الموتى فقط يشهدون نهاية الحرب

أمير العمري

ليس من الممكن اعتبار فيلم “الموتى فقط يشهدون نهاية الحرب” Only the Dead See the End of the WAr فيلما وثائقيا كلاسيكيا، يتمتع بالبناء المحكم، والتدرج المنهجي في بناء المادة، وربما يشوبه أيضا بعض التكرار، كما قد يعيبه طبقا لما يعرف بـ “أخلاقيات المهنة”، تصويره المباشر للقتل والجثث والدماء وصولا إلى التوقف طويلا بالكاميرا في النهاية، أمام شخص ينزف على الأرض، وهو في مرحلة الاحتضار الأخيرة قبل أن يتوقف قلبه عن الخفقان، وكلها مشاهد مفزعة تصيب المتفرج بالقشعريرة، إلا أنها تبدو مبررة في سياق موضوع الفيلم ورؤية مخرجه الاسترالي مايكل وير Michael Ware ، الذي يطرح سؤالا جوهريا عن معنى وجود الإنسان في الحرب، أي ما الذي تفعله الحرب بالبشر، وما الذي وقع تحديدا في العراق في تلك الفترة الطويلة التي عاشها هناك (سبع سنوات) أولا كمراسل لمجلة تايم، ثم كمراسل لقتاة سي إن إن؟

الصورة التي استخدمت في ملصق الفيلم

من جهة أخرى، يمكن اعتبار الفيلم أيضا فيلما وثائقيا شخصيا- إذا جاز التعبير- ليس بمعنى أنه يعبر عن الاهتمامات الشخصية الخاصة بمصوره ومخرجه، بل بمعنى أن ما يعرضه يهم المشاهدين في العالم الذين ظلوا لسنوات وربما، يتابعون في رعب وعدم فهم بل وعدم تصديق أحيانا، ما يجري يوميا في العراق، من سنوات الشحن المبكر ثم التدخل العسكري المباشر عام 2003، ثم التداعيات التي تفجرت بين العراقيين والقوات الأمريكية، وبين العراقيين والعراقيين، وبين الطوائف والإثنيات المختلفة، ثم الحرب المشتعلة حاليا ضد تنظيم الدولة (داعش). وقد كان مايكل وير هناك من يتابع تطورات الحرب يوما بيوم، ويسجل مئات الساعات من المواد المصورة بالكاميرا (الرقمية) الصغيرة التي حصل عليها، ولم يكن يعلم أنه سيصنع منها ذات يوم فيلما.

إننا أمام فيلم “يوميات حرب” مصورة بالفيديو. وبالتالي يمكن أن نلتمس لمخرجه العذر ونحن نشاهد صورا ولقطات لا تتمتع بالإضاءة المثالية المطلوبة، فالصورة ضبابية وأحيانا شاحبة تماما في المناظر الليلية، والكاميرا تهتز وتتأرجح في معظم اللقطات، لأنه يستخدمها في التصوير المباشر أثناء تبادل النيران والاشتباكات العنيفة، وقد ربط نفسه في البداية بإحدى وحدات القوات الأمريكية وأخذ يصاحبها يوما بيوم، يعيش معها، ويسجل كل ما تمر به من أحداث ومواجهات. وفيما بعد، يقوده فضول الصحفي إلى الوصول إلى الجانب الآخر، أي معسكر المقاومة من أنصار صدام حسين الذين أخذوا يشنون هجمات متفرقة على القوات الأمريكية، وينجح بالفعل في إقامة صلة وثيقة معهم، يصحبهم ويطلع على دوافعهم ويشهد عملياتهم العسكرية، ثم يصبح “وسيطا” يستخدمونه في نقل الشرائط التي يقومون بتصويرها لعملياتهم إلى وسائل الإعلام لكي تبثها.

المخرج الأسترالي مايكل وير Michael Ware

لقد سعى مايكل وير، ونجح أولا في الوصول إلى المقاومة البعثية ضد الأمريكيين، ولكنه أصبح بعد ذلك مطلوبا من جانب حركة المقاومة الإسلامية الجديدة التي ستصبح الأساس العملي لما يعرف حاليا بـ “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، تلك “المقاومة الجهادية” التي بدأتها جماعة الزرقاوي، والتي نقلت الصراع إلى مستوى لم يسبق له مثيل، إلى العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والتفجيرات الواسعة النطاق. جماعة الزرقاوي هي التي ستسعى للوصول إلى مايكل لتطلعه على جانب من عملياتها وتسمح له بالتصوير، بل وتسلمه أيضا شرائط للبث على سبيل الدعاية، وعند نقطة ما سيجد نفسه- كما نرى بالفعل- أسيرا يكاد يفقد حياته لولا أن الزرقاوي يدرك- كما يقول وير في الفيلم- أنه لا يساوي شيئا فيطلقون سراحه.

