“قصر الدهشة”.. حكاية أخرى عن ثورة الياسمين

عبد الكريم قادري

استطاع المخرج التونسي مختار لعجيمي في فيلمه الأخير “قصر الدهشة” 2015، الذي دخل به العديد من المهرجانات الدولية، من بينها المسابقة الرسمية بأيام قرطاج السينمائية، في دورتها السادسة والعشرين الأخيرة، أن يجلب له انتباه العديد من المشاهدين، خصوصا رجالات وصنّاع ثورة الياسمين، التي أسقطت النظام السابق بقيادة الرئيس الهارب زين العابدين بن علي.

المخرج التونسي مختار لعجيمي

نقل فيلم مختار العجيمي جانبا آخر من الفساد الذي كان مستشريا في كل مؤسسات ومفاصل الدولة، بما فيها الصحية منها، التي تُعنى بالجانب الاجتماعي والنفسي والعقلي للمواطن التونسي، من هنا يصور المخرج هذا الجانب عن طريق مستشفى للأمراض النفسية والعقلية، أو ما يطلق عليه مستشفى المجانين، وهو الحيز المكاني والفضاء الذي تدور فيه وقائع هذه القصة، أما الحيز الزماني فمحدود هو الآخر بأيام انتفاضة الثورة التونسية ومخاضها.

“قصر الدهشة” هو العنوان الساخر الذي اختاره مختار لعجيمي لثاني عمل روائي طويل له، بعد فيلمه الأول “باب العرش”، ليُدخل من خلاله المُشاهد في تناقض واضح، نتيجة إلى الفضاء الذي تجري فيه أحداث ووقائع الفيلم، وهو عبارة عن مكان يجمع بداخله مجموعة من الأشخاص المرضى والمهووسين وغريبي الأطوار، ما يُوحي بأنهم بحاجة ماسة إلى علاج، والذي سيكون عبارة عن أقراص مهلوسة تأخذ منهم حاضرهم وعقولهم، لتسافر بهم إلى عوالم أخرى، بعيدة عن الواقع الذي يعيشون فيه، المهم أن لا تُطرح الأسئلة في هذه العوالم، خصوصا تلك التي تتعلق بالنظام أو التغيير أو الحرية، هم مجموعة من الأشخاص وقعوا ضحايا لهذا النظام، وتم الرمي بهم في هذا القصر/الجحيم، لإسكاتهم وتحويلهم إلى مجرد دمى تُثير/الدهشة، وأجساد تتحرك بلا روح، جراء التعذيب والتنكيل والإقصاء والمساومة، من هنا يتحول هذا الفيلم الذي ينضوي تحت مظلة الكوميديا السوداء إلى فضاء محاكمة واضحة لأوضاع تم من خلالها تصفية كل صوت يعلو، أو كلمة ترمز إلى الحياة، ودفنها في هذا القصر المُثير للدهشة.

نحن أمام مجموعة من الأشخاص، تقاطعت بهم السبل داخل هذا المركز، بعد أن تعالت أصواتهم التي تنادي بالحرية، مثل “نضال” الذي يؤمن بمبادئ الشيوعية، يرمز إلى الصوت المعارض، الذي تم الرمي به في هذا المركز، حيث مُورست عليه جميع أنواع وأشكال التعذيب النفسي والجسدي، لا لشيء سوى لأنه قال “لا” في وجه نظام “مستبد”، تحت رعاية من مدير المركز “حازم”، ليكون هذا المركز الصحي عبارة عن سجن سري للمعارضة، ومن هنا يتم نقل شكل من أشكال المعتقلات السرية للنظام السابق، وطريقته في تصفية الخصوم والمعارضة السياسية، عن طريق زجها في أماكن سرية، وتصفيتها تحت ذرائع مختلفة.

لقطة من الفيلم

لعب حازم مدير المركز دورا محوريا في الفيلم، حيث عكس شخصية الرجل الفاسد الذي يمارس كل الطقوس الشريرة، من اغتصاب، سرقة، تضخيم فواتير، وبيع الأدوية، ومشاركته وإشرافه على التعذيب، والمتلون التابع للنظام، من خلال محاولته المستمرة في عمليات فصل المساجين عن الخارج والتعتيم عليهم، كي لا يعرفوا بأن هناك ثورة قائمة تطالب بإسقاط النظام، حتى لا تصل الشرارة إليه، الثورة التي يدعو لها “نضال” داخل المركز/السجن، رغم التعذيب المستمر الذي لحق به، غير أنه لم يُهادن ولم يستسلم، بل واصل نضاله ورسمه للخطط كي يجد مخرجا إلى الشارع، حيث الشعارات والهتافات ورصاص القناصة والغاز المسيل للدموع، أراد أن يشارك وزملاؤه “المرضى” في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة في تاريخ تونس الحديث.

