تدمر.. شهادات السجناء اللبنانيين في سوريا

تزامن العرض العالمي الأول للفيلم الوثائقي “تدمر” سنة 2016، والذي أخرجته الألمانية مونيكا بورغمان بالاشتراك مع زميلها اللبناني لقمان سليم، مع عودة سيطرة الحكومة السورية على المدينة التاريخية، وبعد هزيمة “داعش” الذي احتل المدينة لأشهر.

لن يخوض الفيلم هذا في أحداث سنوات الثورة السورية المتواصلة، لكنه يفتح بالمقابل صفحة من صفحات الماضي القريب للمنطقة التي مازالت مجهولة لكثر، وكان من الصعب التصدي لها قبل الثورة السورية، ذلك أن الفيلم يحقق ويسجل سيرة سجناء لبنانيين قضوا سنوات في سجن تدمر السوري، وهو السجن الشهير الذي مثل أيقونة للقمع المسلط على السجناء السياسين السوريين، والذي طال لبنانيين أيضاً، إذ حبس النظام السوري لبنانيين هناك لسنوات، ولأسباب أغلبها سياسية، كما شهدت جدران ذلك السجن نهاية حياة الكثير منهم بسبب قسوة الحياة في المُعتقل الوحشي.

في غرفة فسيحة مفتوحة لا تضم إلا كرسياً واحداً وتضيئها مصابيح تركز بإنارتها الخفيفة على دائرة صغيرة حول الكرسي، يتناوب سجناء لبنانيون سابقون رواية حكاياتهم عن سجن تدمر في الفيلم التسجيلي الذي عرض أخيراً في الدورة الثانية والعشرين من مهرجان “فيجن دو ريل” (Visions du Réel) السينمائي السويسري.

يقترب الفضاء الذي ابتكراه المخرجان لتسجيل شهادات شخصيات فيلمها من خشبة المسرح، إذ إن هناك مسافة تعد واسعة في عرف المقابلات التسجيلية تفصل بين الشخصيات والكاميرا، وكذا المسافات الفارغة على جانبي الكرسي والتي ستوسع الكادر حول الذين سيتعاقبون على تقديم شهاداتهم. يعد الفيلم خشبة على طريقة الحكواتي الشرقي، ويريد إشراك جمهور افتراضي ليس فقط الذي سيشاهد الفيلم على شاشته، بل كأنه يخاطب التاريخ ويذكره بما مرّ بهؤلاء اللبنانيين، الذي تجاوز معظمهم منتصف العمر.

ملصق الفيلم

ستشكل شهادات الشخصيات سردية طويلة عن سنوات السجن، وإلى جانبها سيستعيد الفيلم أجواء السجن العنيفة عبر إعادة تمثيلها بواسطة السجناء أنفسهم في سردية صورية موازية وقوية، في معالجة بدأت تنتشر كثيراً في السينما التسجيلية في السنوات الأخيرة، لا يفسرها إلا رغبة سينمائيين بالتحرر من جمود واختناق المقابلة الصحفية المباشرة.

ويأخذ المخرجان شخصياتهما إلى بناية مهجورة تقع على أحد تخوم العاصمة اللبنانية بيروت، وسيحاولون هناك تشييد بعض ملامح عالم القسوة الذي عاشه السجناء في السجن السوري السيء الصيت. تتصاعد كلا السرديتين مع تواصل زمن الفيلم، وتكمل اللغة الجسدية الصامتة، ما تعثر من الشهادات الصوتية، وتضيء الأخيرة أحياناً ما نراه من أفعال عبر الفيلم.

سجن تدمر الذي أرهب نظام الأسد فيه معتقليه

وإذا كان الارتباك بدا بادياً على سحنات السجناء السابقين وهم يتهيئون لهذه التجربة الفيلمية الغربية، إلا أن المعالجة الحاذقة والجريئة للمخرجين سرعان ما تصل بالتجربة والفيلم على حد سواء إلى مستويات كبيرة من النضج والفهم، والذي كان واضحاً في الانتقالات المحسوبة بين الشهادات الفعلية وبين المشاهد العديدة التي أعاد السجناء تمثيلها لحياتهم بالسجن، والتي ربما لم تكن لتصل بنفس القوة عبر الشهادات وحدها.