الفيلم كله يُروى بصوت مايكل وير، من وجهة نظره الذاتية، وصوته حزين متلعثم، يبدو كأنه وهو الذي عاد بعد سنوات طويلة إلى مشاهدة تلك المواد المصورة التي بلغت مئات الساعات، كان يحاول أيضا التغلب على الشرخ النفسي الذي أصابه جراء تجربته القاسية في الحرب. نراه في الجزء الأخير من الفيلم وهو يصور نفسه ونرى ساقيه وهو مسترخٍ على فراشه في بيته باستراليا، غير قادر على الحركة أو الفعل، تسيطر عليه هواجس الحرب، يتخيل الانفجارات من حوله في كل مكان، عاجز عن النوم، وبالتالي تصبح مراجعة الشرائط ومواجهة ما وقع نوعا من العلاج النفسي أيضا بالنسبة له، خاصة وقد أدرك أهمية أن يشرك معه المشاهدين في الاطلاع على تجربته، وبالتالي جاءته فكرة صنع الفيلم.

يحتوي الفيلم على مشاهد مباشرة للكثير من التفجيرات التي وقعت في العراق أولها الانفجار الذي استهدف السفارة الأردنية في بغداد في أغسطس 2003، حيث نرى لقطات للدمار والجثث والأشلاء والدماء المتناثرة وحالة الفزع التي تسيطر على الناس في الشارع. لكن وير يقول لنا إنه كان يتوقع ما حدث، فهو يعرض لنا لقطة لسيارة دمرها الجنود الأمريكيون عند حاجز أمني، راح ضحيتها طفل صغير، ثم نرى شقيق الطفل ينظر مباشرة إلى الكاميرا ويهدد ويتوعد بالانتقام.

من الفيلم

نشاهد أيضا لقطات التفجير الذي دمر مقر الأمم المتحدة في بغداد وأدى إلى مقتل 20 شخصا وجرح أكثر من مائة آخرين، وحالة الهرج والمرج التي سادت وانتشال الجثث المحترقة، وأحدهم يحاول وقف التصوير متسائلا في غضب: ماذا تصور؟ ثم نرى لقطات للمسلحين يرتدون الأقنعة السوداء، واستمرار الانفجارات على الطرق السريعة، وكيف يواجه الأمريكيون التطور الجديد بشكل عشوائي، ومع تصاعد موجة الانفجارات في بغداد يقول وير الذي يعلق بصوته على الفيلم، إنهم أي المسلحون، هم الذين سعوا إليه هذه المرة، فقد أرادوا اطلاعه على عملياتهم، ويلتحق هو بالفعل بالمسلحين الذي يأخذونه معهم لتصوير إحدى عملياتهم: رجال ملثمون يقفون أمام الكاميرا ويتعهدون بالانتقام، قذائف تنطق في الظلام قرب مطار بغداد من مدافع المورتارـ دبابة على الطريق تنفجر.

يعرف أن هذا التصعيد النوعي في العمليات يقوده شخص يدعى “أبو مصعب الزرقاوي”. ويضيف أن حال من يعرفهم من فلول صدام كانوا يخشونه بل ويستنكرون فظاعة ما يقوم به من هجمات. كانت قد مرت سنة على وجود “وير” في العراق، يعود إلى الفندق الذي يقيم فيه مع زملائه الصحفيين، نشاهد لقطات للزرقاوي ملثما وسط رجاله، وهو يقرأ من ورقة، ثم يقوم بقطع رأس أحد الرهائن الأمريكيين. يظهر الرئيس بوش الإبن على التليفزيون يدين العملية ويتوعد القتلة.

في الفيلم الكثير من مشاهد التفجيرات والعمليات المباشرة التي يصورها وير بكاميرته الصغيرة، وأصداء تلك العمليات كما تنعكس في قنوات التليفزيون الأمريكية والأوروبية، كما يركز أيضا على دور الأطفال في القتال ضد الأمريكيين، فنرى مثلا، طفلا ملثما يحمل سلاحا اصطحبه عمه وأخذ يدربه على إطلاق قذائف المورتار، والطفل يشير للكاميرا بعلامة النصر ويهتف “الله أكبر!

