“الطريق” .. وجهة الصين الجديدة !
Published On 23/5/2016

قيس قاسم
تاريخ نقل حساسيات المجتمع الصيني إلى العالم عبر فن السينما، حافل وزاخر بالأعمال الكبيرة وبمخرجين، شكّل الجيل الخامس منهم، موجة جديدة سميت بـ”السينما الصينية الجديدة” التي غلب عليها الطابع السياسي النقدي للتجربة “الماوية” ويمكن لتقارب روحه النقدية ورؤيته العميقة لدور السينما في رصدها، ضم وثائقي المخرج “زهانغ زانبو” The Road إليها، مع فارق اهتمامه الأكبر بمرحلة متأخرة من تاريخ الصين قطعت خلالها البلاد مراحل من توجهها نحو الرأسمالية وتخلّيها الفعلي عن ثورة ماو الثقافية لصالح المُضي نحو خصخصة الاقتصاد والانفتاح على الأسواق العالمية، بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، ما يُعدّ مفارقة تاريخية توقفت عندها العديد من الأفلام الوثائقية المتميزة، من ضمنها فيلمه السابق “المُحتَجز من أهل مدينتي” 2012، وكان تميُّزها الأقوى متمثلاً في رهانها على جماليات السينما والحرص على توفر ميزانيات ضخمة تحقق لهم ذلك.
فيلم “الطريق” يتوافق معها كثيراً في جانبه الفني، لكنه يختلف مع أغلبيتها في أسلوبه الخاص المنتمي إلى سينما المؤلف؛ البسيطة الإنتاج عادة والمعتمدة على قدرة صانعها في تحمّل قسم كبير من أعباء بنائها بنفسه.
فـ”زهانغ زانبو” قام بكتابة نص العمل وأشرف على الصوت وتولى بنفسه عملية التقطيع (المونتاج) إلى جانب الإخراج ولولا مساعدة شركة دنماركية بقسط من إنتاجه لكاد الفيلم أن يكون كله باسمه، والغريب أن كل مفردة من مفردات تكوينه السينمائي جاءت بأرفع مستوى، إلى درجة يصعب فيها على المتلقّي تصديق أن مُنفذّها شخص واحد!
يعرف كيف يدير الكاميرا ويُكوّن أجمل المشاهد المأخوذة من أصعب الزوايا لتقدم في النهاية مشهديات بصرية واسعة، احترافيتها طاغية لا تُخطؤها عين، فيما كان “ضبط” الصوت وملاءمة الموسيقى للمشاهد لافتاً ومؤثراً ناهيك عن النص المكتوب على الورق والذي يعكس رؤية كاتبه العميقة لواقع الصين اليوم ويُجسدّه فيلمه بدقة متناهية.
قبل سنوات قليلة أطلقت الحكومة الصينية مشروعا سمته؛ “مشروع البليونات” في إشارة منها إلى المبالغ الضخمة المخصصة لتطوير البنية التحتية، التي أخذت إقامة الجسور وبناء الطرق السريعة بين المدن حصة كبيرة منها.
من بين المشاريع الكبيرة بناء شبكة طرق مواصلات سريعة في مقاطعة “هونان”. أول الطرق كما تقتضي الخطة تبدأ من حقول (أكسو ـ هواي) وتنتهي في منطقة “هويهيدا”. الوثائقي بدوره حدّد مساحة تحرّكه في تلك المناطق وشرع يصور تفاصيل العمل فيها على مدى أشهر طويلة.
سيطلق على كل مرحلة من مراحلها الأربع تسمية خاصة تناسبها من حيث المضمون لا الشكل، وكلها تتجّه نحو التعبير عن العلاقات الناشئة بسبب بناء الطرق السريعة، كالعلاقة المتوترة بين سكان الأرياف وبين الشركة المكلفّة ببنائها، والتي تريد منهم ترك بيوتهم ـ لوقوعها ضمن مساحة مشروعهاـ إلى أي منطقة أخرى.

كُثر من الفلاحين أذعن لأوامرهم، التي كانت تأخذ شرعيتها وقوة تطبيقها من قوة ونفوذ الحكومة والحزب الشيوعي، مع أن الشركات الخاصة كانت هي المستفيد الأول منها لا الدولة. قوة التفجيرات بالديناميت كانت تهزّ الأكواخ وتشيع الخوف في قلوب سكانها أما الرافضون منهم تركها فكانوا يجادلون المشرفين على تنفيذها ويطالبون الشركة بالاتفاق معهم على تفاصيل عمليات التفجير قبل الشروع بها، لا أن يأتوا بعدها ويساومونهم على تعويضات زهيدة مقابلها فيغدو الاحتجاج لا معنى له عملياً.
