“البائع” .. الانتقام بالإذلال وأشياء أخرى

لقطة من الفيلم الإيراني "البائع"
 
د. أمل الجمل 
 
   “الناس يجب أن تُعاقب بالإذلال العلني”.
جملة كانت بمثابة الضغط على الزناد. جملة فجرّت طاقة الانتقام، واستبدلت الروح المرحة المتسامحة بأخرى متوترة لا يشغلها سوى الثأر وفضح الضعيف المخطئ حتى لو اعترف بجريمته طالبا العفو والمغفرة. جملة أعمت البصيرة وقادتها نحو طريق اللاعودة وفقدان القدرة على التصالح مع النفس. 
  تلك الجملة تقولها إحدى النساء جارة البطل عماد في أعقاب تعرُّض زوجته رنا للاعتداء الذي ترك أثرا نفسيا سيئا عليها وذلك ضمن أحداث فيلم “فروشنده” – Forushande – أي “البائع” للمخرج الإيراني النابغة “أصغر فرهادي” الذي حصد عنه مؤخراً جائزتي السيناريو وأفضل تمثيل رجالي لبطله “شهاب حسيني” الذي جسد دور عماد، من مهرجان كان السينمائي التاسع والستين. 
   عماد ورنا شابين يمثلان – كما في واقع الفيلم –  دور زوجين في مسرحية “موت بائع متجول” للكاتب الشهير آرثر ميلر، وعماد في نفس الوقت يعمل مدرساً ويبدو لطيفاً مع طلّاب،ه له روح مرحة يعرف كيف يمتص محاولات الاستفزاز من الطلاب المراهقين المتعاليين. فجأة يقع التحول في شخصية عماد بعد حادث الاعتداء الذي تعرّضت له الزوجة، فقد دخل إلى الشقة رجلاً قاومته فأصيبت بجروح في النفس والروح قبل الرأس والجبهة التي تعامل معها الأطباء بالحياكة. 
 
لا شيء واضح تماماً
    الحادث الذي قلب الأحداث رأسا على عقب في شريط “البائع” – المنتج بالشراكة بين إيران وفرنسا – لم يكن اقتحاماً، بل خطأ من رنا لأنها فتحت الباب من دون أن تتأكد أن زوجها هو الطارق. يطلب عماد من رنا إبلاغ البوليس لكنها ترفض، وكذلك تطلب منه ألا يخبر الناس بأنها تعرّضت للهجوم مما يُوحي بخجلها وإحساسها بالخزي مما حدث، رغم أنها هي المعتدَى عليها لكن طلبها يشي بالنظرة إلى الجسد التي يغرسها المجتمع في عقل أفراده. يسألها عماد: “هل حدث شيء؟” سؤال يحمل فحواه وقوع اعتداء جنسي عليها من مهاجمها، لكن رنا تنفي، والمتلقي بالطبع لا يعرف على وجه الدقة هل كان هناك اعتداء جنسي أم لا؟ لأنه لم يشاهد الاعتداء أصلا وإنما تم الإيحاء به – فالرقابة الإيرانية تمنع مثل تلك المشاهد – من خلال لقطات الدم في الحمام والممر وبصمات أقدام المجرم على السلالم، ومشهد رأس رنا الغارق في الدم وهي بين أيدي الأطباء، وإن كان في الوقت ذاته لا شيء ينفي تماما أنه كانت هناك محاولة اعتداء خصوصا مع توالي شهادة الجيران عن الضجة في شقة رنا أثناء مقاومة مهاجمها، وتفاصيل أخرى تتضّح تباعا تثير الشكوك لكنها لا تفضّ تماماً الغموض الذي يلف بعض المشاهد وحوار الشخصيات الملتبس أحياناً.
 
   كان يمكن أن ينتهي الأمر ويُغلق الباب، لكن الفاعل أثناء هروبه خشية افتضاح أمره نسي وراءه سلسلة مفاتيح سيارته وهاتفه على المقعد، ومبلغاً من المال وضعه في أحد الأدراج، تفاصيل لاحقا تُسهم في إكمال الصورة، لكن منذ البداية تشي بأنها لم تكن محاولة سرقة وأنه كان أشبه بالدخول الآمن المتكرر، مما يُؤكد أحاديث الجيران عن السمعة السيئة للمرأة صاحبة الشقة. ومن تلك اللحظة يبدأ عماد رحلة البحث عن السيارة وصاحبها المجهول.  
 