مخرج الفيلم رفقة مسلحين يرتدون الأقنعة السوداء

في المنطقة المحيطة بشارع حيفا في بغداد يمنع وير من التصوير، فهذه منطقة الزرقاوي ورجاله ويسمونها منطقة محررة، ثم نشاهد كيف تنتشر الأعلام السوداء بكثافة فوق أعمدة الإنارة في الشوارع المحيطة.

يلتحق مايكل بالقوات الأمريكية التي تخوض معركة الفلوجة ضد جماعة الرزقاوي، ويتابع مع وحدة عسكرية قتال الشوارع وتفتيش البيوت، وسحب الجثث على الأرض، وفي 2005 يتجه مع القوات الى الرمادي في غرب العراق حيث سيطر الزرقاوي ورجاله على منطقة واسعة وفرضوا فيها تطبيق الشريعة حسب رؤيتهم، ونرى كيف يقوم رجلان بإعدام شاب في السوق على رصيف شارع في وسط الحي التجاري أمام الجميع.. أحد الرجلين يشير للسيارات أن تواصل سيرها، والآخر يطلق الرصاص على رأس الشاب القابع على الرصيف، فيأتي الرجل الآخر ليدفع جسده بحذائه، ثم يبتعد ويواصل حث قائدي السيارات على  الابتعاد، ثم يعود ليطلق الرصاص على رأس الرجل المسكين فيفجر منه الدم. وفي مشهد آخر يقوم الرجلان بتعليق شابين من أعلى جسر صغير وشنقهما ثم يطلقان الرصاص عليهما، بدعوى أنهما كانا يمارسان النهب.

المخرج مع أحد المقاتلين

على شريط الصوت  في الفيلم نسمع كثيرا من الأغنيات الجهادية التي أنتجتها الجماعات “الجهادية”، يستخدمها الفيلم على لقطات للعمليات المسلحة ومعارك الرمادي بوجه خاص، لكن الفيلم يبدو متوازنا وهو يصور الكثير من التجاوزات التي تقوم بها القوات الأمريكية، فنرى كيف يطلق القناصة النار على امرأة لمجرد الاشتباه، وكيف يقتلون بشكل عشوائي ليلا أسرة كاملة داخل أحد المنازل، وصولا في النهاية إلى ذلك المشهد الذي لاشك أنه ظل محفورا في ذاكرة وير نفسه وقد صوره في جنوب بعقوبة عام 2007: جسد شاب مصاب بطلق ناري ملقى على الأرض. يقترب منه جنديان أمريكيان.. أحدهما يطلب من الآخر سحب الجثة. الجندي متردد. يخشى أن تكون هناك قنبلة قد تنفجر في وجهه.. يحسم أمره أخيرا ويسحب الجسد العاجز.. يقول إنه ليس ميتا بعد.. مجموعة من الجنود تحيط بالرجل.. يتناقشون ماذا يفعلون به.. الرجل ينزف.. تصدر منه حشرجات.. صدره يتحرك.. يسخر أحد الجنود من فكرة طلب معونة طبية لنجدته.. أحدهم يقول له: فلتمت أيها الوغد.. الدم ينزف بغزارة من رأس الرجل.. يلقون منشفة قذرة فوق رأسه.. كاميرا مايكل وير مازالت مسلطة عليه.. مايكل يقول لنا بصوته إنه كان يجب أن يتدخل في هذه اللحظة.. لكنه لسبب ما لم يفعل.. بل تركهم يسيئون معاملته إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.. يقول معلقا على الصور: إنها وحشية الحرب.. ويقال إن “الموتى هم آخر من يشهد نهاية الحرب.. لقد قضيت سبع سنوات في العراق، لن أنسى أبدا ما رأيت.. لقد حاولت أن أعود إلى نفسي ولم أكن أتخيل أنني سأصبح هكذا.. أن أقف صامتا أمام مشهد كهذا. لكني دائما أتعلم”.

في ديسمبر 2009 غادر مايكل وير العراق لكنه لم يعد أبدا إلى ما كان عليه من قبل. ما بقى الآن هو هذا الفيلم الذي لاشك أن مشاهدته في الوقت الحالي تزيح الغموض عن كثير من الأشياء التي ظلت عصية على الفهم، أو لعلها مازالت كذلك!

 

 


إعلان