يوميات السفيرة الأوروبية في البلد العربي المضطرب
محمد موسى
رافقت المُخرجتان الهولنديتان “ميرال أوسلو” و “ماريا موك” سفيرة بلدهن في لبنان “هيستر سومسن” لأشهر طويلة، وسجلتا اليوميات الرسمية للدبلوماسية الغربية في لبنان، البلد الذي يموج ويتصارع فيه منذ عقود عديدة مفردات وقوى الحداثة والقبلية، والعلمانية والسلطات الدينية، ليبدو دائماً وكأنه يسير على حافة الوادي العربي المُشتعل، والذي سقط فيه مراراً من قبل، وأضحى هذا “الوادي” منذ الثورة السورية قبل خمسة أعوام، هاجساً وكابوساً يومياً. تجمع المخرجتان تفاصيل شديدة التشويق من الفترة التي قضتاها في البلد العربي، والتي ستشكل مادة فيلمهما التسجيلي الطويل الذي يحمل عنوان “بريد بيروت”.
والحال أن الإطلالة النادرة على العمل الدبلوماسي الغربي في المنطقة العربية التي يوفرّها الفيلم، ستكون أحد عناوين العمل التسجيلي العديدة، ذلك أن هذا الأخير سيتوسع ليشمل عناونين أكبر، منها أزمة لبنان والمنطقة المحيطة به بعد صعود “داعش”، الذي زاد من قتامة المستقبل وأشعل كراهيات مكبوتة في المجتمع اللبناني، ومعضلة اللاجئين السوريين، ودور أوروبا في تضميد جراح هذه المنطقة من العالم، إضافة إلى ما يكشفه الفيلم من كواليس العمل في سفارة دولة أوروبية صغيرة، تسعى رغم الإمكانيات المحدودة، أن تنشر قيما إنسانية وعصرية ما، وتقدم المساعدات بكل أنواعها، وتصل بين الأضداد اللبنانيين.
كانت الأبواب مفتوحة (أو هكذا بدت في الفيلم) للمخرجتين في تسجيل لحظات رسمية عديدة للسفيرة في بناية السفارة الهولندية في العاصمة اللبنانية بيروت، أو في جولاتها العديدة في لبنان. حتى أن الفيلم سجل مواقف ولقاءات تحاط في العادة بالسريّة، كورشة العمل التي أدارها خبير أمني هولندي لضباط جوازات اللبنانيين، والتي كان موضوعها تزوير جوازات السفر للوصول إلى أوروبا. وكما الحوارات داخل السفارة عن الجانب الأمني على وجه الخصوص. على الأرجح مرّت عمليات التصوير ضمن القنوات الرسمية البديهية التي لا تريد أن تخاطر بسلامة العمل الذي تضطلع به السفارة، والأكيد أن النسخة النهائية للفيلم خضعت بدورها إلى مراجعة أخرى، حتى يتم التأكد من خلوه من أيّ تفصيلة تعرض سلامة الشخصيات التي مرّت في الفيلم إلى الخطر.
يرتكز بناء الفيلم على تسجيل اليومي الرسمي لنشاطات السفيرة، والتي ستظهر في معظم مشاهد الفيلم، إلى جانب مشاهد قليلة فقط رافقت فيها الكاميرات موظفين في السفارة الهولندية ومنهم لبنانيون. تنتمي السفيرة إلى نمط خاص من المدراء الجدد، الذين يديرون دفة مؤسساتهم بصرامة تغطيها ابتسامات لا تكاد تفارق وجوههم. يبيّن الفيلم الجهود التي تبذلها السفيرة يومياً للتمكّن من قراءة المشهد اللبناني المعقد من حولها، فهي تعلمت العربية حتى تنسجم مع المحيط، كذلك تنتهز أيّ فرصة تواصل مع لبنانيين عاديين، للاستفسار والنبش في تفاصيل ما يجري، حتى أن مشاهد حواراتها مع سائقها اللبناني سيكون لها حصة مُهمة في الفيلم، فهو سيمثل عينة للشارع اللبناني العادي. والسائق ذاك لن يجامل السفيرة، بل سيكشف أحياناً عن هواجس ومخاوف شخصية مما يجري في بلده، وبالخصوص في قضايا اللاجئين السوريين الذين يعيش منهم ما يقارب المليونين في البلد الصغير بجغرافيته وموارده.
لا تهدأ السفيرة أو يتوقف نشاطها. م�� طرابلس المدينة اللبنانية التي تصدرّت الأحداث قبل عامين بسبب العنف الذي تفجر فيها، إلى آخر نقطة حدودية لبنانية مع الدولة السورية، تتنقل السفيرة الهولندية بهمة عالية. بعضاً من النشاطات التي نقلها الفيلم له علاقة بوظيفتها، والبعض الآخر بدا رغبة شخصية في فهم التعقيد اللبناني، لغرض إدامة الحوار كما وصفته بين بلدها والقارة التي تنتمي إليها من جهة وجميع القوى اللبنانية. يبدو التململ أحياناً على السفيرة في بعض لقاءاتها الرسمية، بخاصة تلك التي تعثرت سريعاً بالمجاملات والتفسيرات النمطية، كالحوارات التي أجرتها مع شخصيات دينية من مختلف الطوائف والأديان، إذ بدت تلك الشخصيات العامة اللبنانية مهمومة بتلميع صورة ضبابية عن “الوحدة اللبنانية”، أكثر من الغوص في تعقيدات العلاقات المتوترة بين الطوائف التي تؤلف المجتمع اللبناني.
يلتقط الفيلم الكثير من اللحظات الإنسانية ويبرزها، لتكسر جمود وكليشيهات اللقاءات الرسمية. فعندما تزور السفيرة وحدة عسكرية لبنانية، كان رفيقها الضابط الهولندي، يلقنها أصول التصرف العسكري. يلتقط ميكروفون الفيلم تلك المحادثة التي تكشف عن إنسانية السفيرة. كما أن هذه الأخيرة ستكشف لمترجمتها أنها تريد أن تتملص من وجبة غذاء جديدة تنتظرها في وجهتها القديمة، إذ لا قبل لها على الأكل مجدداً في بلد تنتهي معظم لقاءاته الرسمية بوجبة طعام. كما يرافق الفيلم جهود موظفي السفارة لزرع أشجار في الساحة المقابلة لبنايتهم، حتى تحمي ظلالها السوريين الذين يصلون يومياً إلى السفارة وينتظرون ساعات تحت الشمس من أجل معاملات الالتحاق بأهلهم الذين وصلوا قبلهم إلى البلد الأوروبي.
لا تحيد المخرجتان عن مقاربتهما التي ترتكز على فعل المراقبة والتسجيل المجرد، وتتجنبان التدخل حتى في مواقف كان يمكن تدخلهما فيها أن يغير بوصلة النقاشات والجدلات الدائرة أمام كاميراتيهما. هذه الصرامة الأسلوبية أهدرت فرصاً لا تعوض لكسر جمود تلك المناسبات، كما في اللقاء الذي دار بين وزير التربية والتعليم اللبناني إلياس بو صعب والسفيرة الهولندية، والذي كان يحاول فيه أن يستأثر بلده على حصة كبيرة من ميزانية المساعدات الهولندية التي خصصت لمنطقة الشرق الأوسط، دون أن يتحدى أحد مطالبه والتي كانت عنيفة بعض الشيء، ويذكره بسجل الحكومة اللبنانية مع الفساد الإداري، إذ يحتل البلد دوما مراتب متقدمة ضمن قوائم الدول التي تذهب الكثير من أموالها ومواردها إلى جيوب حكامها ووزرائها.