ثنائية الآباء والأبناء في أفلام “كان”

لقطة من الفيلم الروماني "بكالوريا"
 
أمير العمري
 
من “التيمات” الرئيسية التي ظهرت في عدد كبير من أفلام المسابقة الرسمية في الدورة الـ69 من مهرجان كان السينمائي، “تيمة” العلاقة بين جيل الآباء (أو الأمهات) والأبناء، وكيف يصبح اهتمام الأم أو الأب بمصير الأبناء، هاجسا معذبا، قد يدفع الأمور في اتجاه يقود إلى السقوط. 
في فيلم “بكالوريا” للمخرج الروماني كريستان مونجيو، الشخصية الرئيسية هي شخصية الأب، وهو طبيب اقترب من التقاعد، لديه ابنة وحيدة تستعدّ لدخول الامتحانات النهائية لنيل شهادة “البكالوريا” (أو الثانوية العامة).. يريدها أن تسافر بعد ذلك إلى بريطانيا للالتحاق بالدراسة الجامعية هناك. تسيطر على الرجل فكرة النجاح والتفوق، يريد أن يضمن بأي ثمن، تفوق ابنته حتى يضمن قبولها في الجامعات البريطانية، وهو يلجأ بالتالي إلى بعض الأساليب التي تعتبر غير قانونية، لكنه يراها مجرد “خدمات بسيطة” متبادلة بين أناس في مناطق النفوذ أي تعتمد أساسا على الوساطة والمحسوبية. 
 
يتخذ الفيلم من هذا المدخل وسيلة لكشف الفساد في المجتمع الروماني، ولكن دون أن يُصدر حكما على الرجل، بل على العكس فهو يُقدّمه بنوع من التعاطف والتفهُّم الكبير لدوافعه، بينما يجعل الابنة تقف عاجزة عن تقبُّل وفهم ما يقوم به والدها من أجلها، بل تريد أن تستقلّ وأن تصبح وحدها صاحبة القرار حتى لو كان معنى ذلك التوقف عن مواصلة المشوار والتراجع عن ذلك الطموح العلمي والمستقبلي. 
الفكرة الأخلاقية هي محرك العمل، والتساؤل عن الدوافع هنا لا مجال له، فنحن بصدد التفكير في نسبية القانون ومغزاه أمام مشاعر أب في علاقته بابنته الوحيدة التي يحبها أكثر من أي شيء في العالم، ولكن هل يمكن أن يصبح هذا الحب مبررا لممارسة بعض التجاوزات. كلها أفكار يثيرها هذا العمل الكبير الذي يتميز بالتعبير السينمائي البليغ.
 
أما المخرج الإسباني بيدرو المودوفار، فهو يصور في فيلمه “خوليتا” معاناة أم تركتها ابنتها قبل 12 سنة، وانقطعت أخبارها عنها تماما إلى أن تذكرتها أخيرا فأرسلت لها رسالة، دفعت الأم إلى مراجعة شريط حياتها من البداية، من قبل أن تنجب تلك الابنة، وكيف مات والد الفتاة في حادث غرق، ثم ارتباط الابنة بعالم الروحانيات وتفضيلها اعتزال الحياة العادية، ثم الاختفاء الطويل، قبل أن تتلقّى الأم ما يفيد أنها أنجبت ثلاثة أبناء. لكن اللقاء بينهما لا يتم أبدا. ويتعين على الأم أن تقضي بقية حياتها تعيش فقط على ذكريات الماضي. 
هنا يصبح الانفصال بين الأم والابنة، كأنه فعل قدري قادم من المجهول .. أو بموجب معتقدات معينة لا يُحدّدها الفيلم، تجعل المرء يتخلى عن أقرب الناس إليه، ويفضل حياة منفصلة ومستقلة تماما عمّن أتى به إلى الحياة.
لقطة من فيلم "أنا دانييل بليك"
وفي الفيلم البريطاني “أنا دانييل بليك” يضع المخرج كين لوتش في بؤرة الفيلم إلى جانب بطله النجار العجوز الذي يكافح كفاحا مريرا ضد بيروقراطية نظام الضمان الاجتماعي، امرأة شابة مسؤولة عن إعالة طفليها، لكن مع انتقالها من لندن إلى نيوكاسل، تنقطع المنحة التي كانت تحصل عليها من الضمان الاجتماعي، فتعاني من شظف العيش وتضطر لاختلاس بعض المواد الغذائية من أماكن التسوق مما يُعرّضها للوقوع في الكثير من المشاكل، وعندما يستبد بها الجوع تتوجه إلى أحد مراكز مساعدة الفقراء أو ما يطلقون عليه “بنك الطعام” للحصول على بعض المواد الغذائية، بما يعكسه ذلك من مهانة شديدة تجعلها تنهار بعد أن تتناول محتويات علبة من علب الخضراوات بصورة تكشف عن معنى وصول الجوع بالإنسان إلى حد مهين. ومع تفاقم أزمتها وعجزها عن الحصول على ما يكفي تسقط في مستنقع بيع الجسد بعد أن أصبح هذا هو الطريق الوحيد أمامها لإطعام طفليها.
 
أما الفيلم البرازيلي “أكواريوس” (أو برج الدلو) فبطلته صحفية متقاعدة في الخامسة والستين من عمرها، تقيم في شقة فخمة تطل على البحر مباشرة، تريد إحدى شركات المقاولات إخراجها من شقتها بعد أن أخرجت السكان جميعا، من أجل هدم المبنى القديم وبناء برج تجاري حديث، لكنها ترفض وتتشبّث بالبقاء في شقتها التي أنجبت فيها أبناءها جميعا الذين كبروا الآن واستقلّوا بأنفسهم وأصبحوا لا يستطيعون أن يفهموا تشبثها العنيد بالشقة، لكنها تواجههم بكون هذه الشقة هي مخزن ذكرياتها وحياتها وفيها أنجبتهم جميعا وتولّت تربيتهم إلى أن كبروا، وهي تصل في مواجهتها مع المسؤولين في الشركة إلى أقصى مدى، وتنتصر عليهم بحنكتها وقوة إرادتها.
 
