المفقودة

لاشك أن هذه القصة الحقيقية كانت وراء فكرة الفيلم الذي عُرض مؤخرا في مسابقة الأفلام القصيرة بمهرجان تطوان السينمائي باسم “القرية المفقودة” Lost Village  من إخراج جورج تودريا، الذي صوره في المناظرالطبيعية الخلابة في جورجيا، واستعان باثنين من الممثلين الجورجيين هما “ليا أبولادزه” و”كاها كوبالادزه”، اللذان يؤدّيان دوري رجل وامرأة هما كل ساكني تلك القرية المهجورة. يقع الفيلم في 15 دقيقة، وهو صامت تماما أي ليس فيه حوار، ويتمتع بالصور البديعة، ولكن المخرج يمنح فيلمه طابعا أسطوريا، وأحداثه تدور في منطقة تقع بين الحلم والواقع، وبين الخيال والحقيقة، ويظل ينتقل بين الليل والنهار، وكأننا نشهد بداية الإنسان أو نهايته.

المخرج "جورج تودريا" يحمل جائزة الإبداع للفيلم القصير في مهرجان تطوان

الرجل يقطع الأشجار، يزرع الحقل، يرعى الماشية، يقوم بإصلاح البيوت المجاورة المدمرة.. والمرأة تبدو هائمة، تحدق في الفراغ، تدق بآلة حديدية دقات رتيبة تضفي على الصورة طابعا مهيبا. في الليل يواصل الرجل إصلاح أسقف المنازل الخشبية المثقوبة، وتستمر المرأة في الطرق. يسري صوت غريب كأنه حفيف جناحي طائر خرافي لا نراه، ينتبه الرجل، ثم نسمع صوت صرير، ثم يلمع ضوء في الأفق. يتعاقب الليل والنهار.

لا شيء يحدث، الرجل والمرأة لا يتبادلان الحديث أبدا.. يجلس الرجل كأنه ينتظر شيئا ما.. وتوالي المرأة  دقاتها الرتيبة المنذرة وهي تحدق في الفراغ. إنها تبدو كما لو كانت لا تنتمي لعالمنا الأرضي.. بل وكأن الاثنين من الأموات، وكأن تلك البيوت مقابر كبيرة.. معالم الصورة ضبابية حينا، ناصعة الإضاءة في الصباح حينا آخر، قاتمة في الليل. فجأة تنبثق حرائق تنهش أخشاب البيوت في ظلمة الليل. يستيقظ الرجل كأنه قد توقع ما يحدث.

 في الصباح تحمل المرأة باقة أزهار وتحدق في الكون، ويجلس الرجل في بقعة طبيعية خلابة ساكنة كأن شيئا لم يكن. تتداعى صور سريعة في ذاكرته كأنه يستدعي الماضي.. ماضي الإنسان على الأرض. في الليل يتسلل إلى داخل الكوخ، يتطلع إلى المرأة وهي نائمة في ضوء فانوس يحمله في يده.

تتصاعد أبخرة فوق جبل قريب. نوافذ البيوت المهجورة تضاء بضوء أحمر غريب. إنها النيران الغامضة عادت مجددا. يصعد الرجل فوق المنزل. يشاهد حريقا يأتي على منزل مجاور. ترتفع سحب الدخان وألسنة اللهب. في الصباح نرى رجال الإطفاء يزيلون أنقاض بيت احترق.

الفيلم ربما يحذرنا من كارثة يمكن أن تتعرض لها الطبيعة بسبب سلبيتنا واكتفائنا بالفرجة عليها، من خلال قصة بسيطة أساسها الصورة والموسيقى، قصة ربما كانت تدور في الخيال، عن جمال الطبيعة الوحشي.. عن بدايات الإنسان ونهاياته.. غربته وسط الطبيعة، وذلك النذير القادم من السماء الذي ينذره بما لا يملك له دفعا.

إننا أمام فيلم قصير لكنه عمل كبير، فهو يتمتع بكل ما يميز أفلام الفن الرفيع، يستخدم مخرجه ببراعة جماليات الفيلم: الصورة، الانتقال بين اللقطات والمشاهد في سلاسة وانسيابية، بالحركة المحسوبة البطيئة داخل الصورة، بوضع الممثلين داخل الكادر، بذلك الاستخدام البديع لشريط الصوت والموسيقى الإلكترونية التي تبدو كما لو كانت قادمة من عالم آخر. وبسبب تميزه الفني وابتكارات مخرجه في الصورة استحق الفيلم بجدارة جائزة الإبداع السينمائي في مسابقة الأفلام القصيرة في مهرجان تطوان.

أعداء الداخل

الفيلم الثاني الذي فاز بجائزة أحسن فيلم في المسابقة نفسها هو الفيلم الفرنسي “الأعداء في الداخل” Enemies Within (27 دقيقة) وهو من الإنتاج الفرنسي، ومن إخراج المخرج الفرنسي- الجزائري الأصل سليم عزازي، وبطولة اثنين من الممثلين من أصل جزائري أيضا هما حسن غانسي ونجيب ودجيري.

