معركة السلاح في أمريكا
محمد موسى
يَفتتح فيلم “تحت السلاح” (Under the Gun) للمُخرجة الأمريكية ستيفاني سوتيغ زمنه بإحصائية ستكون توطئة عنيفة لتيمته وتأكيد لهويته كفيلم حملات شعبية يدفع للنقاش ويتوخى التغيير، فهو ينقل بأن حوالي 22 شخصاً سيصابون بحوادث إطلاق نار في الولايات المتحدة، في الفترة التي يستغرقها مشاهدة هذا الفيلم التسجيلي، وأن إصابة ستة منهم ستكون قاتلة.

هكذا يُجهزنا الفيلم نفسيا للرحلة التي سيأخذنا فيها، والتي ستكون مُوسعة ومُفصلة كثيراً، ويقوم إلى جانب عرض قصص شخصية عن الألم الذي يعيشه أمريكيون فقدوا أحباباً لهم في جنون حوادث إطلاق النار الجماعية والفردية التي لا تتوقف في البلد، بتوجيه نقد لإذع للتشريعات القانونية الأمريكية، ويُحللها، ويركز على جمعية السلاح الأمريكية (NRA)، التي يعتبرها اللوبي السياسي الأقوى في الولايات المتحدة اليوم، ويكشف تهافت النظام القانوني الأمريكي، عندما يتعلق الأمر بتجارة السلاح، وحق الأمريكي بامتلاك السلاح الذي يرغب دون مُضايقات الحكومة.
يَجمع الفيلم بين التجارب الخاصة والفعل الاستقصائي، والأخير سيؤثر عليه قليلاً أن أقطاب تجارة السلاح، وأعضاءً مهمين من جمعية السلاح الأمريكي، سيرفضون الحديث تماماً للفيلم، ليكتفي هذا الأخير بتحليل القضية دون تحديات أو موجهات من الطرف الآخر، خلال لقاءات خاطفة مع متعاطفين مع وجهات النظر المحافظة التي ترى أن امتلاك السلاح يُعَّد جزءاً من مكونات الشخصية الأمريكية وتوقها الطبيعي للحرية. لن يكون الجمع بين العام والخاص في الفيلم موفقاً دائماً، ويتعثر الفيلم وهو ينتقل من تقديم مشاهد تقطع القلوب من حزنها لآباء وأُمُهات فقدوا أبناء لهم نتيجة العنف، ومشاهد أخرى يتحول الفيلم فيها إلى محقق، يكشف عن عثرات قاتلة في النظام القانوني الأمريكي، وضعف السياسيين أمام سطوة تجار السلاح.

لا يبدو أن الفيلم واجه صعوبة في إقناع عوائل ضحايا حوادث عنف بفتح قلوبهم له، فجلّ من ظهر في الفيلم يجتهد اليوم في تحويل المأساة الخاصة التي أصابته، إلى حركة اجتماعية عامة تحذر من انفلات تجارة وامتلاك الأسلحة، لذلك كان الفيلم واسطة مناسبة للتعريف بنشاطاتهم إلى جمهور جديد. يفتح الفيلم جروح شخصياته، ويعيدها إلى الجحيم الذي بدأ منذ سماعها خبر مقتل أولادها. من الشخصيات التي ظهرت، زوجان فقدا ولدهما الصغير في حادثة إطلاق نار في المدرسة التي كان يدرس فيها، ومحام أمريكي قتل ابنه الشاب في حادثة عنف مشابهه. والذي سيروي بدوره الشهادة الأقسى في الفيلم، عندما يعود إلى الدقائق التي أعقبت دخوله المشرحة للتعرف على جسد إبنه البارد، وكيف تذكر وقتها طفولة ذلك الابن، ونومه في غرفته والحكايات التي كان يقصها له قبل النوم قبل سنوات ليست بعيدة.
شَكلت الشهادات الشخصية مساراً خاصاً، لم يكن دائماً منسجماً مع الخط التحقيقي في الفيلم، إذ لم يتم الربط دائماً بين تلك الشهادات، والخط الاستقصائي الموازي. حتى إن بعض الشهادات المُهمة ضاعت في زحمة الانتقالات التوليفية، كتلك التي تخص المرأة التي تعرضت إلى إطلاق نار، وتعطل على أثرها بعض من وظائف جسدها، وتحاول منذ سنوات استعادة نطقها. في حين قدمت شهادة الاُمّ التي فقدت ابنتها في حادثة إطلاق نار في دار سينما قبل سنوات قليلة، ضمن بناء تشويقي، إذ تم عرض اللقطات التي سجلتها كاميرات الأمن في السينما لبهو الصالات، والتي سجلت هلعاً جماعياً مخيفاً للذين كانوا في الصالات وقتها وبعد سماعهم إطلاق النار.