يكشف الوثائقي عبر ملازمته وتسجيله لكثير من الحوارات الجارية بين سكان القرى وبين المشرف التطبيقي على تنفيذ المشروع عن استهتار الأخير بوجودهم واستخفافه بقيمتهم كبشر لهم الحق في معرفة مصائرهم والطريقة التي تُعامَل بها ممتلكاتهم.
على مستوى أكبر ولتجسيد حجم التدمير المتبّع من قبل أصحاب الشركة للمنطقة وطبيعتها البكر، يسجل بعناد تفاصيل أعمال الهدم والحفر الملازمة لبناء الطريق السريع. ينقل كيف كانت تقلع مكائنهم الضخمة الأشجار وتطمر حفاراتهم الأنهار وتسوي التلال بالأرض، حتى معابدهم لم تخلص منها فهُدمت.
في كل مرحلة من البناء كانت الشركة تعد الذرائع المناسبة وتغدق الوعود على الفلاحين بالحصول على تعويضات مجزية عن خساراتهم فيما كان الناس عملياً يواجهون مصيرهم لوحدهم وكان الحزب يتدخل إذا ما تصاعدت المواجهات بينهم لصالح الشركة لا الناس. يكرس الوثائقي الكثير من جهده لتوثيق العلاقة الخاصة بين أصحاب الشركة وبين ممثلي الحزب، ليشبع جانبه الاستقصائي مع حرص لافت على نقلها بأجمل صورة.
تسجيلاته السرية تفضح مواقف الطرفين وتحالفهما ضد السكان المحليين. وتُظهر كيف ساعد موقف الحزب اللَّين والمتهاون مع الشركات على انتشار الفساد الإداري والحزبي لصالح أصحاب المال. وأثرّ من جانب آخر على سمعة الحزب نفسه بين السكان فغدا بالنسبة إليهم شعاراً فارغاً يشبه الشعارات المرفوعة فوق المؤسسات الرسمية وحتى الشركات الخاصة.
يقسم الوثائقي كل مرحلة من مراحل البناء الأربعة على فصول السنة الواحدة، ليقربنا نفسياً أكثر من تأثيراتها المباشرة على أوضاع العمال المكلفّين بإنجازها.
العلاقة بين العمال وأصحاب شركة “لودي” الخاصة لا تختلف في مضمونها ولا في تطبيقاتها عن علاقات العمل الرأسمالية التقليدية؛ أي الاستغلال البشع للعمال دون رحمة، مع فارق أن تقاليد العمل الجديدة في الصين اليوم تعود في تطبيقاتها إلى المراحل الأولى من الرأسمالية الغربية، أي يوم كانت النقابات مغيبّة ويد المستغلّ حرة والعمال غارقون في جهلهم.
يعرض الوثائقي أمام مُشاهده قصصاً كثيرة جرت وقائعها خلال إقامته مع العمال الثابتين والمهاجرين طويلاً. صوَّر تفاصيلها فجاءت إلينا كشهادة حية على واقع البلاد وشعارات قادتها الجوفاء بالرفاهية والحياة الآمنة للطبقة العاملة. أكاذيب يُعريها الوثائقي حين يقدم مشهديات مذهلة (على مستوى الصورة والمضمون) لحالة العمال وكدحهم ليل نهار في ظروف لا إنسانية يتهددهم الموت في كل لحظة وإذا ما حل سارع أصحاب الشركة لإخلاء مسؤوليتهم عنها، في المقابل نرى نمواً مخيفاً لطبقات جديدة تستثمر التوجه الاقتصادي الجديد لصالحها مفسدة بسلوكها ما تبقى من مؤسسات حكومية وحزبية نزيهة.

يصور الوثائقي آليات تقديم “الرشاوى” أو “المغلفات الحمراء” كما يسميها مستخدموها. يتوقف “الطريق” طويلاً، لتأمل مشهدها الواسع.