لقطة من فيلم "الأعداء في الداخل"

يقوم الأول بدور رجل جزائري يقيم في فرنسا منذ 35 عاما، بينما يقوم الثاني بدور ضابط شرطة فرنسي يستجوب الأول بشأن طلبه الحصول على الجنسية الفرنسية، لكن الاستجواب، الذي يُفترض أن يكون، روتينيا يصطبغ بالأحداث التي كانت جارية في التسعينيات في الجزائر (زمن أحداث الفيلم) مع تصاعد العنف هناك، وانعكاس ذلك على الساحة الفرنسية التي شهدت بعض التفجيرات.

يتدرّج الاستجواب، فهو يبدأ من مراجعة بعض البيانات والمعلومات حول الشخص الذي يسعى للحصول على الجنسية، مثل سبب انتظاره سنوات طويلة قبل التقدم بطلب الجنسية، وماذا يعمل، ومن هو والده، ولماذا عاد والده إلى الجزائر حيث ولد الابن، ثم يتجّه إلى التشكك في نوايا الجزائري واحتمال انتمائه لجماعة من المسلمين تخطط لشن هجمات في فرنسا.

هذا الإطار العام للفيلم الذي قد يبدو للوهلة الأولى غير قابل لأن ينتج فيلما يثير الفكر والخيال، سرعان ما يثبت أنه بفضل براعة الحوار المكتوب من واقع تجربة مباشرة، والتمثيل الذي يتمتع بتلقائية مثيرة للإعجاب، والتحكم في المشاهد بدقة، أنه عمل كبير متقن.

يخوض ممثلو الدورين الرئيسيين معا مبارزة، حيث يبدو الضابط الفرنسي متصفا بالبرود مغ نزعة هجومية تزداد حدة كلما استمر الاستجواب، ويحاول الطرف الثاني التماسك والتحكم في مشاعره أمام سيل الأسئلة العدائية التي تصلّ إلى حد الاتهام المباشر. ويصل الفيلم إلى ذروته عندما يطلب الضابط من الرجل الإدلاء بأسماء وأوصاف أصدقائه وجيرانه المسلمين الذين يلتقي بهم في المناسبات الدينية، لتبادل المجاملات والتهاني.

يقطع المخرج أجزاء فيلمه ببراعة من خلال المونتاج بحيث يخرج بالكاميرا في مشاهد استعادة للذاكرة، لنرى الجزائري في طفولته مع والده ونسمع على شريط الصوت ما يرويه عن علاقته به، وحينا آخر نراه مع أصدقائه في المسجد أو في منزل أحدهم يتناولون الحلوى ويتبادلون أطراف الحديث في براءة.

ويصل الفيلم إلى الذروة عندما يرفض الجزائري الإدلاء بالمعلومات التي يطلبها الضابط، كمسألة مبدأ، وأيضا لأنه غير مرغم قانونيا على ذلك. وعندما يمزق طلب التجنس ويحاول مغادرة المكان، يمنعه شرطي من المغادرة، ويقول له الضابط إنه لم يسمح له بالانصراف بعد، ثم يواصل ضغوطه عليه، مؤكدا أنه يتعين عليه أن يثبت إخلاصه للجمهورية الفرنسية. وعندما يمتنع الرجل عن الاستجابة للمطلوب منه، يتناول الضابط أوراق الطلب، ويخبره بأنه سيقوم بتحويله إلى قسم ترحيل الأجانب، أي أنه بعد أن أقام وعمل في فرنسا لمدة 35 عاما أصبح الآن مهددا بالترحيل.

من ضمن معالم تميز الفيلم أنك تشعر أحيانا كمشاهد، أنه ربما توجد بعض الوجاهة فيما يقوله الضابط أحيانا، في ضوء عمليات العنف الأخيرة التي وقعت في فرنسا وبلجيكا، ويمكنك أيضا أن تجد مبررا له وهو يتحرّى الأمر مدققا في بعض التفاصيل، لكن هذا الشعور لا يستمر طويلا، لأن الشكل العدائي الذي يتخذه الاستجواب، وما يكشف عنه الجزائري تدريجيا، عن شخصيته وماضيه والمحيط الذي يعيش فيه منذ سنوات، يجعل وجهة نظر المتفرج تتجّه للتعاطف معه، فما يجري أمامنا ليس تدقيقا أمنيا، بقدر ما يصدر عن نزعة تشكك عنصري في الغريب، العربي، المسلم، لا لشيء سوى لاختلافه في الدين والأصل. وربما كان اختيار ممثل جزائري الأصل ببشرته السمراء، للقيام بدور الضابط، تأكيدا على أن اللون ليست له أهمية هنا، بقدر الهوية الدينية.

هذا عمل سينمائي بديع يتميز بإيقاع دقيق منضبط، وانتقال سلس وبديع بين الداخل والخارج، واستخدام بارع للإضاءة التي تجعل مكتب الضابط يبدو كزنزانة سجن، مع استخدام جيد للقطات القريبة للوجوه لتقريب معنى الحصار. وتصبغ لقطات التداعيات باللون الأصفر، مع إضاءة قاتمة، وحركة كاميرا تعكس التوتر الداخلي والارتباك الذي يقع فيه الرجل بعد مغادرته قسم الشرطة. لكنه سيعود لتقديم المطلوب منه، وهي نهاية أكثر قسوة من السجن بل ومن الترحيل أيضا!