وحسناً فعل الفيلم عندما وسع اهتمامه الإنساني بأهل ضحايا العنف المسلح بالمطلق، ولم يركز فقط على قصص عوائل فقدت أحباءها في حوادث إطلاق نار شهيرة تقصدت تجمعات عامة وطلاب مدارس، ليشمل ما يحصل كل ساعة في الولايات المتحدة من حوادث فردية، يذهب ضحيتها العشرات. ذلك أن هذه الأخيرة والتي لا تستأثر باهتمام إعلامي كاف على خلاف حوادث إطلاق النار الجماعية التي يقوم بها في الغالب مخبولون، هي الأكثر فداحة وخطورة. يقابل الفيلم عوائل ضحايا حوادث عنف مُسلح في مدينة شيكاغو، وجلّهم من الأمريكيين السود، ويتابع نشاطهم المتواصل منذ سنوات في الضغط على الحكومة ومصانع الأسلحة من أجل مزيد من التشريعات لتقنين بيع الأسلحة.
في شقه الذي يتعلق بالتحقيق في حال تجارة السلاح في الولايات المتحدة، يَقلب الفيلم التسجيلي أحجاراً كثيرة، ويطرح أسئلة، ويكشف عن ظواهر بعضها لا يصدق لعبثيته، فنظام التدقيق الذي تفرضه بعض الولايات الأمريكية على مشتري السلاح أثبت فشله، ومعظم السلاح الذي يتم تداوله وترتكب عن طريقه الجرائم المسلحة، هو الذي يباع في السوق السوداء، أو في المحلات التي تعرف إعلامياً هناك “بالتفاح التالف” والتي تنتشر على طول أمريكا، من الحقائق التي كشف عنها الفيلم أن القوانين الأمريكية لم توقف حتى المسجلين في قوائهما للإرهاب من شراء الأسلحة، كما أن النظام الرقميّ الذي يتم الكشف بموجبه بصلاحية مشتري الأسلحة، فيه ثقوب كبيرة، إذ يفرض النظام على محل بيع الأسلحة بيع الزبون ما يشاء، إذا لم تصل الدائرة القانونية في الوقت محدد لقرار بخصوص سجل المشتري الشخصي، وهو ما يحدث غالباً.

وعلى رغم أن الفيلم يستغرق 100 دقيقة كاملة، إلا أنه كان يمكن أن يطول لمئة أخرى أو أكثر دون أن يفقد حماسه أو تنضب مادته، لتشعب المواضيع والقضايا التي يقاربها، والتنوع والاختلاف الكبير في رؤى الأمريكيين لقضايا السلاح. من الظواهر الغربية التي تلتقطها المخرجة، هو حمل السلاح الثقيل بين رجال ونساء في مدن أمريكية صغيرة، وحتى في حضانات الأطفال والأسواق، خوفا من اعتداءات غير محسوبة. هذه المشاهد وعندما توضع إلى جانب أخرى تظهر هوة الحزن العنيفة التي يعيش فيها أهل الضحايا، تجعل من العسير تصديق أن تجارة السلاح بشكلها الحالي ما زالت من صميم الهوية الأمريكية، ولها من يدافع عنها إلى حدود الاستقتال، حتى أن الفيلم ينقل لقاءات نفسية جماعية، يؤمها أمريكيون من كلا الجنسين للحديث عن إدمانهم على حمل السلاح واستخدامه.
لا يُمكن أن يتخلص أي فيلم تسجيلي جديد يقارب قضية السلاح في أمريكا، من المقارنة الصعبة والتي أصبحت بديهية مع فيلم المخرج المعروف مايكل مور “Bowling for Columbine” (2002)، والذي يشكل لقيمته العاطفية بالدرجة الأساس وجرأته، مرجعية لهذا النوع من الأفلام. تحقق المخرجة ستيفاني سوتيغ فيلماً ضخماً بعدد شخصياته وما يحاول أن يصل إليه وسعة المشهد الواسع الذي تحاول أن تحصره وتسائله. بيد أنه كان يمكن التركيز على قضايا معينة فيه، ومنحها المزيد من الوقت وتقليل عدد الشخصيات التي تمر أمام الكاميرا، لغاية أن تحظى القصص المؤثرة التي مرَّ بعضها بعجالة في الفيلم، بالوقت والاهتمام الذي تستحقه.
تواصل المخرجة ستيفاني سوتيغ بفيلمها الجديد هذا التصدي لقضايا أمريكية وأحيانا كونية (فيلمها ما قبل الأخير عن دور شركات الغذاء العملاقة في الأزمات الصحية التي يواجها كُثِر في الولايات المتحدة والعالم)، وتقدمها ضمن التركيبة التسجيلية الأمريكية الشائعة، التي تتطلع دائماً لإرضاء ذائقة جمهور التلفزيون. كما لا يريد الفيلم أن يترك مشاهديه بدون منحهم فرصة للاشتراك وإفراغ الغضب، ذلك أن موقع الفيلم على الإنترنت يقترح طرقاً عديدة للمساهمة في النقاش الدائر والضغط على الحكومات المحلية لتغيير قوانينها.