وتتركز الدراما في الفيلم الفلبيني “ماما روزا” على شخصية “روزا”، وهي امرأة في منتصف العمر، متزوجة وتعول ثلاثة أبناء، تعيش حياة الفقر المدقع في أحد الأحياء الهامشية البائسة في مانيلا، تبيع بعض الأشياء الصغيرة مع زوجها، وتضطر تحت وطأة الفقر إلى توزيع المخدرات سرا. يقبض عليها رجال الشرطة مع زوجها بعد عثورهم على المخدرات لديها، لكنها تفاجأ في قسم الشرطة بأنهم يطلبون منها دفع مبلغ مالي كبير مقابل إطلاق سراحها مع زوجها، ثم يرغمونها على الوشاية بالموزِّع الذي تتعامل معه ويقبضون عليه في كمين مدبر تشترك فيه معهم مرغمة، ثم يطالبونه بدوره بتسديد مبلغ مالي مقابل إطلاق سراحه، ثم يرغمونه على الكشف عن التاجر الذي يعمل لحسابه، وهكذا في سلسلة متواصلة من عمليات الاعتقال بغرض الابتزاز.
    

لقطة من فيلم "ماما روزا"
الجانب الأكبر من الفيلم يتركز على تصوير معاناة أبناء روزا الثلاثة من أجل تدبير المبلغ المالي المطلوب بشتى الطرق، وهنا يكشف الفيلم عن مدى ما وصل إليه المجتمع من انحطاط أخلاقي، بعد أن يكشف الفيلم عنف الشرطة ضد البؤساء، واستغلالهم لنقاط ضعفهم، وضلوع كبار المسؤولين في الشرطة في شبكة فساد لا يمكن لأحد أن يخترقها. 
فيلم “ماما روزا” يتميز بطابعه شبه التسجيلي، بينما يتميز فيلم المودوفار “جولييتا” بأجواء مخرجه الروائية المألوفة، وهو البارع في نسج خيوط حكاية من داخل حكاية أخرى، متوقفا في حيرة وتساؤل معذب أمام معنى القدر، وحدود الاختيار الانساني.
 ويطغى البعد الواقعي الصارم على فيلم كين لوتش “دانييل بليك”، الذي يصل إلى أقصى ما يمكن في هجائه لسياسة المحافظين التي جعلت الفقراء أكثر فقرا. ونفس تلك الواقعية مع لمسة إنسانية بعيدة عن الرسائل المباشرة، هي ما يميز الفيلم الروماني “بكالوريا”.
 
وموضوع العلاقة بين الأب والابنة هو الأساس الدرامي الذي يقوم عليه الفيلم الألماني “توني إيردمان” للمخرجة مارين أده، التي تشوبها انعدام القدرة على التواصل، فالأب تقدم به العمر وأصبح في حاجة إلى الشعور بحنان الابنة بعد أن ماتت زوجته ثم مات أيضا كلبه الأثير مؤخرا، أما الابنة الشابة فقد اتخذّت لنفسها مسارا عمليا في الحياة، فهي تعمل لحساب شركة من شركات الانشاءات الجديدة، تتصف شخصيتها بالجدية والصرامة، لا تقيم وزنا كبيرا للمشاعر، بل إنها تترك ألمانيا للعمل في فرع الشركة في بوخارست برومانيا، بحثا عن تحقيق طموحاتها.
لقطة من فيلم "توني إيردمان"
يلحق بها والدها هناك لقضاء بعض الوقت معها، لكن سرعان ما يعاني من انشغالها عنه، فيقرر الرحيل ثم يعود متنكرا في شخصية رجل أعمال، عابث، محب للحياة، ينثر الفوضى حوله أينما حلّ، يريد أن يدخل البهجة والسرور على قلب الابنة، يرغب في أن ينقل إليها معنى أن الحياة بكل هذا التجهم والصرامة لا تساوي أن نعيشها، فما معنى أن يمضي قطار العمر لنكتشف بعد فوات الأوان أننا لم نتذوق طعم السعادة والمرح.
فيلم “توني إيردمان” عمل بديع، منسوج ببراعة، فيه الكثير من المشاهد التي تولد الضحك بسبب تصرفات الأب في تقمصّه لشخصية عبثية تصل إلى درجة الخبل والجنون، كما فيه الكثير من اللحظات الشاعرية التي تدفعنا إلى التفكير في معنى حياتنا، وعلاقتنا بالعالم.
 
انشغال السينما العالمية بالعلاقة بين الأبناء والآباء لاشك أنه يعكس وجود فجوة ما بين الأجيال، ربما تكون التكنولوجيا الجديدة قد ساهمت في تعميقها، وربما تكون عوامل الفقر والفاقة والمعاناة سببا إضافيا في دفع الآباء إلى التضحية بأنفسهم من أجل حياة أفضل لأبنائهم. ورغم كل شيء يبقى المعنى قائما: أننا لن نستطيع أن نعيش في عزلة عن بعضنا البعض، والأولى أن ننظر إلى أقرب الناس إلينا ونحاول أن نفهم مشعرهم واحتياجاتهم النفسية ونمنحهم بعض الأمل. 

إعلان