النفس الخراب
   الإذلال بالإهانة العلنية والاحتقار صار قرارا اتخذه عماد في سريرته وأصبح يُطبقِّه من دون رحمة أو شفقة كلما أٌتيحت له الفرصة ليُشعر أي مخطئ أو كاذب بالخزي والعار. هذه الرغبة الانتقامية من أين تفجرت وأين كانت كامنة؟ وهل يُصلح الانتقام الأمور والنفوس فيأتي بنتيجة إيجابية في كل المواقف من دون عواقب سلبية على الطرفين؟! أليس “لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه”؟! وهل سيخرج عماد نفسه بعد تلك المحاولات سالماً معافى الروح والسريرة؟ 
   
بعد جملة السيدة جارة عماد في الجراج بضرورة تعريض المخطئ للإذلال على الملأ، ستتفجر طاقة الشر والثأر في قلب البطل، فيبدأ في تطبيق ذلك على أحد طلابه، ثم مع زميله وهما يقفان على خشبة المسرح انتقاماً منه لأنه عندما رشّح لهما هذه الشقة الجديدة لم يخبرهما بالسمعة السيئة لصاحبتها، فيصفه أمام الجمهور – وبشكل خارج عن النص – بأنه جرذ، وبعد انتهاء المشهد يعاتبه الزميل ويطلب منه ألا يكررها لأنها إهانة ويهدده بأنه إذا كررها سيرد عليه على الملأ. ثم يأتي مشهد عماد مع الثأر والإذلال الأكبر بصحبة البائع الذي يُصر على أن يفضحه أمام عائلته فتقول له رنا في دهشة ورعب: “أنت ترغب في الانتقام!”، ثم تهدده إن أخبر أسرة البائع سيكون ذلك نهاية علاقتهما، فكيف يتصرف عماد؟   
 
    عن الكذب يحكي “أصغر فرهادي” في أحدث أفلامه، عن الكذب الذي لا يخلو عملا يحمل توقيعه فيتخذ منه تكأة فنية بالغة المهارة والحنكة لتطوير فكرته وتصاعد أحداثه إلى الذروة غير المتوقعة والنفس الخراب. 
 
هنا أيضاً عبر سيناريو جديد مختلف يحكي عن الكذب الذي يمارسه الجميع في المجتمع الإيراني وربما العالم أجمع، فرنا كذبت عندما نفت أنها رأت وجه المعتدي، وعماد نفسه مارس الكذب مرات عدة مع زوجته ومع الآخرين، وحتى الطفل الصغير يكذب رغم سنوات عمره القليلة، إنه عمل سينمائي عن هذا المجتمع المتدين، بل المتطرّف في تدينه، والمتشدد إلى أقصى حد ومع ذلك يُمارس أفراده الكذب ليلاً ونهاراً، بقصد أو من دون قصد، أحياناً لحماية أنفسهم، وأحياناً بسبب الكسل، أو لتسيير أمورهم وتفادي تعنُّت الآخرين، أو لعدم الرغبة في فتح أبواب الجحيم عليهم، وأحياناً أخرى يُمارسونه لمساعدة الآخر من دون أي قصد سيء، فهل يتحول الكذب أو لنقل “الإخفاء والتخبئة” إلى رذيلة في جميع الأحوال؟!. وماذا عن شخصية زوربا اليوناني وأكاذيبه الصغيرة التي كان يُسعد بها الآخرين؟!   
 