أما حازم وبعد أن تيقن بأن شرارة الثورة ستصله لا محالة، بدأ في حرق ملفات الفساد التي حدثت في هذا المركز، أين أمر مساعده المطيع بأن يتلف كل تلك الملفات ويحرقها، لكنه لم ينجح في حرق أهم ملف، والذي يمكن أن تطيح بحازم ومن معه، إنه ملف التعذيب، الذي أخذه ابن المحاسب الذي لعب دور مريض يمشي وهو نائم، من هنا تبدأ عمليات التفتيش والتعذيب للكشف عن الفاعل، حيث تذهب الشكوك إلى نضال، لكن في الأخير ينجح المرضى/السجناء في الخروج، لكنهم للأسف تعرضوا لإطلاق نار من قبل القناصة، حيث راح نضال ضحية وراح معه ملف التعذيب والفساد وتطايرت أوراقه في السماء، بعد أن نفًذ حازم مخططه، وعاد بلحية اصطناعية للتمويه، وقبلها أخذ هو وزوجته ما استطاعوا مما غلا ثمنه وخف وزنه، وفي الأخير يظهر جليا بأن المخرج أسقط وبشكل كبير شخصية حازم وزوجته على الرئيس بن علي وزوجته.

وُفق المخرج مختار لعجيمي في اختيار “كاستينغ” قوي، عكس فيهم روحية العمل الذي قام على المواقف الإنسانية والكوميديا السوداء، حيث كانت شخصيات العمل كاريكاتورية في شكلها ومواقفها المختلفة، غير أنها نقلت وبقوة رسالة الفيلم، ونجحت في رواية القصة بشكل مغاير ومختلف، رغم أن فضاء التمثيل كان داخليا في معظمه، وهو أمر يدعو إلى قلق المُشاهد وتطلعه إلى فضاء أوسع وأرحب يمكن من خلاله النظر إلى الخارج، لإشعاره بالاطمئنان وتكسير خط السرد وفضائه الضيق.

ملصق الفيلم

رغم هذا نجح الفيلم في تخطي هذه العتبة، عن طريق غنى وتنوع المشاهد الداخلية، جعلت للمكان روحا، حيث هناك دهاليز وأماكن سرية مختلفة، غرف تعذيب، جدران متآكلة ورطبة، إلتواءات وتعرجات، سلالم،  كل هذا ساعد في الأخذ بيد المشاهد وإشراكه في اكتشاف هذه الفضاءات الحقيقية، المنقولة بغير تغيير، وكأن المخرج أراد أن يفشي لهذا المشاهد بأسرار مكانية، كان يسمع عنها الكثير وبرع في تخيلها لكنه لم يكتشفها، خصوصا غرف التعذيب، وقد كان التنقل بينها سلسا وغير مقلق أو مفاجئ، مبررا دراميا، كما نقل ما يجري في الخارج من ثورة تطيح بالنظام عن طريق اللجوء إلى “اليوتوب”، إذ تم مشاهدة هذه الوقائع الحقيقة داخليا، لإضفاء نوع من الواقعية على الفيلم، وجعل المُشاهد يصدق القصة ويؤمن بها.

نجح الفيلم في نقل صورة من صور الفساد الذي قاده النظام السابق، وجانب من النضال القديم / الجديد الذي قادته المعارضة، كما سيشكل منطلقا لطرح أسئلة جديدة عن المعتقلات السرية، ومن كان يأمر بها ويقودها، ولن يكون هذا سوى من خلال العثور على الحلقة المفقودة.

فيلم “قصر الدهشة” أخرجه وكتب له نص السيناريو وركبه مختار لعجيمي، مدير التصوير حازم رابح، مهندس الصوت فوزي ثابت، أما التمثيل فقد شاركت فيه العديد من الأسماء، من بينهم هشام رستم، جمال مدني، وفاطمة بن سعيدان.


إعلان