علائق جديدة: اقتصادية، سياسية واجتماعية يوثقها “الطريق” ويوثق معها نتائجها عبر كاميرا صبورة ظلت لسنوات تلتقط المتغيرات المجتمعية عبر مشاريع بناء تكثف “الصورة الصينية” الجديدة، التي ما عادت خفية كما كانت من قبل، لكنها تحتاج إلى مزيد من التوثيق والتحليل وإلى عين سينمائية تعرف كيف تلتقط الأشياء الصغيرة والتفاصيل الدقيقية وتعرض دلالاتها الكبيرة على الشاشة، ولعل مشهد الإضراب أو الاحتجاج الذي قام به بعض المصابين من العمال وتهديدهم بالانتحار سحقاً تحت عجلات سيارة نقل كبيرة، واحدة من علامات دهاء سينمائي لافت، اشتغل على عنصر الجلادة.
إلى جانبه وكأسلوب عمل خاص كانت المفاجآت حاضرة. الركون عموماً إلى المفاجأة لا يخلو من متعة وهذا ما أغوى “زانبو” للأخذ بها في وثائقيه. لم تخلُ كل قصة ضمن مسار فصوله الأربعة من ضبابية وحيرة تحيط بنهايتها، لكنه ما يلبث في كشف الحقيقة ليزيد من متعة المشاهد بها، لإدراكه أنها لو جاءت مباشرة فحسب، كقصة التصادم المسلح الذي جرى بين موظفي مؤسسة الطرق المحلية ومعهم الشرطة وبين بعض عمال الشركة، لما كان لها نفس الوقع القوي علينا حين علمنا بتفاصيلها المثيرة.
إصابة بعض سائقي الشاحنات بطعنات سكاكين وضرب بالهروات أدت إلى نقلهم إلى المستشفيات وإجراء عمليات جراحية سريعة لبعضهم ظهرت لنا وكأنها عمل متعمد من قبل رجال الشرطة الذين كلفوا بدورهم “عصابات” متعاونة معهم لمنع عبور شاحنات الشركة على الطرق المحلية دون الحصول على حصتهم من “الكعكة” الحكومية. ظهر أول الأول، وحسب شهادات المطعونين أن الشرطة قد عمدت إلى ذلك من أجل ابتزاز أصحاب المشروع ..

فالفساد غدا هرمياً وعاماً ولهم لهذا الحق في المطالبة بجزء منه. بعد تدخل الحزب وإجباره الشركة والشرطة المحلية على إسقاط دعاواهما وإقناع العمال بالخروج من المستشفيات دون تعويضات طبية، مقابل وعود بضمان علاجهم وحصولهم على رواتبهم كاملة، بدا الأمر عادياً كما تصورناه، ولكن وبعد مماطلة الشركة كعادتها ورفضها دفع استحقاق العمال المصابين هدد بعضهم بكشف الحقيقة والتوجه إلى مراكز الشرطة لتقديم إفادات تؤكد تورط الشركة بها وأنها هي من طالبهم بافتعال المعركة لتتفادى بها دفع رشاوى لهم ولرجال مؤسسة الطرق المحلية. على مستوى الرقابة الهندسية بدا التدقيق الفني الدقيق للمشروع وكأنه سيؤدي إلى توقفه وإجبار الشركة المكلفة به على دفع غرامات مالية كبيرة للدولة بسبب أخطائها المتعمدة، لكننا رأينا بعد لحظات مشهداً لاحتفال كبير ظهر فيه مدير الشركة وهو يقص شريط افتتاح المشروع وبحضور بعض قادة الحزب، الذين قاموا بدورهم بتقديم التهاني له ولما حققته شركته الخاصة من نجاح!.
أين ذهبت العقوبات وما سيحل بالطرق بعد فتحها؟ أسئلة لم يقدم الوثائقي أجوبة عليها واكتفى بإشارات دالّة أوحت بها معلومات ثبتها على الشاشة، قالت؛ إنه ومنذ سنوات قليلة انهار أكثر من ثلاثين طريقاً سريعاً، حديثة الإنشاء، وسقطت عشرات من الجسور الجديدة، ولم تقدم أي من الشركات المكلفة بإنجازها إلى المحاكم!.
بالمقابل وخلال سنوات “عصرنة” الصين لم تتوقف الأغاني عن تمجيد قادة الحزب وسط صمت وسائل الإعلام عما يجري من انتهاكات لازمت التحولات الأيديولوجية الكبيرة، لكن الخنوع للحزب كان طيلة تاريخ الصين السياسي المعاصر سائداً والشعارات البراقة واللافتات الملونة ظلت لعقود تغطي بوابات مصانع البلاد “الاشتراكية” واليوم ترفع على واجهات المشاريع الاقتصادية “الواعدة” بمستقبل باهر للعمال والشغيلة!.