بلاغة الميتافور 
   الفيلم البالغ زمنه السينمائي ساعتين وخمس دقائق يبدأ من لقطات جميلة بإضاءة بعض من تفاصيل المسرح استعداداً لبروفة “موت بائع متجول”، ثم يعقبها الضجة المفاجئة لإخلاء العقار الذي يسكنه البطلين بسبب الشروخ التي أصابته، وأثناء ذلك نرى عماد وهو يساعد جيرانه في الإخلاء إذ يعود مسرعاً تلبية لنداء امرأة مُسنّة ليحمل ابنها الشاب العاجز عن الحركة، ثم تنتقل الكاميرا إلى جرافة تحفر عميقاً بجوار المبنى ثم نرى الشروخ وهى تضرب زجاج النوافذ أمامنا. 
من هنا يبدأ الميتافور عند فرهادي في أحدث أعماله السينمائية، فعملية نبش الزوج وحفره المتوالي أثناء استجواب المعتدي التي تخلّى فيها عن الرحمة والمغفرة وأغلق أبواب التصالح المشرعة أمامه كانت تماماً بكل نتائجها مثل ذلك المشهد الافتتاحي بالمنزل القديم المتصدِّع بنائه، والذي يعود إليه المخرج لاحقاً لتدور وقائع المشهد الانتقامي الأكبر للتأكيد على الرمزية التي يقصدها، فحياتهما كما ذلك البناء لم يهدم تماماً، لكنه أيضاً لم يعد صالحا للإقامة، لم تنهدم علاقتهما لكنها لم تعد – وربما لن تعود أبداً – كما كانت. 
    الميتافور أيضاً يتجسد في اختياره لمسرحية “موت بائع متجول” لآرثر ميلر التي جاء عنوانها غير معرّفاً ليشمل كل بائع متجول، بينما جاء عنوان فرهادي مُعرفاً بأل التعريف لأنه كان يتحدث عن بائع محدد يتقاطع مع بائع ميلر في كونه إنسان من دون قيمة في نظر الناس، تماماً كما في المسرحية.
 
    باستثناء اللقطات الأولى الخاصة بإخلاء المنزل يبدو الإيقاع متمهِّلاً وتسير الأحداث بوتيرة عادية هادئة وتقريباً لا يحدث أي شيء لافت على مدار نحو 25 ق من بداية الفيلم إذ تتوالى اللقطات التي تُقدِّم الشخصيات وتُعرِّف بها وتغرس تفاصيل تُمهِّد لما سيحدث لاحقاً، بعد ذلك يقع الحادث الذي يُغيِّر مجرى الأمور ويُطور الشخصيات فيكشف جوهرها، فيسير بقية العمل مرواحا بين الصعود والهبوط، بين التوتر والهدوء إلى أن يصل إلى الذروة غير المتوقعة، والتي تخللها قليل من لحظات البهجة والسعادة التي خففت من وطأة الحدث مثل وجود مشهد الطفل ومرحه الذي يدخل البهجة على قلب الزوجة فيبدل من مزاجها وبالتالي ينعكس الأمر على الزوج، فيضع الموسيقى ويظهر جانب آخر رومانسي لشخصيته أثناء مرحه مع الطفل، وغنائه، وذلك قبل أن يتعكر الصفو ثانية فيتوقفون عن الأكل ويلقون بالطعام في سلة المخلفات بسبب شبهة أنه “حرام” ونظرة الطفل الممزوجة بالفزع والخوف وعدم الفهم على وجهه وهو يتأملهما سوياً وردود فعلهما.  
 
    يُميز بوضوح سيناريوهات أصغر فرهادي قدرته الفنية العالية الصدق على رسم شخصيات إنسانية تحمل بداخلها جوانب للخير لا تنفي وجود الشر الكامن في الأعماق، يُميزه أيضاً قدرته على استخراج لحظات الضعف الإنسانية والطيبة من دواخل الشخصيات الفاسدة. ولذلك لم يكن مثيراً للدهشة حصول فيلمه “البائع” على جائزة أفضل سيناريو من مهرجان كان التاسع والستين، لترتفع حصيلة الجوائز التي حصدها فرهادي حتى الآن إلى 74 جائزة و48 ترشيحاً – وهو لم يتجاوز الرابعة والأربعين من العمر – عن أعماله التي قدّمها للفن السابع ولازالت قابعة مترسخة في العقول والقلوب من قوة جمالها رغم الألم الذي تنثره على الشاشة الكبيرة ومنها “حول إيلي”، “مدينة جميلة” و”الماضي” و”انفصال” الذي نال وحده 77 جائزة منها أوسكار أفضل فيلم أجنبي 2012، وأربعة جوائز من مهرجان برلين السينمائي عام 2011 منها الدب الذهب، وجوائز عدة لبطليه، إضافة إلى 42 ترشيحا لجوائز أخرى.   

إعلان