سجناء لبنانيون سابقون يروون حكاياتهم عن سجن تدمر

فعندما يشرح أحدهم الطريقة الفريدة التي ابتكرها حراس السجن في تعذيبهم، يتيه هذا السجين السابق بالشرح، ليساعد إعادة تمثيل مشهد التعذيب على فهم وضعية السجين وقتها، وكيف كان يحبس في إطار سيارة مطاطي، لتتكشف أطرافه إلى الحارس. بل أن تفاصيل عديدة لم يكن ليكون لها الأثر النفسي المؤثر ذاته، لو شرحت بالكلمات. كما بينه جلياً المشهد الطويل لتقسيم بيضة مسلوقة بين السجناء بواسطة خيط. والذي نقل دون كلمات التجويع الذي كان تمارسه سلطة السجن على السجناء، إلى الحد الذي يقتسم ثمانية أشخاص بيضة واحدة.

جاءت شهادات الفيلم في معظمها مؤثرة، وضاع القليل منها في تفاصيل غير مهمة ومشوشة. من القصص العاطفية كثيراً، تلك التي نقلها سجين في الخمسينيات من عمره اليوم، إذ روى كيف دخل عصفور إلى السجن، وسقط قريبا منه، والصراع الذي خاضه مع سجين سوري وقتها للحفاظ على حياة هذا العصفور. وعندما رغب هذا السجين في إطعام العصفور الجائع، لم يجد ذرة خبز واحدة في الزنزانة كلها، ليضع بعدها فم العصفور في فمه، حتى يتسنى له أن يشرب من لعابه.

مشهد يصور الطريقة التي كان يعامل بها السجناء في سجن تدمر

قصة أخرى رواها سجين آخر عن الخوف والشعور بالذنب الذي أصابه، بعد أن رأى من فتحة في باب الزنزانة، عنصراً أمنياً سورياً يبول في طبق الأكل الخاص بالسجناء، وتردده وقتها أن يخبر رفاقه في الزنزانة خوفاً من عقوبة حراس السجن. ولعل الشهادة الأكثر تأثيراً، تلك التي قدمها مسّن لبناني، كشف أنه كفن بنفسه ما يقارب 700 سجين ماتوا بسبب ظروف السجن، وأن الموت نفسه كان أمنية الأحياء وقتها.

يركز الفيلم كثيراً على تجربة السجن بذاتها، عازلاً إياها عن ظروفها ومحيطها الأكبر، فلن نعرف مثلاً الظروف التي قادت إلى سجن شخصيات الفيلم أو تلك التي فتحت لهم أبواب الحرية. وكأن المخرجيْن اللذيْن قدما في عام 2006، تجربة مماثلة بإخراج فيلم تسجيلي يستعيد مجازر صبرا وشاتيلا (أخرجاه بالإشتراك مع الألماني هيرمان تيسين)، معنينان بظروف مأساوية خاصة، كالمجازر في الفيلم السابق، والسجن السوري وأهواله في الفيلم الأخير. واهتمامها ينحصر في كشف وتبيان أثر هذه الأحداث الجسيمة على الذين مروا بها، حتى يتسنى حفظها من الضياع أو النسيان أو اللامبالاة.

أحد السجناء الذين عانوا في سجن تدمر

كما أن أسلوبية هذه الأفلام واشتراطاتها، تفرض على شخصيات حقيقية من التي مرت بتجارب قاسية، استعادة أحداث تلك الظروف بطرق مختلفة، ليقترب الفيلم الأخير ليكون علاجاً نفسياً لشخصياته عبر إعادتها إلى الأزمان تلك، على أمل أن يعينها ذلك على مواجهة كوابيس السجن المتواصلة في حياتهم وتخفيف آثار ما حصل هناك.


إعلان